سلام عليك يا عماد الدين، جاءنا صديقك وسرنا أنك في عافية، ولكن ساءنا ما أصابك في السجن. على أن ما عرفناه من حب هذا الصديق لك وما يظهر فيه من المروءة والشهامة طمأننا عليك. إننا نقيم الآن في دار الأضياف في رعاية صلاح الدين. إنه شهم وقد أكرمنا غاية الإكرام. ويسرني أن أخبرك بأنه جعل مولاتي سيدة الملك أختا له وهو يعاملها معاملة الأخت من كل وجه. وجاء ذكرك مرة أمامه فأكثر من الثناء عليك وصرح بما يرجوه لك من المستقبل السعيد. إنما ساء سيدتي أنك في السجن، على أن صديقك جرجس بشرنا بقرب خروجك منه سالما معافى، ولكن عظم علينا أنك ستبطئ في المجيء إلينا. عجل ولا تقطع أخبارك وعليك السلام.
فلما قرأ الكتاب أحس بشيء جديد لم يشعر به من قبل. وقد كان إلى تلك الساعة مضطرب الأفكار من جهة سيدة الملك؛ لعلمه أن صلاح الدين خطبها لنفسه. ورأى من الجهة الثانية ما أظهرته من الميل إليه حتى أوشكت أن تقول له صريحا إنها عاشقة له تتفانى في حبه. فوقع في حيرة وإنما شغل عن ذلك بالأسفار وملاقاة الأخطار ليرى ما تأتي به الأقدار. فلما اطلع على كتاب ياقوتة وعلم أن صلاح الدين لا يريد الزواج بسيدة الملك ورأى عطفها عليه في ذلك الكتاب مع اختصاره، أحس أنها له وحده واضطرمت نيران الحب في قلبه مرة واحدة، كأن لواعج تلك المدة كلها اجتمعت في ذلك اليوم ، فأصبحت صورة سيدة الملك نصب عينيه أينما توجه، وتذكر منظرها في تلك الليلة وهي واقفة تودعه وتتعجل نزوله في السرداب. ولم يكن يومئذ يشعر بشيء من تلك العواطف. كما تذكر خصلة الشعر الحمراء وكيف تجاسر على طلبها من نور الدين، وكيف أذن له نور الدين في أن يأخذها. ثم كيف وفق للاجتماع بصاحبتها وهي في أشد الخطر فأنقذها ودفع إليها الخصلة. مر ذلك كله بذهنه في لحظة فتحقق أن المقادير أعدت له هذه النعمة، فإذا وفق إلى إتمام مهمته بلغ أوج السعادة. فبدأ يشعر بالسعادة من ذلك الحين!
لقد اختلف الناس في تعريف السعادة فجعلها بعضهم في المال، وآخرون في الشهرة، وآخرون في الصحة، وذهبوا فيها مذاهب شتى، لكن المحبين يعلمون أن السعادة في تبادل المحبة بين حبيبين يرجوان ويخافان، يلتقيان ويفترقان، وهما - في كل حال - في سعادة الاجتماع إما بالفعل وإما بالأمل. سواء أرافقهما الغنى أم الفقر، والشهرة أم الضعة. إنهما سعيدان في كل حال!
شعر عماد الدين بعد تلاوة الكتاب بما لم يشعر به قبل. وأصبح شديد الرغبة في سرعة الرجوع إلى القاهرة. وكان عبد الرحيم خلال ذلك واقفا يراقب حركات صديقه مخافة أن يكون في ذلك الكتاب ما يبعثه على تغيير خطته وهو يحب أن يدخله في طغمة الإسماعيلية. وانتبه عماد الدين لنفسه فرأى صديقه قاعدا بجانبه فقال له: «إني أشكرك أيها الصديق على هذه الخدمة الثمينة جزاءك الله خيرا.»
قال: «هذا واجب أديته لا فضل لي به، وهل إذا أتيح لك أن تخدمني مثل هذه الخدمة تتأخر؟»
فثارت النخوة في رأس عماد الدين وقال: «أفديك بروحي.» ولم يقل ذلك حتى أحس بشيء في داخله يعترض ذلك القول؛ لأنه شعر من تلك الساعة أن روحه ليست له، وأنه يود البقاء ليرجع إلى حبيبته ويتمتع باللقاء.
أما عبد الرحيم فأعجبه ذلك التعبير منه وقال: «سترى من هو أولى مني بالفداء. إن الشيخ راشد الدين إمامنا ومولانا نفديه كلنا بأرواحنا. وستذوق هذه اللذة متى صرت واحدا منا. هل أنت عازم على الدخول معنا في هذا الأمر؟ أم غيرك هذا الكتاب؟» وضحك.
قال: «لم يغيرني شيء، لكن ما هو السبيل إلى ذلك؟ كيف أذهب وإلى أين وما هي الطريقة؟ أرجو أن تساعدني وترشدني.»
فرح عبد الرحيم وقال: «إني طوع إرادتك. سأعطيك كتاب توصية إلى الشيخ دبوس نائب مولانا الشيخ الأكبر وهو يقيم معه في قلعة مصياف من جبل السماق من أعمال حلب ثم ألحق بك بنفسي. يمكنك السفر اليوم. هل تعرف الطريق؟»
قال: «أعرفها جيدا؛ لأني ربيت في هذه البلاد.»
صفحه نامشخص