كيف يمكنني أن أصف في بضع صفحات الطابع المميز لعالم غفير وعظيم يختلف عن عالمي أشد الاختلاف ويشبهه أشد الشبه في الوقت ذاته؟ فهنا، يولد الأطفال كل ساعة مثلما يحدث على كوكبي. وهنا أيضا كهناك، كانوا يطالبون بالغذاء، وقريبا جدا سيطالبون بالصحبة. لقد اكتشفوا ماهية الألم والخوف والوحدة والحب. لقد كبروا وقد شكلتهم ضغوطات من أقرانهم إما قاسية أو هينة، فإما أن يصبحوا جيدي التربية، كرماء، متزنين، أو معاقين ذهنيا حانقين وانتقاميين عن غير قصد. وجميعهم دون استثناء كانوا يتلهفون باستماتة على نعيم الرفقة الحقيقية، وقليلون جدا هنا، ربما حتى أقل من نظرائهم في عالمي، هم من وجدوا ما هو أكثر من نكهته المتلاشية. كانوا يعوون مع القطيع ويصيدون مع القطيع. ومن سغبهم المادي والعاطفي، كانوا يتشاجرون على الصيد ويقطع كل منهما الآخر إربا؛ إذ جنوا من الجوع ماديا أو ذهنيا. أحيانا كان بعضهم يتوقف ويتساءل عن الغاية من كل هذا؛ ومن ثم تتبع ذلك معركة من الكلمات، وما من إجابة واضحة. فجأة يصيبهم الهرم وينتهون، ولأن الفترة الممتدة من الميلاد إلى الوفاة محض لحظة لا تحس في الزمن الكوني، فقد كانوا يتلاشون.
ولأن هذا الكوكب من النوع الأرضي في جوهره، فقد أنتج سلالة بشرية في جوهرها، أو بشرية من نوع مختلف عن النوع الأرضي، إذا صح التعبير. كانت هذه القارات متنوعة كقارتنا، وكانت تسكنها سلالة متنوعة كالسلالة البشرية. جميع ما يظهر في تاريخنا من أنماط الحياة الروحانية وسماتها كان له ما يكافئه في تاريخ البشر الآخرين. ومثلما هو الحال لدينا، فقد كانت هناك عصور مظلمة وعصور تنوير، مراحل من التقدم وأخرى من التأخر، ثقافات تسود فيها النزعة المادية، وأخرى يغلب عليها الطابع الفكري أو الجمالي أو الروحاني. وقد كانت هناك أعراق «شرقية» وأخرى «غربية». كانت هناك إمبراطوريات وجمهوريات وديكتاتوريات. غير أن كل ذلك كان مختلفا عما يوجد على الأرض. العديد من الاختلافات كان سطحيا بالطبع، غير أن بعضها كان جوهريا وعميقا واستغرق مني فهمها وقتا طويلا، ولكني لن أصفها الآن. لا بد لي أن أبدأ بالحديث عن التركيب البيولوجي للبشر الآخرين. لقد كانت الطبيعة الحيوانية تكمن في صميمهم مثلنا إلى حد كبير. كانوا يستجيبون بالغضب والخوف والكراهية والرقة والفضول وغير ذلك مثلما نستجيب. لم يكونوا يختلفون عنا في الحواس سوى أنهم كانوا أقل حساسية لرؤية الألوان وأكثر حساسية لرؤية الأشكال مقارنة بنا. لقد بدت لي الألوان الفاقعة في الأرض الأخرى عبر عيون سكانها الأصليين باهتة للغاية. وقد كانوا ضعاف السمع أيضا بعض الشيء؛ فبالرغم من أن أعضاءهم السمعية كانت حساسة للأصوات الخافتة بقدر حساسيتنا لها، لم تكن تحسن التمييز. إن الموسيقى التي نعرفها لم تتطور قط في هذا العالم.
عوضا عن ذلك، تطورت حاستا الشم والتذوق لديهم على نحو مذهل. لم تكن هذه الكائنات تتذوق بأفواهها فحسب، وإنما بأيديها التي كانت رطبة وسوداء حينذاك، وبأقدامها أيضا؛ ومن ثم فقد وهبوا تجربة ثرية وحميمية للغاية مع كوكبهم. لقد كانت مذاقات المعادن والأخشاب والأراضي الحامضية والحلوة والعديد من الصخور وذلك العدد الضخم من النكهات القوية أو الخفيفة للنباتات تتهشم تحت أقدامهم العارية المسرعة، مما شكل عالما بأكمله لا يعرف البشر الأرضيون عنه شيئا.
الأجهزة التناسلية كانت هي أيضا مزودة بأعضاء للتذوق. كانت هناك العديد من أنماط السمات الكيميائية المميزة لكل من الذكور والإناث، وكل منها يثير جاذبية الجنس الآخر بشدة. كان يمكن تذوق هذه السمات على نحو خافت من خلال لمس الأيدي أو الأقدام بأي جزء من أجزاء الجسد، ويكون تذوقها بشدة مذهلة في الجماع.
إن هذا الثراء المدهش في الخبرة التذوقية قد جعل من الدخول إلى أفكار البشر الآخرين بشكل كامل أمرا شديد الصعوبة بالنسبة إلي. فقد كان التذوق يمثل جزءا مهما للغاية في خيالهم وإدراكهم، بقدر ما كانت حاسة البصر مهمة بالنسبة إلينا. العديد من الأفكار التي كان الإنسان الأرضي يتوصل إليها عن طريق البصر، والتي لا تزال تحمل بعض آثار أصلها البصري حتى في أكثر أشكالها تجردا، كان البشر الآخرون يتصورونها من خلال التذوق. فكلمة «لامع» التي نستخدمها لوصف الأشخاص والأفكار، يترجمونها بكلمة معناها الحرفي هو «لذيذ». وبدلا من كلمة «صاف» يستخدمون مصطلحا كان الصيادون في العصور البدائية يستخدمونه للإشارة إلى مطاردات الصيد بالتذوق التي تؤخذ جريا. أما «الإشراق الإلهي» فقد كانوا يعبرون عنها بمصطلح «تذوق مروج السماء». العديد من مفاهيمنا غير البصرية كانوا يعبرون عنها من خلال التذوق أيضا. كانوا يشيرون إلى «التعقيد» بمصطلح «متعدد النكهات» وهو مصطلح كان يستخدم في الأساس للتعبير عن تشوش المذاق حول بركة شرب تتردد عليها العديد من أنواع الحيوانات. أما كلمة «التنافر» فقد كانوا يعبرون عنها بكلمة مشتقة من كلمة تعني الاشمئزاز الذي كان يشعر به بعض أنواع البشر بعضهم تجاه بعض بسبب نكهاتهم.
الاختلافات بين الأعراق، والتي كانت تتجسد في عالمنا في المظهر الجسماني بصورة أساسية، كان جميعها تقريبا يتمثل لدى البشر الآخرين في المذاق والرائحة. ولأن أعراق البشر الآخرين كانت أقل تمركزا بكثير في مواقع محددة مقارنة بأعراقنا، فقد شكل الصراع بين الجماعات التي كانت نكهاتها بغيضة بعضها لبعض دورا عظيما في التاريخ. فقد نزع كل عرق إلى الاعتقاد بأن نكهته هي التي تمثل جميع الصفات الذهنية الراقية، وأنها علامة يمكن الاعتماد عليها بالتأكيد للدلالة على القيمة الروحانية. وقد كانت الاختلافات في المذاق والرائحة في العصور السابقة علامات حقيقية على الاختلافات بين الأعراق بكل تأكيد، أما في العصور الحديثة، وفي المناطق الأكثر تطورا، فقد حدثت تغيرات كبيرة. ليس الأمر أن الأعراق ما عادت تتمركز في أماكن محددة فحسب، بل تسببت أيضا الحضارة الصناعية في حدوث مجموعة من التغيرات الجينية لم تترك للفروقات العرقية القديمة أي جدوى. وبالرغم من أن هذه النكهات القديمة لم تعد تحمل الآن أي دلالة عرقية على الإطلاق، والواقع أن أفراد العائلة الواحدة قد يحملون نكهات يجدونها كريهة على نحو متبادل، فقد ظلت تنتج الآثار العاطفية التقليدية. في كل بلد كانت هناك نكهة محددة تعد هي السمة المميزة للعرق السائد في ذلك البلد، ويعد ما سواها من النكهات بغيضا إن لم يكن بالفعل مستهجنا.
في البلد الذي ألممت بأكبر قدر من المعرفة عنه، كانت النكهة العرقية القويمة نوعا من الملوحة لا يمكن للإنسان الأرضي أن يتصورها. كان مضيفي ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم ملح الأرض نفسه، لكن الحقيقة أن أول ريفي «سكنته» كان هو الرجل الملحي الوحيد الأصلي الخالص الذي ينتمي إلى النوعية القويمة ممن قابلتهم. أما الغالبية العظمى من مواطني هذا البلد فقد كانوا يكتسبون المذاق والرائحة الصحيحين بسبل صناعية. وأولئك الملحيون بعض الشيء على الأقل وينتمون إلى إحدى النوعيات الملحية وإن لم تكن المثالية، كانوا دائما ما يفضحون خداع جيرانهم من ذوي اللذوعة أو الحلاوة أو المرارة. من سوء الحظ أنه بالرغم من إمكانية إخفاء مذاق الأطراف بدرجة مناسبة، لم يكن من الممكن تغيير نكهة الجماع؛ ولهذا فقد كان حديثو الزواج عرضة لأن يكتشفوا بشأن أحدهم الآخر الاكتشافات الأكثر تدميرا في ليلة الزفاف. ونظرا لأنه في الغالبية العظمى من الزيجات لم يكن لدى أي من الطرفين النكهة القويمة؛ فقد كان كلاها مستعدا لأن يتظاهر أمام العالم بأكمله بأن كل شيء على ما يرام، غير أن ذلك غالبا ما كان يتحول إلى تنافر مقزز بين نوعي المذاق. تفشت الاضطرابات العصبية في الجماعة السكانية بأكملها نتيجة لتلك الزيجات المأساوية السرية. وفي بعض الأحيان، حين يكون أحد الطرفين ينتمي إلى النكهة القويمة بدرجة ما، فإن هذا الشريك الملحي الأصلي يندد ساخطا بالطرف المحتال، وعندئذ تشترك المحاكم والنشرات الإخبارية والجمهور في احتجاجات يقوم بها من يظنون أنهم الأقوم أخلاقيا.
بعض النكهات «العرقية» كانت جلية للغاية فلم يكن يفلح إخفاؤها. إحداها على وجه التحديد، وقد كانت تشبه الحلاوة المرة، كانت تعرض مالكها للاضطهاد المفرط في جميع البلدان خلا أكثرها تسامحا. في الماضي، جنى العرق الحلو المر سمعة من المكر والانتهازية، وقد كان أفراده يتعرضون للذبح بين الحين والآخر على أيدي جيرانهم الأقل ذكاء. بالرغم من ذلك، ففي الاضطراب البيولوجي العام في العصور الحديثة، قد تظهر النكهة الحلوة المرة في أي عائلة. والويل حينها يكون للطفل الملعون ولجميع أقربائه! كان الاضطهاد حتميا إلا أن تكون العائلة ثرية بالدرجة الكافية لأن تبتاع من الدولة «تمليحا فخريا» (أو «تحلية فخرية» في الدولة المجاورة)، وذلك هو ما كان يزيل وصمة العار.
في البلاد الأكثر استنارة، كان أمر الخرافة العرقية بأكمله قد بدأ يصبح مثيرا للريبة؛ فنشأت حركة بين النخبة المثقفة لتكييف الأطفال على تقبل جميع أنواع النكهات البشرية، والتخلي عن مزيلات الروائح والمذاق، والتخلي حتى عن الأحذية والقفازات، والتي فرضها العرف الحضاري.
من سوء الحظ أن حركة التسامح هذه قد أعاقتها إحدى نتائج المجتمع الصناعي. في المراكز الصناعية المكتظة وغير الصحية، ظهر نوع جديد من الرائحة والمذاق يبدو أنه كان طفرة بيولوجية. وفي غضون أجيال قليلة، سادت هذه النكهة الحامضية اللاذعة والتي لا يمكن إخفاؤها في جميع أحياء الطبقة العاملة الأكثر حقارة. وقد كانت هذه النكهة بالنسبة إلى حاسة التذوق شديدة الحساسية لدى الموسرين تعد مثيرة للاشمئزاز بدرجة طاغية. لقد أصبحت في واقع الأمر، رمزا غير واع بالنسبة إليهم يحرك جميع المشاعر الدفينة بالذنب والخوف والكراهية والتي كان المضطهدون يشعرون بها تجاه المضطهدين.
صفحه نامشخص