صلاح الدين الأيوبي وعصره
صلاح الدين الأيوبي وعصره
ژانرها
فيلوح لنا أن الحقيقة هي أن «ريكارد» صاحب الدسيسة كما أقر القاتلان نفساهما. وأن قتله كان على يد اثنين: إما من المسيحيين المتحمسين، وإما أنه استأجر اثنين من الإسماعيلية، وقد تنكرا في زي المسيحيين لهذا الغرض. ومن السهل أن نتصور الباعث على قتله؛ فإن المركيش كان في نظر الصليبيين خائنا خارجا على الدين مواليا لأعداء المسيح ثائرا على أوليائه. (28) الميدان الأخير
دخل ربيع سنة 1192م/588ه فاجتمع الجنود المسلمون إلى صلاح الدين ولم يجتمع إلى ريكارد إلا فلول جيشه القديم، وقد خبت ثورة النصر الذي أحرزوه في العام المنصرم، إلا أنه كان لا يزال على عزمه في خطته الأولى: وهي أن يدخل إلى بيت المقدس بعد الاستيلاء على الساحل الجنوبي، فلما تم له أخذ الساحل في العام الماضي جعل غرضه من حرب هذا العام الاستيلاء على بيت المقدس، فما زال يسير من منزلة إلى منزلة وجنود صلاح الدين بإزائه، وكان السلطان قد حصن بيت المقدس وقسم أسوارها على أمرائه مصمما أنه لن يترك عدوه يستولي على تلك العاصمة كما استولى على عكا؛ ولهذا أخذ أمر الدفاع عنها في يده. ووصل الفرنج أخيرا عند موضع اسمه بيت نوبه على مرحلة من بيت المقدس، وهناك بدءوا يترددون ثم وقفوا. ولم يحدث في وقوفهم هناك أكثر من نهب قافلة عظيمة كانت آتية من مصر بالذخيرة، ويقال: إن عدد جمالها كان سبعة آلاف جمل، فاستولى الفرنج على ثلث منها وتشتت منها ثلث في البرية ووصل الثلث الأخير إلى الكرك محتميا بها.
ولكن هذه الخسارة لم توقع الرعب في قلب صلاح الدين بل زادته تصميما على الدفاع وإعدادا لعدته، فبالغ في تحصين بيت المقدس وأفسد الماء الذي في ظاهر المدينة، وكان في هذه الأثناء شديد الوجد كثير الدعاء لله بالنجدة يتخلل دعاءه البكاء، وما كان أشد دهشة المسلمين بعد هذا كله؛ إذ سمعوا بعودة الفرنج إلى الساحل. ولعل سبب رجوعهم ما سمعوه من استعداد صلاح الدين لهم، وكان عدد جنودهم غير كاف لإتمام حصار المدينة من كل جانب لا سيما والمدينة يحيط بها واد منخفض من أكثر جهاتها، وهذا يدعو إلى تشتيت القوة المحاصرة.
وكان الفرنج يخشون التشتت لعلمهم بأن المسلمين إذا هبطوا على جماعة وحدها قضوا عليها ثم عادوا إلى الأخرى وهكذا.
وقد فرح المسلمون أشد فرح بعودة الفرنج عنهم، وتشددت عزائمهم، وبدأت أحاديث الصلح بعد ذلك تتردد، وكانت شروط ملك الإنجليز هذه المرة صالحة لأن تكون أساس المفاوضة، وهي أن يترك ريكارد البلاد الساحلية لابن أخته الكند هري «الكونت هنري دي شمبانيا» على أن يكون تحت حكم صلاح الدين، وأن يأخذ الفرنج كنيسة في بيت المقدس.
فرضي صلاح الدين بإعطاء كنيسة القيامة بالقدس وإبقاء مدن الساحل في يد الفرنج إلا عسقلان وما وراءها فتكون خرابا ليس لأحد من الجانبين، وأن تكون كل القلاع الجبلية للمسلمين، وجعلت المفاوضة تسير بين الطرفين سيرا مترددا طول مدة الصيف، ويختلف الطرفان على تفاصيل قليلة الخطر.
وتخللها انقطاع وحرب، وكان ميدان ذلك الحرب عند يافا، فأخذها صلاح الدين بعد حصار قصير. وكان ريكارد في هذه الأثناء ذاهبا إلى الشمال نحو بيروت، فلما سمع بحصارها عاد مسرعا إليها في البحر، وهناك ظهرت شجاعته العظيمة التي كان لها أكبر أثر في نفوس المسلمين، فإنه لم يكن معه إلا عدد قليل ولكنه مع ذلك استطاع تنجية القلعة، وهرب من اسمه الجيش الكبير الذي كان في يافا. وقد تحدى ملك الإنجليز في اليوم التالي كل جيش المسلمين آخذا رمحه حاملا من طرف الميمنة إلى طرف الميسرة، فلم يتعرض أحد له حتى غضب صلاح الدين وأعرض عن القتال وانصرف عن يافا إلى الرملة مع أن ريكارد لم يكن في أكثر من ثلاثمائة مقاتل.
خريطة دولة صلاح الدين.
وقد مرض ريكارد بعد ذلك مرضا شديدا واشتهى الكمثرى والخوخ والثلج، فكان صلاح الدين ينفذ إليه بما يطلب من ذلك. ولعل ذلك من أكبر ما يقوم دليلا على تقدير البطل للبطل ولو كان عدوه.
وعزم الجنود الفرنسيون عند ذلك على العودة إلى بلادهم؛ ليلحقوا بملكهم الذي سبق رحيله، فاشتدت رغبة ريكارد في الصلح، وكانت عقدة الاتفاق عسقلان؛ فإن ملك الإنجليز كان مصرا على أخذها محافظة على كرامته في الصلح، وكان صلاح الدين يأباها عليه إباء شديدا؛ خوفا على مصر منها ومحافظة على كرامته في الصلح أيضا؛ إذ كان أخذها عنوانا للنصر في تلك الحرب التي لا يستطيع جانب فيها أن يدعي النصر غير مدافع.
صفحه نامشخص