وفيما هما في ذلك وقد هم قراقوش أن يتكلم، دخل غلام الهكاري وقال: «بالباب رسول من مولانا السلطان .» فقال الفقيه: «يدخل.» فدخل الغلام، ولما رأى قراقوش هناك بانت البغتة في وجهه وقال: «سيدي الأستاذ بهاء الدين هنا؟ كنت ذاهبا إليه أيضا.» فقال الهكاري: «ما وراءك؟»
قال: «إن السلطان يطلب حضوركما في القاعة الآن، وقد أمرني أن أدعو سائر الخاصة، وكنت عازما على الذهاب إلى القصر الكبير لأدعو سيدي الأستاذ فإذا هو هنا.» فقال قراقوش: «إننا ذاهبان، وماذا عسى أن يكون الباعث على هذه الدعوة؟» قال: «لا أدري يا سيدي، ولكنني رأيت نجابا وصل في هذا الصباح قادما من دمشق ومعه رسالة رفعها إلى مولانا السلطان، فما زال منذ تلقاها وهو يقلب فيها وقد تغير وجهه وبان الغضب فيه. ثم شاور مولانا الأمير نجم الدين، والظاهر أنهما اتفقا على عقد جلسة للبحث في أمر مهم.»
فأشار قراقوش إلى الهكاري بيده مستفهما عما يعلمه من هذا الأمر. فأشار إلى الغلام أن ينصرف ومشى مع قراقوش وخاطبه في أثناء الطريق سرا وقال: «إني علمت بأمر هذا الكتاب في الصباح، وقد استقدمني السلطان وأطلعني عليه وعملت عملا ترضاه مني.»
قال: «وما ذلك؟» قال: «إن الكتاب من السلطان نور الدين صاحب دمشق شديد اللهجة جدا.» قال: «وما سبب ذلك؟» قال: «ألا تذكر خروج مولانا السلطان في صفر من هذا العام إلى بلاد الشام لمحاربة الإفرنج، وقد صحبته في هذا السفر، فنازل حصن الشوبك، ثم طلب الكرك وحصره وضيق عليه وعلى من به من الإفرنج حتى طلبوا التسليم والأمان، لكنهم استمهلوه عشرة أيام فأجابهم إلى ذلك. وكان السلطان نور الدين في دمشق فلما بلغه ما فعله صلاح الدين ارتاب في أمره وأنت تعلم ما بينهما من المحاذرة وما في نفس صلاح الدين من الطمع في سلطنة مصر لنفسه.» قال ذلك وضحك فبادره قراقوش قائلا: «لا أظن أحدا أطمعه فيها سواك وقد أحسنت. أكمل.»
فقال الهكاري: «ألا تراه أهلا لها؟ ما لنا ولذاك؟ إن نور الدين لما سمع بما فعله صلاح الدين في الكرك خرج من دمشق قاصدا حرب الإفرنج ليغتنم تضييق صلاح الدين عليهم من جهة ويضيق عليهم هو من جهة أخرى فيذهب ملكهم. وقد رأيت في ذلك خطرا على سلطاننا؛ لأن نور الدين متى أذل الإفرنج وأخضعهم تفرغ للسلطان صلاح الدين وهو وزيره والناس أطوع له منه فتذهب مطامع صلاح الدين في مصر أدراج الرياح، والأفضل أن يبقى نور الدين مشغولا عن صلاح الدين بمحاربة الإفرنج حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.»
فقطع قراقوش حديثه قائلا: «لله درك من داهية! وأحسبك عرضت هذا الرأي على السلطان.»
قال: «عرضه عليه بعض الناس وأشار عليه أن يرجع إلى مصر بحجة ينتحلها ومما ذكروه له أن نور الدين إذا دخل بلاد الإفرنج وهم على هذه الحال وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام معه. وإن جاء نور الدين إلى مصر وصلاح الدين فيها فلا بد له من الاجتماع به، وحينئذ يكون نور الدين المتحكم فيه بما يشاء. إن شاء تركه أو لا، وقد لا يقدر على الامتناع عليه. وقد رجع مولانا السلطان إلى مصر كما تعلم. وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين وأنهم عازمون على الوثوب بها، وأطال في الاعتذار. ولكن يظهر أن نور الدين لم يصدق هذه الأعذار. فبعث إليه كتابا يهدده فيه إن لم يأت إلى دمشق، فلقيته في هذا الصباح وقد أخذ منه الغضب مأخذا عظيما، فأسر إلي بسبب غضبه وأنه لم يعد يستطيع صبرا على كتمان غرضه، فخففت عنه واستمهلته، ولا أراه مصغيا، ولا أخال هذه الدعوة إلا لأمر يتعلق بالكتاب.»
وكانا قد وصلا إلى قاعة الاجتماع والحرس ببابها فأزاحوا لهما الستر فدخل الهكاري أولا وتبعه قراقوش، وكانت جلسة حافلة اجتمع فيها نخبة الخاصة من رجال صلاح الدين وأهله، وفي جملتهم أبوه نجم الدين، وخاله شهاب الدين الحارمي، وابن أخيه تقي الدين.
فألقى الهكاري وقراقوش التحية، فرد صلاح الدين عليهما وقال: «مرحبا بالفقيه الحكيم ضياء الدين، وبالبطل الأستاذ قيم القصر بهاء الدين.» وأشار إليهما بيده فجلسا وعينا الهكاري تراعيان صلاح الدين فرآه برغم ما يحاول إظهاره من التؤدة وسعة الصدر وسكون البال قد تجلى الغضب في عينه.
فلما استقر المقام بالجلوس قال صلاح الدين: «يا نخبة الأمراء الأبطال وخيرة الأهل والخلان، إن السلطان نور الدين صاحب دمشق أقلق راحتنا بمراسلاته وهو يطلب إلينا الذهاب إليه. ونحن فيما تعلمون من حرج المقام وما يحدق بنا من الدسائس والمكايد في بلد كل أهله أعداؤنا يترقبون منا غفلة أو ضعفا ليثبوا علينا. فلما اعتذرت له بذلك كتب إلي يهددني أنه حامل بخيله ورجله. وأنتم رجالي وأهلي وما يقال لي كأنه يقال لكم، فلم أشأ أن أقطع في الجواب قبل أن أشاوركم، فماذا ترون؟»
صفحه نامشخص