فقال الغلام: «يظهر أنهم سوف يولون أحدا مكانه؛ لأنهم ينوون القبض على كل من بقي من أصحاب هذا النسب ولذلك خفت عليك.»
فعاد إلى الإطراق وأخذ في تدبير حيلة للانتقام؛ لأن فشله كان مزدوجا، إذ ذهبت آماله في الخلافة وأبعد ما بينه وبين سيدة الملك. لكنه لم يشك أنها ستندم عليه متى أكرهها صلاح الدين على أن تكون له. •••
أما سيدة الملك فتركناها مساء الأمس بعد ذهاب عماد الدين من عندها وقد ذهبت إلى الفراش. ولكن النوم لم يزرها وتراكمت عليها الهواجس. وبكرت في الصباح للاستفهام عن أخيها فقيل لها إنه مريض، لكن الأطباء عنده ولا تقدر أن تراه. فصبرت وهي تتوقع الإذن في رؤيته فلم تستطع ذلك إلا بعد الظهر. فأذن لها وكان أحسن حالا مما تظن فاطمأن خاطرها عليه وجعلت تخفف عنه وتطمئنه. وتذكرت مقاومتها له في ذينك اليومين بشأن خطبتها وتعب ضميرها لئلا يكون لمرضه علاقة بتلك المقاومة فندمت على ذلك.
وبعد قليل أنبئ العاضد بمجيء الطبيب والجليس، فأشار إلى سيدة الملك بالذهاب وطمأنها أنه في خير. فعادت إلى غرفتها وهي في قلق على أخيها. ولم يطمئن خاطرها عليه وأتتها ياقوتة وسألتها فبكت وأغرقت في البكاء برغم إرادتها، فظنت ياقوتة أن الخليفة مات فصاحت صياح الندب فسمعتها سائر الجواري فاقتدين بها فعلت الضوضاء وأبو الحسن عند قراقوش فظنوا الخليفة مات كما تقدم وهو لم يمت.
وكان قراقوش قد استقدمه صلاح الدين في ضحى ذلك اليوم على أثر ما جاءه به الهكاري من أبي الحسن وأنبأه بما علموه عن داخلية القوم وأوصاه أن يكون على حذر وأن يجعل الجند قريبا من القصور، فإذا علم بوفاة العاضد أحاط القصور بالجند وبعث إليه بخبر ذلك. ولا يأذن لأحد من أهلها بالخروج لأية علة كانت. ونبه بنوع خاص إلى أبي الحسن والقبض عليه، فجاء قراقوش فرأى أبا الحسن عنده فاستبقاه حتى يروا ما يكون. فلما سمع الصياح داخل القصر وظن الخليفة مات، خرج لتوجيه الفرسان، وأمر أبا الحسن بالبقاء ريثما يعود. فلما عاد لم يجده هناك فبعث في طلبه فلم يقف على خبره فأسف لنجاته وبث العيون للقبض عليه، وأخذ يهتم بإرسال الخبر إلى صلاح الدين بوفاة العاضد. ثم علم أن الخليفة ما زال على قيد الحياة فسر لأنه لم يتعجل في إرسال خبر الوفاة إلى صلاح الدين لئلا يأتي ويجد الخبر كاذبا فيوبخه. على أنه أبقى الجند حول القصر ليرى ما يكون. فلما دنت الشمس من المغيب جاءه أحد الغلمان يقول: «إن مولانا السلطان قادم بموكبه.» فخف قراقوش للقائه فرآه تحول نحو قصر الذهب حيث يقيم الخليفة، فاستغرب ذلك ومكث في مكانه لا يدري سبب مجيء السلطان في تلك الساعة وإذا بصديقه الهكاري يمشي نحوه فرحب به وسأله عن سبب قدوم السلطان، فقال: «لأن العاضد طلب أن يراه.» فاستغرب قوله وصاح فيه: «الخليفة طلب أن يرى مولانا السلطان.» قال: «وما مكان الغرابة؟» فأجاب: «أنت أدرى مني بمكانها، وسنرى السبب بعد قليل.»
فدخل قراقوش وأدخل الهكاري معه وجلسا ودار بينهما الحديث عن مقاصد صلاح الدين ودهاء نجم الدين ونحو ذلك. •••
علمت سيدة الملك بعد قليل أن بكاءها وبكاء حاضنتها أشاعا خبر وفاة الخليفة فتشاءمت وسكتت. ولكنها انزوت في غرفتها لا تريد أن ترى أحد وقلبها يشتعل قلقا على حياة أخيها فضلا عن متاعبها الأخرى. ولما غربت الشمس انقبضت نفسها وهي في أنواع من الشدة كل منها يقبض النفس ويبعث على القلق. لكن ساعة الغروب زادتها انقباضا وأصبحت شديدة الرغبة في رؤية أخيها. وإذا بالحاضنة أتتها مسرعة وقالت: «إن سيدي أمير المؤمنين يطلب أن يراك.» فأجفلت لكنها فرحت وأسرعت في الذهاب. والتفت بمطرفها وخمارها ومشت في الممر والحاضنة تسير بين يديها، فسمعت ضوضاء ولغطا من جوانب الدهليز ولم يساعدها النور الضعيف على تبين الوجوه، لكنها استأنست بأصوات بعض أهلها فاستفهمت الحاضنة عما سمعته فقالت: «إنك تسمعين أصوات أبناء أخيك وأخوتك.»
فأجفلت وتراجعت. فقالت لها ياقوتة: «ما بالك يا سيدتي؟»
فقالت: «ما الذي جاء بهم إلى هنا؟ ماذا جرى؟ هل من بأس على أخي؟»
قالت: «إنه بعث في استقدامهم كما بعث في استقدامك.»
صفحه نامشخص