فأسرعت هيلين تقول: إن هذا الخندق ليس كالخنادق، إن طوله عشرة آلاف ذراع رومية، وعرضه مائتان، وقد عزموا أن يغطوه بالحصير، وفصيل القصب، ثم يضعوا فوقه طبقة من التراب لا تدع للمرء شكا في أنه أرض يابسة كالأرض التي حوله. وقد قدروا أن خليفتكم لا بد واثب على المدينة من الناحية الشرقية؛ لأنها طريق مقدمه من غيتاب، فإذا كر جيشه الكرة الأولى يا حبيبي سقط الآلاف من نخبة أبطاله في الحفرة، ووقع فيه الذعر والخبال فالتف حوله جيشنا من الناحيتين الشمالية والجنوبية فلم يترك فيه رجلا يستطيع أن ينقل أخبار الكارثة إلى بغداد، أرأيت يا حبيبي كيف أن السر جد خطير؟! فاضطربت نفس نزار، وهاله الأمر، ورأى أن الواقعة واقعة بالمسلمين لا محالة، ولكن شعاعا خافتا من الأمل خفق خفقة في ظلام يأسه، فمال نحو هيلين، وشرع يعانقها في شغف وحنان، ويردد: قبليني يا حبيبتي قبل أن أموت، قبليني قبلة الوداع، فذهلت هيلين، واتسعت حدقتاها من هول ما سمعت، وقالت مذعورة: تموت يا حبيبي؟! إنني وقومي وبلاد الروم كلها فداك، لم تقول هذا يا زهرة آمالي؟! أتحس شيئا؟ - أحس أنني مائت لا محالة، فبالله دعيني أتزود منك بنظرات قليلة قبل أن ألقى حتفي. - تلقى حتفك يا حبيبي؟ ممن؟ - من قومك الروم. - كيف؟ - إنهم إذا هزموا جيش العرب - وهم لا شك هازموه - اتجهوا نحو هذا السجن ليقتلوا أعدى أعدائهم من العرب، وقد كانوا يبقون علي يا هيلين خوفا من غضب الرشيد، فماذا يكون أمرهم معي بعد أن يزول الرشيد، ويزول ملكه؟ ودعيني يا هيلين. وإذا لم تتسع هذه الدنيا لحبنا فإننا سنلتقي في سماء كلها صفاء، وحب، ونور.
فوجمت هيلين ذاهلة، ثم أخذت تغمغم: نعم، إن هذا صحيح، إن كل ما قلته صحيح يا حبيبي، ثم سكتت قليلا كالمفكرة وصاحت: أسرع يا حبيبي أسرع، هلم نفر معا، ونعش بعيدا عن هؤلاء الوحوش من عرب وروم. - ما كان أحب هذا إلى نفسي يا فتاتي، ولكني أخشى إذا عثروا علينا أن يقتلونا معا، وأنت كل شيء عندي في هذه الحياة، وخير لي أن أقتل من أن أرى أظفورا منك يمس بسوء. لا يا هيلين، دعيني أفر وحدي، فإنني إذا اطمأننت إلى سلامتك، وأنك في حرز أمين لتضاعفت قوتي، وزادت جرأتي، واستطعت الفرار من جنود الروم، ولو كانوا من جن سليمان، وسوف نلتقي في ليلة ضاحكة نسخر فيها من رعبنا وجزعنا في هذه الليلة. - صدقت يا حبيبي، ولكن الجنود يحيطون بالمدينة من جميع جهاتها إلا من ناحية النهر، فهل تستطيع السباحة طويلا؟ - نعم. - انتظرني قليلا، ثم عادت بعد لحظات وهي تقول في نبرة مرتجفة: لن تخشى شيئا من حارس القصر، فقد نفحته بحفنة من الذهب، ثم نظرت إليه نظرة طويلة، ومدت إليه ذراعيها تعانقه في شغف حزين، وهمست باكية تقول: اذهب يا نزار، والإله حارسك، وجميع القديسين معك. •••
وخرج نزار في ظلمة الليل، واتجه إلى الجانب الغربي من المدينة، وكانت الطريق خالية من السابلة إلا قليلا، حتى إذا بلغ النهر خلع ثيابه، وقفز بنفسه في الماء، وكان البرد شديدا، والريح عاصفة، والأمواج تجتمع وتفترق كأنها رءوس الأفاعي، وأدركته لحظات خوف وخور، ولكنه شد على نفسه، وذكر عظيم الغاية التي يقصد إليها، وأنه سينقذ جيشا، ويحمي أمة وخليفة، فسارع في العوم، ومرت به ساعات حتى اجتاز حدود المدينة، وجاوزها بعيدا، فسبح نحو الشاطئ، وقد نال منه الجهد، وكاد يقتله البرد؛ فلمح نورا خافتا يلمع من خصاص كوخ لا يبعد عنه كثيرا، فاتجه إليه، ودفع بابه فإذا راهب رومي يتعبد في عزلة عن الناس، فلما رآه الراهب ذعر وصاح مستنجدا بالعذراء، وجميع القديسين، فقرب منه نزار قائلا: لا تخش سوءا أيها الرجل؛ فإنني - وقد كاد يقتلني البرد - لا أريد منك إلا هذا، ثم جذب ثوب الراهب وقلنسوته فلبسهما واستراح بالكوخ قليلا حتى هدأت نفسه، وعاد إليه نفسه، ثم خرج متجها نحو الشرق وهو حائر يفكر في وسيلة للوصول إلى جيش العرب، وبينما هو في هم ناصب إذ لمح شرذمة من فرسان الروم، فتحركت فيه غريزة النمر، ولمعت عيناه بوميض الأمل، ووثب كالنسر الجائع على أحدهم، وكان عن رفقته بعيدا، فطعنه بخنجره، وأسرع فوثب على فرسه، واندفع اندفاع السهم نحو الشرق، وأحس به بقية الجند، فأسرعوا خلفه صائحين: جاسوس! جاسوس عربي في زي راهب! ثم أطلقوا خلفه وابلا من السهام، فكان يميل يمنة ويسرة ليتقيها، وهو يهمز الفرس ويزجره زجر اليائس حتى بعد عن مرماهم، ولكن بعض السهام أصابه بين كتفيه، وأحس نزار بالدماء تنسال من جسمه، وأدركه ضعف شديد لشدة ما نزف، وكاد يسقط عن جواده، ولكنه تماسك وانتصرت قوة عزيمته على ضعف جسمه، وما زال يغذ السير حتى بلغ جيش الرشيد، فتصايح العرب: راهب رومي! ماذا يريد هذا الراهب؟ إنه يعدو بفرسه في اضطراب وجنون.
وصاح نزار بقدر ما يستطيع أن يصيح: أين الخليفة؟ أين الرشيد؟
وأسرع الرشيد إليه فقال: ما خطبك أيها الراهب؟ فأجاب نزار: أنا يا أمير المؤمنين نزار بن حمزة الخزاعي، فررت من سجن الروم، احذروا الناحية الشرقية عند الهجوم على هرقلة، لأن بها خندقا يلتهم الجيش كله، اجتنبوا ناحية شجر الصفصاف، ثم غلبه الإعياء، وألح عليه النزف؛ فسقط عن جواده، فصاح الرشيد: علي بطبيبي! علي بجبريل بن بختيشوع!
وسمعت حفصة ضجة الجنود، ورأت تزاحمهم فأسرعت واندست بين القوم، ثم رمت بنظرها إلى الجريح فكادت تصعق، وأحست بأن قلبها وقف في صدرها، فألقت نفسها عليه، وهي تصيح في خبال بين بكاء وقهقهة: حبيبي نزار! وجدته! ثم ظهر على وجهها الوهل، والذعر، وقالت: ويلاه، إنه يجود بنفسه! إنه يحتضر!
وأقبل جبريل بن بختيشوع ومعه جملة من العقاقير، وقال في رفق: دعيه الآن يا فتاة، وأرجو أن ينقذه الدواء، إنه شاب قوي البناء، ريان الفتوة، ومثل هؤلاء يقاومون الموت، ثم ضرب بكف على كف قائلا: إن جلده يضرب إلى الزرقة، لقد أصابه سهم مسموم، ولكن لي أملا في شفائه لن يخيب، ثم مزج في عجلة له شيئا من الدواء في قدح، وأعطاه ثلاث جرعات، ففتح الجريح عينيه في بطء، فلما رأى حفصة زفر، وقال في صوت خافت: حفصة؟! الحمد لله! الحمد لله!
فاستبشر الطبيب وقال للخليفة: طب نفسا يا أمير المؤمنين؛ فسوف يزول أثر السم بعد قليل، ولن يطول بالمريض مرضه أكثر من أربعة أيام، ثم أشار إلى حفصة قائلا: وهذه الفتاة التي تحتضنه ستسكب فيه الحياة والقوة والأمل، وتغالب في نفسه أسباب الفناء، إنها يا أمير المؤمنين خير له ألف مرة من كل ما في الأرض من دواء. •••
ومرت الأيام، وشفي نزار، وتقدم جيش الرشيد متجها إلى الناحية الشمالية من المدينة فقهر، ودمر، واستاق أمامه جحافل الروم متخاذلة مهزومة، ودخل الرشيد المدينة، وقدم عليه نقفور وبطارقته منكسي الرءوس، مذللي الأعناق، يعلنون التوبة، ويطلبون الصلح، ويقبلون كل جزية يطلبها أمير المؤمنين، وتقدم أبو العتاهية فأنشد الرشيد يهنئه بالفتح:
إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا
صفحه نامشخص