البيعة ليست هي التصويت1
إصرار من لون عجيب، دون كل شعوب الدنيا، على إدخال الدين في كل مدخل كبر شأنه أو صغر، إصرار أصبح نوعا من المرض العضال. وضمن هذا الإصرار يأتي إلحاح الذين يلعبون السياسة بالإسلام، وكيف أمكنهم العثور في الإسلام على كل ما وصلت إليه المبادئ والقيم والحقوق الإنسانية في زمن الحداثة وما بعدها، وكل ما يتعلق بنظام الحكم المتفوق والذي أدى لتفوق بلاده حيثما تم تطبيقه، مما دفعهم بدلا من الأخذ به وتطبيقه إلى البحث في ركامنا التاريخي عن كل مكونات العمل السياسي الديمقراطي كما هو في أقصى نضوجه اليوم. وأول سؤال بديهي يطرح نفسه إزاء سادتنا هؤلاء هو: إذا كنا نملك كل تلك الأدوات الحاكمة بين الشعب والدولة، بما يؤدي إلى إرادة شعبية هي الحاكم الحقيقي عبر انتخابات حرة، إذا كنا نعرف حقوق الإنسان فعلا، إذا كنا نعرف ما هي الحرية؟ فلماذا نحن هنا في القاع، ولماذا هم هناك يجوبون الفضاء؟! والمصيبة الأفدح أن تكون كل تلك القيم الدافعة للتحضر موجودة في ديننا ولا نعرفها ولا نكتشفها إلا بعد أن نراها محققة في بلاد الغرب، وهو ما يعني أحد أمرين: إما كذب وبطلان هذا الادعاء كله برمته، وأن الإسلام لم يعرف مفاهيم الحريات والمساواة وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية التي نعرفها اليوم، وهو الموقف العلمي الذي لا بد منه؛ لأن تلك مفاهيم بنت زماننا لم تكن تعرفها البشرية زمن الدعوة الإسلامية، وإن عرفتها مناطق أخرى كاليونان وروما؛ لأن ال «إما» الأخرى ستعني أن أولي الأمر منا ومشايخنا وفقهاءنا التاريخيين والصحابة والراشدين كانوا يعرفون كل تلك القيم المؤدية للعدل والتفوق والتحضر في ديننا، ولم يعملوا بها ولم يحاولوا تحقيقها، وتركوا المسلمين وغيرهم معهم تحت الظلم والقهر بطول عصور الخلافة السوداء، وهي جريمة تاريخية كبرى، ثم ظهروا يحدثوننا اليوم عن هذا الذي كان بيدهم وكانوا يخفونه عنا! إنهم لا زالوا يريدوننا عبيدا لسدنتهم بسرقة حلمنا في وطن ديمقراطي دستوري حقوقي محترم.
نموذجا لهؤلاء الفلاسفة الجدد الدكتور محمد زيدان، وهو من يكتب للنخبة الراقية من الإسلاميين؛ لذلك هو يشغل منصب رئيس القسم الشرعي بشبكة إسلام أون لاين، وهي أهم شبكة إسلامية حتى الآن، وتحظى بنسبة زوار هائلة. وقد كتب الدكتور زيدان على شبكته عملا بعنوان: «البيعة: شرعية الشورى وتمكين الأمة».
http://islamonline.net/arabic/mafaheem/2005/07/article01.shtml .
وهو عمل مثالي ونموذجي لما نحن بصدده كخطاب إسلامي جديد قرر التفاعل السياسي بعد حراك العالم في سبتمبر 2001م، ليثبت أن حداثتنا موجودة لدينا، وهي ذات الديمقراطية الغربية لكن بمسميات وآليات إسلامية، وهي تناسبنا بعكس تلك الغربية لأنها غريبة عنا. ومن هنا تأتي أهمية موضوع الدكتور زيدان الذي يمكن اتخاذه لمناقشة مسألة البيعة، كأداة ديمقراطية إسلامية في ممارسة الشعب للسلطة، ومدى صدق هذا الطرح من عدمه كشهادة لفلاسفة الإسلام السياسي الجديد. وعليه يمكن هنا إنشاء موضوع يبحث البيعة حسبما تراها أحدث الأدبيات الباحثة في تيار الإسلام السياسي المعاصر.
البيعة كشرعية للنظام
يدخل الدكتور زيدان إلى موضوعه بفقرة قوية تبدو محكمة الترتيب والغرض، يقول: «البيعة من أبرز جوانب الفعل السياسي الذي تمارسه الأمة؛ إذ إنها في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم، بل وتسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
فهي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وأداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى، وهي صيغة تمكين الأمة لا إخضاعها، قبل الدولة وبعدها، والبيعة في الخبرة النبوية هي عقد اجتماعي تأسست عليه الأمة ثم الدولة؛ فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة كان عقدا حقيقيا تاريخيا، تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة، وأفكار واعية ناضجة من أجل تحقيق رسالة سامية، في حين أن فكرة العقد الاجتماعي عند روسو مثلا في الفكر الغربي الحديث، كانت تبريرا غيبيا لا نصيب له من الواقع، لجأ أصحابها إليها لمحاربة سلطة الحاكم الفرد عبر أسطورة لم يشهد تاريخهم تحققها كما حدث في التاريخ الإسلامي.»
ألا ترون هذا الكلام الكبير العظيم الفخيم؟ ألا تروننا قد سبقنا عقد روسو الاجتماعي في بيعتي العقبة، بينما نحن في قاع الأمم تراتبا؟ بل إن عقد روسو كان مجرد تهويم غيبي مقابل عقدنا الواقعي الحقيقي (البيعة) الذي تشهد عليه أحداث تاريخية وقعت مرتين عند العقبة. مثلي لا يقتنع بسهولة بطرح الكلام الجميل المرتب المنمق المفلسف؛ لأن ذلك لو كان حقا لكنا نحن القاطرة التي أخذت العالم نحو الحداثة منذ ألف وأربعمائة وستة وعشرين عاما، ولكنا الأكثر رقيا وتقدما نحن ودول العالم الأخرى مما هي عليه الدنيا الآن. هنا لا بد أن نشك في الكتالوج المقدم إلينا من الدكتور زيدان؛ فالكتالوج يقول شيئا وواقعنا يقول شيئا آخر، ومن ثم وجب البحث وراء ما طرح الدكتور ومدى صدقه من كذبه أو تدليسه.
صفحه نامشخص