فمشت وركبتاها ترتعدان وقلبها يخفق تطلعا لما عساه أن يكون من حال أخيها؛ لأنه لا يبعث في طلب أهله إلا وهو في أشد حالات المرض. ولما علم أولاد العاضد بقدومها وسعوا لها واقترب أكبرهم داود ولي العهد من عمته وقبل يدها فقبلته وهي تتماسك عن البكاء تشجيعا له. وصلت إلى باب الغرفة وركبتاها ترتعدان وأذناها مصغيتان لعلها تسمع كلاما تطمئن له فسمعت صوتا استغربته لا تذكر أنها سمعته قبلا. فالتفت بالخمار ووسع لها الحرسي وأزاح الستار عن الباب والغرفة قد أضيئت فيها الشموع فأرسلت نظرة إلى الداخل فرأت أخاها مستلقيا على السرير وعلى وجهه دلائل الضعف الشديد. لكنه لما وقع بصره عليها ابتسم وسبقته العبرات فترامت سيدة الملك عليه ولم تلتفت إلى أحد من الحضور وأخذت تقبله وتقول: «لا بأس عليك يا أخي ويا سيدي، لا بأس عليك.»
فقبلها وهو لم يجب، لكنها أحست بدموعه تتساقط على خدها فتجلدت ونهضت وهي تقول: «لا بأس عليك يا سيدي إنك في عافية والحمد لله.»
والتفتت إلى ما حولها فرأت الجليس الشريف جاثيا بجانب فراش الإمام ورجلا قاعدا على وسادة لم تكد تتفرس فيه حتى ارتعدت فرائصها وتذكرت أنها رأت وجهه في بعض المواقف الرسمية من خلال النوافذ وهو صلاح الدين. فأوشكت أن ترتبك ويظهر الارتباك عليها فتجلدت ولم تشك أن صلاح الدين جاء ليخطبها.
وكان سائر أبناء الخليفة قد دخلوا في أثرها إلى الغرفة، فأشار العاضد إليهم جميعا أن يتقدموا فقبلهم واحدا واحدا وهو يبكي ومنظره يفتت الأكباد. ولم يبق أحد من الحضور إلا بكى حتى صلاح الدين. أما العاضد فأشار إلى أبنائه بالجلوس وأومأ إلى سيدة الملك أن تقعد على فراشه بالقرب منه. فجلست وهي تحاذر أن يظهر وجهها لصلاح الدين.
جلسوا والسكوت مستول على المكان مدة، ثم تكلم العاضد ووجه خطابه إلى سيدة الملك قائلا بصوت ضعيف مضطرب متقطع: «يا أختاه، أنت تعرفين منزلتك عندي، إنك أختي وصديقتي ومرشدتي، كم استشرتك وكم عولت على رأيك! والآن وقد دنت الساعة وشعرت باقتراب الأجل والذهاب إلى حيث ألقى وجه ربي، قد أحببت أن أستوثق من حالك وحال أبنائي بعدي.» وتوقف عن الكلام ريثما يستريح والجميع مطرقون ثم قال : «وقد علمت بالاختبار أن ليس فيمن حولي من رجالي أو أهلي من أثق فيه وأعول عليه في شأنكم، وأنت تعلمين ما كان في خاطري على السلطان يوسف صلاح الدين (وأشار بيده نحوه)، وقد طالما شكوت لك من معاملته، أعترف لك وأنا في آخر ساعة من ساعات الدنيا وأول ساعة من ساعات الآخرة، أعترف أني شكوت من معاملته، لكنني لا أجد الآن من أثق فيه بقوله وأتحقق أنه فاعل ما يقوله سواه؛ لأني محاط بأقوام قوالين غير فعالين، يتنافسون في تملقي ويتسابقون إلى ابتزاز أموالي ونيل المراتب بالحيل والدسائس. فبعثت إلى السلطان وكلفته مشقة الحضور لأوصيه بكم خيرا.» وأشار بأنامله أن يمهلوه ريثما يستريح وسكت وهو يلهث.
فأطرقوا وهم يمسكون أنفاسهم ويكتمون ما يتردد في آماقهم من الدمع لا يلتفت أحدهم إلى الآخر تهيبا من منظر الخليفة وتطلعا لما سيقول. ثم عاد العاضد إلى الكلام ووجه خطابه إلى صلاح الدين قائلا: «هذه يا صديقي أختي سيدة الملك التي بعثت تخطبها. وهؤلاء أبنائي وكبيرهم داود هذا. إني تارك أمرهم إليك خوفا من أن يصيبهم مكروه بعدي، وأشهد عليك الله أن تأخذ بناصرهم ... فهل تعدني أنك فاعل ما أقول؟»
فلما سمعت سيدة الملك ذكر الخطبة في أثناء كلام أخيها اختلج قلبها خوفا ويأسا لئلا تكون إذا مات أخوها رهينة أمر صلاح الدين ولا سيما بعد هذه الوصية. ثم سمعت صلاح الدين يجيب أخاها قائلا: «أنت يا أمير المؤمنين في خير وعافية بإذن الله، ولا بأس عليك يدعو إلى الاهتمام بالتوصية، فإنك مبل من هذا المرض قريبا إن شاء الله، أما وقد ذكرت أمر الوصاية فاعلم يا سيدي أن الخادم (يعني نفسه) قائم بما أوصيت به، وليكن المولى - أعزه الله - على ثقة من هذا الوعد أن أهلك هؤلاء لا يصيبهم سوء ما دمت في قيد الحياة، ولك علي عهد الله بذلك.»
فلم تجد سيدة الملك ذكرا لها في هذا الجواب فأيقنت أنها واقعة فيما تتخوفه فعظم عليها الأمر فضلا عما هي فيه من القلق على حياة أخيها فأخذت بالبكاء رغم إرادتها. وأرادت الخروج تخفيفا عن أخيها، فمد يده وقبض على يدها ليجلسها فأحست بارتعاش يده، فاقشعر بدنها وقعدت وهي تنظر إليه، فرأته ينظر إلى صلاح الدين وعيناه تلمعان والدمع يغشاهما. وكأنه أراد الكلام فامتنع عليه، فأشار بإصبعه إلى أخته. ففهم صلاح الدين أنه يوصيه بها فأجابه قائلا: «كن مطمئنا على سيدة الملك، إنها أختك ونعم الأخت هي، لكنها أيضا أختي بعهد الله وكفى.»
فلما سمعت تصريحه بأنها أخته سري عنها، ورغم ما هي فيه من اليأس والحزن أوشكت أن تبتسم لاعتقادها أن صلاح الدين لم يدعها أخته إلا وقد عدل عن التزوج بها، وهو غاية ما تريده. ولا سيما وقد ضمن حمايتها فأصبحت في مأمن من تعدي أبي الحسن أو غيره. ولم يكد يطمئن خاطرها من هذا الوجه وقد شغلت عن الخطر الملم بأخيها حتى أخذ يسعل وينتفض في فراشه من شدة الرعشة. وهي نوبة عصبية توالت عليه في ذينك اليومين. فنهض الجليس وأسرع يدعو الطبيب الشيخ السديد من غرفة أخرى. فدخل الطبيب وأشار إلى الحضور أن ينصرفوا من المكان ليعالج المريض بما يراه فنهضوا جميعا. ومشى أولا صلاح الدين مشية الأسد وسيدة الملك تراقبه وأحست من تلك الساعة أنها تحبه حب الإعجاب، وهي من طبعها تعجب برجال المروءة والنجدة، وهو ما بعثها على حب عماد الدين كما علمت. فأحست بارتياح لصلاح الدين واطمأنت إلى رؤيته. ثم أومأ إلى الجليس أن تنصرف إلى قصرها وكذلك سائر الحضور من أهلها.
فانصرفوا وتزودت سيدة الملك بنظرة من أخيها وخرجت وقلبها مطمئن وقد نسيت حزنها على حاله أو شغلت عنه. وكانت حاضنتها تنتظرها في الممر وتتوقع أن تراها باكية خصوصا لما علمته بوجود صلاح الدين هناك، فأخذت تتأهب للتخفيف عنها. فإذا هي مشرقة الوجه رغم ما يجول في عينيها من الدمع ورغم ما ظهر في أجفانها من الذبول، فقبضت على يدها ومشت معها فعلمت من خطواتها وحركاتها أنها فرحة. وما حققت أنها وصلت إلى قصرها ودخلت غرفتها حتى ابتدرتها قائلة: «كيف سيدي أمير المؤمنين؟ أرجو أن يكون في صحة.»
صفحه نامشخص