صلاح الدين الأيوبي وعصره
صلاح الدين الأيوبي وعصره
ژانرها
وقد حدث أن العاضد في أثناء مرضه أرسل يستدعي صلاح الدين، فخاف صلاح الدين أن يلبي، وظنها خدعة ومؤامرة على عادة المصريين، ولكنه عرف - فيما بعد - أن العاضد كان مخلصا في طلبه فندم على ذلك؛ إذ كان لا يرى من ذلك الشاب الخليفة إلا كل ما يرضيه من حب ومساعدة وإخلاص، وقد كان من حسن حظ العاضد أنه لم يعرف ما حدث من الانقلاب؛ فقد توفي من مرضه في سبتمبر سنة 1171م/567ه، ولم يعلمه أحد بأن الخلافة نزعت عنه بعد أن لبثت أكثر من قرنين ونصف قرن في بيته منذ كان في شمال أفريقية قبل هبوطه مصر.
وهنا فلنسكت عما كان في قصر الخليفة من تحف ثمينة وآثار قيمة وكتب نفيسة وآلاف العبيد والإماء والثروة الطائلة، ولنكتف بأن نقول: إن صلاح الدين لم يرزأ من كل ذلك شيئا لنفسه، بل ذهب كله لرجال الجيش والأمراء الذين معه، حتى القصر نفسه، وبقي الوزير العظيم مقيما حيث كان في خشونة من العيش وسذاجة من الحياة تقرب من حياة الزاهد. (5) الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين
نحن مضطرون أن نقف قليلا نناقش تهمة يوجهها كثير من المؤرخين إلى صلاح الدين؛ وهي أنه منذ شعر بثبات مكانه بمصر أثار وحشة بينه وبين سيده، وعزم على الخروج عليه ومحاربته إذا دعا الأمر، وما كان للإنسان أن يتهم حتى يكون عنده الدليل القاطع، واتهام صلاح الدين بالخروج على نور الدين وإثارة الوحشة بينه وبين سيده - الذي يجله والذي كان له عليه فضل التربية والعناية والتشجيع - اتهام خطير يجب على من يسوقه أن يكون من أشد الناس احتراسا في قوله؛ ولهذا نؤثر أن نذكر تهم المؤرخين ثم نرى مقدار قوتها على ضوء المنطق ودلالة التاريخ، وهذه هي التهم التي تساق: (1)
بعد القضاء على الدولة الفاطمية سار صلاح الدين سنة 1171م/567ه راغبا في حرب الفرنج، فحاصر حصن الشوبك بفلسطين على مسيرة يوم من الكرك، فعلم نور الدين بذلك الحرب، فرغب في مساعدة صلاح الدين، فسار من دمشق نحوه، وكان صلاح الدين قد أوشك أن يأخذ الحصن من الفرنج، فلما علم بمسير نور الدين تركه ورجع إلى مصر، وكتب إلى نور الدين يعتذر له باختلال الأمور في مصر، فلم يقبل نور الدين ذلك الاعتذار وعزم على المسير إلى مصر وإخراج ذلك المتمرد عنها، فجمع صلاح الدين أهله وفيهم أبوه وخاله ومعهم سائر الأمراء واستشارهم، فقال قائل: نمتنع عليه ونحاربه، فقام نجم الدين أيوب أبو صلاح الدين وقال قولا معناه أنه لا يوافق وأنه أول من يطيع نور الدين ويعصي ابنه إذا خرج عليه. وانفض المجلس على نصيحة أيوب أن يرسل صلاح الدين إلى نور الدين يستميله ويطلب عفوه ويذعن له ويظهر الخضوع، ثم لما خلا أيوب بابنه قال له: «ما كان ينبغي أن تصنع ما صنعت؛ فإن الأخبار لا شك تبلغ نور الدين»، ثم قال له: «ألا فاعلم أننا لا نسلم البلاد له، ولو أراد قصبة من قصب السكر لحاربناه عليها.» (2)
بناء على المفاوضة بين صلاح الدين ونور الدين استقر الأمر أخيرا على أن يقصد الاثنان حصن الكرك ويحاربا هناك معا، فلما كانت السنة التالية (أوائل سنة 1173) ذهب صلاح الدين وحصر الحصن، فلما بلغه مجيء نور الدين رجع ورفع الحصار وعاد إلى مصر، وأرسل الفقيه عيسى الهكاري يعتذر لنور الدين بأنه ترك أباه على مصر فمرض، وأنه يخشى أن يموت فتخرج البلاد من أيديهم، وأرسل مع الفقيه من الهدايا والتحف ما يجل عن الوصف، فلم يقتنع نور الدين بذلك الاعتذار واستوحش باطنا ولكنه لم يظهر شيئا من تأثره. (3)
ما بين غزوة الشوبك سنة 1171م/567ه، وغزوة الكرك في أوائل سنة 1173م/569ه قد أرسل صلاح الدين أخاه الأكبر شمس الدولة توران شاه ليفتح النوبة؛ لكي تكون لهم موئلا يلجئون إليه إذا أجلاهم نور الدين عن مصر ، ولكن تلك الحملة لم تنجح؛ لأنها وجدت البلاد صحراء لا تغني. (4)
بعد غزوة الكرك في سنة 1173م/569ه لما رأى صلاح الدين أن النوبة لا تغني أحب فتح ملجأ آخر، فأرسل يستأذن نور الدين في فتح اليمن «فأذن له نور الدين»، فذهب أخوه شمس الدين توران شاه إليها وفتحها ونظم أحوالها وأصلح شئونها، واستقام أمر الأيوبيين بها نحو خمسين سنة.
هكذا يصور كثير من المؤرخين موقف صلاح الدين بإزاء سيده، وحقا إن في الحوادث التي يذكرونها كثيرا من الحقيقة، ولكن تأويلهم - في ظننا - تأويل لا تبرره الظروف ولا يقبله العقل، وما كان لنا أن نكذب تأويلهم لولا أننا نرى أن الأدلة كلها تشير إلى أن ذلك التأويل صادر عن الخيال لا عن الحقيقة، فهناك الأدلة المادية التي تظهر تأويلا غير هذا، وهناك ما نعلمه من صلاح الدين وخلقه ما ينفي أن الأمر كان كذلك.
هنا أمر يستوقف النظر: وهو أن المؤرخين الذين يذكرون تلك الأمور يتفقون في إيرادها، وفي كثير من الأحيان تتفق ألفاظهم مع اختلاف في الإيجاز والإطناب، وهذا ما يجعلنا نظن أن مصدر القصة واحد أخذ عنه الجميع، ولا يبعد أن يكون ذلك المصدر من جانب الشام أو جانب من كان مع نور الدين من الأمراء الحاقدين على صلاح الدين أمثال الياروقي. أما نحن فنرى لكل تلك الحوادث تفسيرا آخر نعتقد أنه أكثر اتفاقا مع الأحوال والأشخاص. (1) فرجوع صلاح الدين عن الشوبك سنة 1171م وعن الكرك سنة 1173م كان أمرا طبيعيا، ولولا تلك القصة التي يذكرونها عن اجتماعاته بأمرائه وما يعزونه إليهم من الأقوال لما كان هناك ما يستغرب في عمل صلاح الدين؛ فالشوبك والكرك حصنان من أمنع الحصون في فلسطين، وكان فتحهما من أكبر الفتوح التي تغنى بها الإسلام - فيما بعد - بعد جهود عظيمة ومحاولات متكررة أخفقت مرارا، وكان يحميها جماعة من المحاربين المستبسلين الذين يقاومون حتى لا يكون دونهم ما يقاومون به من مال أو دم، وكان صلاح الدين في سنة 1171م خارجا من إحداث انقلاب بمصر وإزالة دولة لها في البلاد أصل ثابت من قرنين، وكان لها أتباع وأنصار يفكرون في الدفاع وإرجاع الأمر إلى ما كان عليه، ولا سيما أنه كان إذ ذاك حديث عهد بثورة السودانيين، ولا يأمن أن يترك مصر إلا قليلا؛ ففي سنة 1171م عندما حصر الشوبك رأى أن الحصن لن يسلم إلا بعد أمد قد يطول، وأن نور الدين قد يشترك في الحرب فيجعلها واسعة الدائرة فينتقل من ميدان إلى آخر، وهو الرجل الذي يحب الجهاد ويجعل حياته له، فآثر الرجوع وأرجأ فتح ذلك الحصن إلى وقت آخر، ولو كان يخشى الاقتراب من نور الدين، فما كان الذي دعاه أن يفكر مبتدئا في غزو فلسطين؟ أما كان يؤثر من أول الأمر إبقاء الصليبيين بينه وبين من يخافه؟ (2) وأما في سنة 1173م فقد كان صلاح الدين يشم خطرا في الجو لا تفوته حركة من حركات صديقه وعدوه على السواء، فلما دعاه نور إلى حصار الكرك لم يستطع أن يمتنع حتى لا يسيء سيده به الظن، فذهب إلى هناك في شوال، وكان هو السابق، وظل على الحصار وحده مدة شهرين، ثم أقبل نور الدين بعد ذلك متأخرا في ذي الحجة.
ورأى صلاح الدين أثناء ذلك امتناع الحصن عليه، ولعل نور الدين لو كان اشترك معه من أول الأمر لكان الحصن قد سلم أو لكان على الأقل هناك تساو في المجهود يبعث نور الدين على الاكتفاء وترك الحرب إلى حين، فتأخر نور الدين كان معناه أن غياب صلاح الدين عن مصر سيستمر إلى مدة أطول، ولا سيما وأن جيش نور الدين كان لا يزال جديد الهمة وهو يعرف أن نور الدين إذا بدأ الحرب فلن ينتهي منه إلا بعد أن يبلي بلاء ويعذر، ولعله ينتقل من ميدان إلى آخر، ولن يستطيع صلاح الدين أن يترك الحرب إذا هو بدأ فيه إلى جانبه؛ لئلا يكون ذلك تخذيلا، فآثر أن يتبع - من أول الأمر - ما تمليه الرجولة ويوجبه الحذر، فأرسل في أدب معتذرا وأظهر خضوعه بما أرسل من هدايا، وأنفذ رسوله رجلا يعرف ما كان عليه من صفات ولا يطعن أحد في إخلاصه؛ وهو الفقيه عيسى الهكاري، وكان رجلا شجاعا دينا، فلو وجد شيئا على صلاح الدين من الخيانة لسيده لكان يفضي بذلك إلى نور الدين؛ إذ كان يعتقد أنه المجاهد في سبيل الله المخلص في غزواته القائم في عبادته الزاهد في دنياه، ولم يكن نور الدين في قلوب الناس - ولا سيما الفقهاء - بأقل مما كان صلاح الدين، بل إن الناس جميعا كانوا أميل إلى الخضوع له واتباعه مما كانوا يميلون إلى الفتى الناشئ، ولكن الفقيه لم يذكر إلا كل خير، ولم نسمع عن نور الدين أنه قال إلا جوابا مرضيا.
صفحه نامشخص