وكلنا يعلم أيضا أنه بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر، فإن محمد علي لم يلجأ للأزهر مع عزمه وكارزميته وخططه لبناء مملكة قوية، إنما اتجه أولا إلى التخلص من كل مراكز القوى الفاسدة في مذبحة القلعة، ثم اتجه ثانيا نحو أوروبا، ولم يستطع الأزهر حينها أن يقدم بديلا وطنيا أو قوميا أو دينيا أو محليا للتحضر كالغرب، لم يكن عنده ما يفيد به الأمة وينهض بها، كان خالي الوفاض، كان لا يعرف سوى التخديم على السلاطين، وهو ما استمر يقوم به، لكن النهضة زمن محمد علي تركته إلى بعث البعثات واستجلاب الخبراء وخطط الإصلاح الغربية، فنهضت مصر لتصبح ندا للدول العظمى في عصرها منذ قرنين من الزمان، وقامت نهضتها على الانفتاح على العلم بمعناه العصري الإنساني الكشفي الابتكاري التجريبي ، وأيامها قال أحدهم: لو كان لمشايخ الأزهر أي نفع لأخذهم معه نابليون إلى فرنسا.
ولا بد من توضيح بدهية معلومة وهي أننا عندما نتحدث عن الأزهر لا نتحدث عن الإسلام؛ لأنه ليس في القرآن أو الحديث شيء اسمه أزهر أو رجال أزهر، وبالنظر إلى حال الأزهر سنجد أنفسنا بإزاء حالة متخفية تتحرك في عالم حفري؛ لأن علماء الأجناس والحضارات يقولون لنا إن أية حضارة سليمة لا بد أن يضيف إليها الجيل الواحد إضافات ابتكارية جديدة تصل إلى نسبة 15٪ لتفسح المجال للتطور والنمو والازدهار، بينما تعلقت قلوب الناس في بلادي برجال الدين، فإن رجال الدين في بلادي ما زالت غاية أمانيهم أن نعود معهم إلى القرن السابع ميلادي! هي دعوة إلى «الخلاء» حيث لا تاريخ، ولا وجود.
وإذا طالعنا كشف حساب الأزهر في تأدية مهمته التأسيسية، وهي حماية دينه ومجتمعه، بما له من كرامة مرفوعة وأموال مدفوعة ليؤدي دوره التربوي والديني، ولأنه قلعة ديننا الحصينة بالفرض الضروري ليبرر وجوده، فإن أزهرنا لم يحصن نفسه ولا مجتمعه ولا دينه، وفشل بكل سلطانه القادر في إرساء مبادئ الدين السمح ومعاني الأمن والأمان أو التطور بالدين ليتماشى مع متطلبات الزمن، لقد فشل الأزهر في ذلك ولم يستطع مواجهة الفكر التكفيري، بينما من تصدى لهذه المهمة للحفاظ على الدين وعلى الناس وعلى الوطن، هم المفكرون الليبراليون الذين يكفرهم الأزهر، وإنهم في ذلك أصحاب الفضل العظيم الذي لا ينكره إلا فاسد الضمير والأفاق اللئيم. لقد فشل الأزهر لأن الفيروس اخترقه مبكرا، بينما أمن الليبراليون من الإصابة عندما تحصنوا بطعم الحضارة.
لقد فشل الأزهر في أداء دوره لله وللوطن وللناس عندما أصر، ولم يزل يصر، على مسلمة أن «الحق لا يتغير».
نعم إن الحق والخير والجمال هي قيم مطلقة بين بني الإنسان، لكن معيار القيمة نفسه قد تغير بمرور الزمن، واكتسبت هذه القيم معاني جديدة، وللتبسيط الشارح أتساءل: هل تكون مضاجعة رجل لامرأة رغم إرادتها بحجة أنها جارية أو ملك يمين أو سبية حرب ... خيرا؟! أم هو هتك عرض علني بموافقة القانون الشرعي؟!
وهل يظل القانون الذي يشرع هذا قانونا ملائما اليوم؟! وهل مضاجعة صغيرات البنات حتى سن تسع حسب المبدأ السني المعلوم هو خير اليوم أم شر؟! وهل الفنون الجميلة بأنواعها من موسيقى إلى مسرح إلى باليه إلى غناء وطرب إلى فن تشكيلي رسما أو نحتا أو تصويرا، مما يرتقي بالحس الإنساني ويؤدي إلى رهافة الروح ... هل هذا شر أم خير؟! وهل تفجير زوار الحفيد النبوي في مساجد العراق في يوم الجمعة، وتمزيق أشلاء الأبرياء من شيعة أو سنة أو نصارى العراق ... هو خير أم شر؟ يبدو سادتي أن الأزهر بما يعلنه يعيش زمنا غير زماننا، وعلينا نحن أن نراجع شئونه، وقبل هذا وذاك أن نراجع فهمنا لقيم الحق والخير والجمال بما يوافق زماننا.
والعجيب أن الأزهر يراوح مكانه دون أن يلتفت شرقا إلى بلاد المقدسات ليرى الإصلاح وهو يدق أبواب الأرض المقدسة، ونوافذ محمد بن عبد الوهاب، ثم قام الأزهر يصلح ويعالج بعد أن دقت أمريكا عاصمة الخلافة، منذرة بقية الأنظمة الخليفية في المنطقة، لكن الأزهر قام يصلح بنفس الفكر ونفس الأدوات وذات المنهج والمنطق، فهو يعالج بينما هو حامل الوباء، ويداوي بالتي كانت هي الداء. مشايخنا ما زالوا عند قديمهم لا يدركون أن القيم أيضا متغيرة، وأن الحق ليس واحدا، وأن الخير والجمال أيضا قد أصبحا قيمتين إنسانيتين لا طائفيتين، بل تشملان جميع البشر.
كان يفترض في الأزهر بالنسبة للدين أن يكون كوزارة الصحة بالنسبة للمواطنين، لكنه عندما لم يتحرك اخترقه الوباء واستشرى فيه وانتشر؛ فإذا برجاله يصدرون فتاوى قتل الأبرياء فيستشهد فرج فودة، ويطعن نجيب محفوظ، ويقفون ضد الحملة التي قامت للقضاء على عادة ختان الإناث بفتاوى محتشدة، ويكفرون بنوك الدولة ويحرمون معاملاتها بما يضرب الاقتصاد الوطني في مقتل.
فذهب الناس يودعون أموالهم بيوت الأموال الإسلامية برعاية مباشرة علنية دعائية من رجال الدين في بلادنا من شعراوي إلى قرضاوي، إلى أزلامهم ممن وفروا للصوص نهب فقراء مصر وتدمير اقتصادياتها، عندما ركن الناس إلى ثقتهم في مشايخهم بإيمان تسليمي خانع خاضع يبحث عن ربح سريع دون بذل أي جهد، فكان ما كان، وكم حذر أخي وصديقي الراحل ممجدا فرج فودة من بيوت الأموال (ارجع لكتابه «الملعوب»)، وقدم فيه الدراسات الوافية بحسبانه اقتصاديا مبرزا ووطنيا مخلصا، في وقت كان المشايخ يعلنون ويدعون لبيوت الأموال، وأيضا يقبضون أجورهم من هذه البيوت من مال الفقراء، وقتلوا فرج بفتاواهم وفروا بأموال الناس، ولم يقم واحد فقط ممن قبضوا من هذه الأموال بردها حتى تعود لأصحابها، من شعراوي إلى قرضاوي وما بينهما وما بعدهما من أزلام، ومع ذلك ما زال عوامنا يعتبرونهم السادة والأسياد.
لقد ظلوا يقولون ألفا وأربعمائة عام (أربعة عشر قرنا) البخاري يقول ... وابن عباس يقول ... وابن تيمية يقول ... وابن لادن يقول ... ليضيفوا لإسلامنا ما لم يكن فيه يوما، وكلهم ليسوا بأنبياء، لقد قالوا طويلا وقننوا طويلا، لكن اليوم من سيقول، هو نحن ... الناس، وسنقول كل مختلف عن المعلوم بالضرورة، وسنعلن كل رأي يضرب الخطوط الحمراء جميعا، ويهتكها هتكا، وسنتجاوز كل الأسوار المانعة القامعة من ثوابت الأمة، سنقول مصالحنا ومعاشنا ومستقبلنا وحرياتنا وحقوقنا الإنسانية، نريد عندما ينزل المواطن المصري بلدا لا يفتشون حتى ما تحت ملابسه الداخلية، نريدهم أن يستقبلوه هاشين باشين حفاوة بإنجازه وعلمه ونبوغه، لقد انتهى بنا مشايخنا إلى كاريكاتير دموي ومحل هزوء وسخرية واحتقار من شعوب العالم، بعد أن وأدوا وقتلوا كل جميل في بلادنا.
صفحه نامشخص