فقطعت كلامه قائلة: «وماذا تفعلون بولي العهد داوود؟ ألم يبايعوه؟»
فبلع ريقه وقال: «لا أظنهم يبايعون أحدا، فإن السلطان نور الدين مولانا الأكبر قد أمر أن نبايع للمستضيء بالله العباسي، حتى لا يكون على الأرض خليفتان. على أني لا أرى الخلافة إلا تعبا لصاحبها وخطرا عليه ولا فائدة منها ... أستميح سيدتي عذرا في اختصار الحديث؛ لأني مضطر للاشتغال بتنفيذ أوامر مولاي السلطان بالاستيلاء على ما في هذه القصور كما قلت لك. فأخبريني ما الذي تريدين أن أحتفظ به.» قال ذلك ونهض وأظهر أنه يريد الخروج فقالت: «أريد أن تصحبك هذه الحاضنة وهي تخبرك بما أريد أن آخذه من الأثاث والثياب.» وحولت وجهها عنه.
فأتمت ياقوتة كلامها قائلة: «دعوا هذه الغرفة والتي إلى جانبها لا يمسهما أحد، وأنا أهيئ فيهما ما يجب نقله ... بارك الله فيك يا أستاذ.»
فتحول قراقوش وخرج، فلما خلت ياقوتة بسيدة الملك قالت لها: «الحمد لله أن صلاح الدين قائم بوعده. رأيتك تدققين في السؤال وتستغربين عدم المبايعة لسيدي داود ... احمدي الله أنهم لم يستخدموا السيف في فناء من بقي من أهل الخلافة كما فعل غيرهم في مثل هذه الحال. ألم يأمر أبو العباس السفاح بقتل كل من بقي من بني أمية حتى لا يبقى واحد منهم يطالب بالخلافة؟ فلو أمر صلاح الدين مثل هذا الأمر من يقدر على رده؟ أم تظنين المغرور أبا الحسن يرده، لعنة الله عليه .»
فلما سمعت ذكر أبي الحسن أحست براحة؛ لأنها نجت من حبائله في ظل صلاح الدين ونشطت للخروج فقالت: «أعدي ما نحتاج إليه من أثمن المتاع وأخفه.» قالت ذلك وتنهدت. فأخذت ياقوتة تهتم بذلك. وكان يومهم هذا من أعظم أيام الشدة؛ لأنهم في يوم الانتقال من دولة إلى دولة. •••
أما قراقوش فإنه قبض على من في تلك القصور من النساء وعرضهن على صلاح الدين، فوجد أكثرهن من الحرائر فأطلقهن. وجمع الباقيات فوهبهن الحرية وفرقهن في رجاله وأخلى تلك القصور من الناس. وأخذ كل ما صلح له ولأهله وأمرائه والخواص من مماليكه وأوليائه من الذخائر وغيرها. وأخذوا من الجواهر والمصوغات ما لا يحصره وصف. ونكتفي هنا بنقل عبارة مؤرخ الدولتين في كتاب الروضتين قال: «وأخلى دوره (دور العاضد) وأغلق قصوره، وسلط جنوده على الموجود، وأبطل الوزن والعد عن الموزون والمعدود. وأخذ كل ما صلح له ولأهله وأمرائه ولخواص مماليكه وأوليائه من أخائر الذخائر وزواهر الجواهر ونفائس الملابس ومحاسن العرائس وقلائد الفرائد والدرة اليتيمة والياقوتة العالية الغالية القيمة، والمصوغات التبرية والمصنوعات العنبرية والأواني الفضية والصواني الصينية والمنسوجات المغربية والممزوجات الذهبية والمحوكات النضارية والكرائم واليتائم والعقود والتمائم والنقود، والمنظوم والمنضود والمحلول والمشدود والمنعوت والمنحوت والدر والياقوت، والحلي والوشي والعبير والحبير والوثير، والنثير والعيني واللجيني والبسط والفرش، وما لا يعد إحصاء ولا يحد استقصاء، فوقع فيها الفناء وكشف عنها الغطاء وأسرف فيها العطاء، وأطلق البيع بعد ذلك في كل حدث وعتيق ولبيس وسحيق وبال وأسمال ورخيص وغال، وكل منقول ومحمول ومصوغ ومعمول، واستمر البيع فيها عشر سنين، وتنقلت في البلاد بأيدي المسافرين والواردين والصادرين.»
أما أهل الخليفة فنقلهم صلاح الدين إلى دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه. واختص سيدة الملك بالإكرام والحفاوة.
وكانت مصر إلى ذلك اليوم خلافة مستقلة يدعى على منابرها لخليفتها الشيعي العاضد لدين الله. فأمر صلاح الدين أن تتحول الخطبة للمستضيء بالله الخليفة العباسي كما كان نور الدين قد طلب منه على يد أبيه نجم الدين. وكان قد اعتذر له في التأجيل خوف الفتنة والواقع أنه أجلها ليستعين بذلك على نور الدين إذا أراد أن يأخذ مصر منه بالقوة. فيأخذ هو جانب لعاضد ويتقوى به وبالمصريين على دفع عسكر الشام. فلما تأكد ضعف العاضد وتحقق اشتغال نور الدين عن مناهضته عزم على إقامة الخطبة العباسية مظهرا بها الطاعة لنور الدين. فلم يجسر أحد من العلماء أن يبدأ بذلك إلا رجل أعجمي اسمه الأمير العالم تصدى للخطبة. فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر ودعا للمستضيء العباسي فوافقه الناس ولم يظهروا معارضة، فكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر. وكان هذا في أثناء اشتداد المرض على العاضد وتوفي ولم يعلم به. فأصبحت مصر بذلك تابعة لبغداد من حيث الخلافة من سنة 567ه، ومنعوا أبناء العاضد وسائر الرجال من أهله عن الزواج حتى لا يعقبوا نسلا يطالب بالخلافة.
أما سيدة الملك فلما رأت نفسها في قصرها الجديد في دار برجوان أكبرت ذلك الانتقال. ولما بلغها تحول الدعوة للعباسيين تحققت ذهاب دولة العلويين فشق ذلك عليها كثيرا، علاوة على وفاة أخيها. وقضت أياما وهي منزوية في غرفة من قصرها لا تكلم أحدا إلا ياقوتة تتردد إليها لتخفف عنها، ومهما يكن من مشاغلها المتقدم ذكرها فإن أمرها مع عماد الدين كان غالبا عليها. وقد فارقته في تلك الليلة المهولة وهي بين الشك واليقين من أمره. وكانت وهي في إبان أحزانها تود أن تفاتحها ياقوتة بحديثه لعلها تسمع ما يقوي أملها بلقائه، وياقوتة لا تفعل ليس عن تهيب ولكنها كانت ترى اشتغال سيدتها بحب ذلك الشاب من قبيل العبث وتود أن تنساه وتتحول عنه، فلا ترى من الحكمة أن تفاتحها بذكره أو أن تجعل ذكره من أسباب اطمئنانها وراحتها.
على أنها كانت قد استأذنت صلاح الدين في الخروج للتنزه في البساتين، ولم يكن يؤذن لسواها بذلك من أهل الخليفة، ولكن صلاح الدين كان كثير العناية بسيدة الملك والاحترام لإرادتها قياما بعهده لأخيها. وكان ذلك من أكبر أسباب تعزيتها على مصائبها. على أنه اشتغل عنها مدة بالحروب في الشام وتوفي في أثناء ذلك أبوه (سنة 568ه.) وحدثت أمور أخرى شغلته عنها، لكنه كان يوصي بهاء الدين قراقوش بها.
صفحه نامشخص