قال: «فهمت مرادك، إنك تفكر في أمر نور الدين، وهل إذا أعلنت الدعوة في المساجد للعباسيين تكون مصر ملحقة بالشام تابعة لنور الدين أم ...»
فأبرقت أسرة صلاح الدين ولمعت عيناه وأتم كلام أبيه قائلا: «أم لصلاح الدين وحده؟»
فابتسم أبوه وقال: «إنك تتعجل أمرا لا بد من التؤدة فيه، إنما يهمنا الآن الدعوة.»
قال: «أما الدعوة فسننظر في أمرها ولكنك لم توضح لي رأيك من الوجه الآخر.» قال: «وما هو؟» قال: «أنت تعلمه ولكنك تريد أن تسمعه من فمي فاسمع. إني قد دبرت أمر مصر وضبطت شئونها بسيفي وتدبيري وبسيف عمي من قبلي. ونور الدين قاعد في قصره بدمشق ومملكته واسعة ومماليكه كثيرون. فهل من العدل أن تكون مصر له أيضا ونبقى نحن من خدمه أو قواده؟ ما الذي يمتاز به نور الدين عنا؟ هل ابتاعنا بماله؟ نحن لسنا من مماليكه. إننا قواد. وهذه مصر يستحيل عليه إخضاعها بدوني. فأنا لا أبايع للخليفة العباسي إلا على أن أكون صاحب مصر وليس نور الدين.»
وما أتم كلامه حتى بان الغضب في جبينه مع الاهتمام، وتفرس في وجه أبيه ليرى رأيه في ذلك. فابتسم نجم الدين وقال: «بورك فيك يا يوسف إنك تطلب السيادة، وأنت أهل لها، ولكن لكل أجل كتاب.»
قال: «أحب أن أعلم رأيك، ألا ترى لي حقا فيما أقول؟»
فضحك نجم الدين ضحك استخفاف، وعبث بلحيته يمشطها بأصابعه ثم قال: «إن الحق يا بني للقوة، تلك هي قاعدة أصحاب السياسة، وإلا لوجب علينا أن نخرج من هذا البلد ونتركه لأهله؛ لأن صاحبه إنما استنجد الأتابك نور الدين على رجل من خاصته تمرد عليه، فأنجده بعمك أسد الدين وأنت معه، وكان ينبغي لكما أن تخرجا من مصر بعد الفراغ من تلك المهمة وقبض ما تستحقانه من الأجر على نصركما. فبقاؤك هنا سواء أكان باسم نور الدين أم باسمك إنما هو جشع. وإنما تعده حقا إذا كنت قادرا على تنفيذه، فالحق هو القوة يا بني. تلك هي شريعة الفاتحين.»
وكانت حجة نجم الدين قوية إلى درجة لم يقو معها صلاح الدين على المدافعة وكاد يفحم. لكنه طامع في البلد ويريد أن يتذرع بأية وسيلة كانت لبلوغ غايته. فنهض وهو يتشاغل بإصلاح عمامته الصغيرة، ثم أخذ في فتل شاربيه وهو ينظر إلى أحد جدران الغرفة التي كانا فيها ويتأمل صورا ملونة مرسومة هناك لم يشاهدها من قبل. وكان بجانب كل صورة رف لطيف مذهب. فتقدم نحو الجدار وتفرس في الصور فرأى تحت كل صورة اسم صاحبها. وإذا هم من شعراء الدولة الفاطمية الذين كانوا يفدون على الخلفاء في أيام مجدهم. وهنا تذكر حديثا سمعه عن الخليفة الآمر بأحكام الله الفاطمي. ذلك أنه لما بنى منظرة بركة الحبش صور الشعراء على جدرانها كل شاعر وبلده، ونظم كل واحد منهم يومئذ قطعة من الشعر في المدح نقشوها عند رأسه في الصورة. وبجانب صورة كل منهم رف مذهب. فلما دخل الآمر وقرأ الأشعار أمر أن يوضع على كل رف صرة مختومة فيهما خمسون دينارا وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده.
وقف صلاح الدين هنيهة عند تلك الصرة وهو غارق في الهواجس، فأدرك أبوه ما يجول في خاطره فسكت ليرى ما يكون منه، وتشاغل بالنهوض أيضا ثم أظهر أنه يهم بالذهاب إلى الفراش وصلاح الدين لا يستطيع رقادا قبل أن يوافقه أبوه على الطلب. فالتفت إليه وقال: «تمهل يا أبتاه. إن هذا الخليفة دعانا إلى نصرته على الإفرنج، وأهل القاهرة أنفسهم راسلوا نور الدين وبذلوا له ثلث بلاد مصر إقطاعا، وأن يقيم عمي أسد الدين عندهم وله الإقطاع هو ورجاله أيضا. لا أن يقضي مهمته وينصرف كما تقول. ثم نكث وزيره شاور ولم يف بما وعد فقتلته أنا بيدي فصفا لنا الجو. ولو لم أقتله لم يكن لنور الدين إقطاع ولا ...»
فقطع نجم الدين كلامه وهو يمشي نحوه وقال بلهجة الشيخ الوقور: «إنك تخاصم نور الدين على غنيمة لا تزال في حوزة أصحابها، ولا يحق التنازع بينكما عليها إلا بعد إخراجها من قبضتهم. وهذا لا يكون إلا بنقل الدعوة من الفاطميين إلى العباسيين ثم نرى بعد ذلك، وهذا يكفي الآن.»
صفحه نامشخص