فأزاحت النقاب عن وجهها وقالت: «نعم صدقت.» وأطرق حياء.
فرأى صلاح الدين الضعف في وجهها فقال: «أراك منحرفة المزاج يا سيدة الملك، هل تشكين من شيء؟»
فسكتت وظلت مطرقة، فالتفت إلى ياقوتة، فعلمت أنه يستفهمها عن سبب ذلك النحول فقالت: «إنها لا تشكو ألما ولكنها منحرفة المزاج قليلا.»
قال: «لا بأس عليك يا أختي. وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليك بهذه الزيارة ... وإنما حملني عليك حب مصلحتك. ولكي أسألك عن أمر لا أحب أن يطلع عليه سواك وأظنك أعلم الناس به.»
فتطلعت إلى معرفة ما يقوله وقالت: «إني رهينة ما تريد يا سيدي.» وشخصت في وجهه لترى ما يريده.
فالتفت يمينا وشمالا كأنه يتحقق خلو المكان من الغرباء وقال: «أنت تعلمين أن أخاك - رحمه الله - أوصاني بك وبسائر أهلك خيرا، وأظنني قمت بواجب الوصية.» فأشارت بعينيها ورأسها أن «نعم.» فقال: «وأظنني لم أقصر أيضا في توخي كل وسيلة لإسعاد حال هذه البلاد من كل وجه، فرفعت كثيرا من المظالم التي كانت في عهد الدولة الماضية، وقد أتاها الذين كانوا محيطين بالمرحوم أخيك. وكنت أظن هذا كافيا لإجماع أولئك القوم على الطاعة.» وسكت.
فقالت: «أظنهم مجمعين؛ لأن مولانا السلطان لم يدخر وسعا في تخفيف الضرائب وإجراء العدل.» قال: «وكان في إمكاني لما تحولت هذه الدولة إلى يدي أن أقتل كل من كان من الأمراء والوزراء على رأي الدولة الماضية لكنني لم أفعل ذلك رغبة في أن يعرفوا لنا هذا الفضل.»
فاستغربت قوله وتوسمت من ورائه شيئا جديدا، وأشارت بعينيها كأنها تستفهم عما حدث فقال: «ولكنني علمت أن هؤلاء الأمراء والأعيان يتآمرون علينا.» فرفعت بصرها وقالت: «يتآمرون على السلطان؟» قال: «نعم، ولو تآمروا فيما بينهم فقط لهان شرهم، لكنهم يستعينون علينا بالأعداء. إنهم يخابرون أعداءنا الإفرنج في ساحل الشام وصقلية، يحرضونهم على مناوأتنا ليتاح لهم القيام علينا أو تخرج هذه البلاد من أيدينا.» قال ذلك وقد بان الغضب في غنة صوته.
فأجفلت وقالت: «يتواطئون مع الإفرنج على سلطانهم؟ يا لها من خيانة!» وأطرقت لحظة ثم قالت: «هل وثق سيدي من هذا الخبر؟»
قال: «إني واثق تمام الثقة مما أقول؛ لأن خبرهم جاءني من رجل أثق به وثوقي بنفسي. قبحهم الله! إذا كانوا يعدون خروج الدولة من الخلافة العبيدية إلى العباسية شرا وكلتاهما إسلاميتان فكيف بانتقالها إلى الإفرنج وهم أعداؤنا الألداء مذهبا ووطنا؟ فبدلا من أن نتعاون على صيانة بلادنا منهم ندلهم على عوراتنا ونحرضهم على فتح بلادنا. هل رأيت أضعف رأيا من هؤلاء؟ ألا يحل قتل الساعين في ذلك؟» قال هذا وقد ارتفع صوته وأبرقت عيناه برغم ما حاوله من تلطيف غضبه بين يدي سيدة الملك وقد عبث بعثنونه وأخذ يحكه.
صفحه نامشخص