Sahih al-Targhib wal-Tarhib
صحيح الترغيب والترهيب
ناشر
مكتبة المعارف للنشر والتوزيع
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٢١ هـ - ٢٠٠٠ م
محل انتشار
الرياض
ژانرها
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الجديدة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، (^١) ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فقد كنا طبعنا من كتابي الفريد الحبيب "صحيح الترغيب والترهيب" المجلد الأول منه طبعات، آخرها الطبعة الثالثة سنة (١٤٠٩) من منشورات مكتبة المعارف في الرياض، لصاحبها الشيخ الفاضل (سعد الراشد)، والآن فقد رغب مني -بارك الله فيه- الشروع في طبع بقية مجلداته، وطبع قسيمه "ضعيف الترغيب"؛ الذي لم يتيسر لي نشر شيء منه فيما سبق.
لذلك فقد رأيت أنه من الضروري إعادة النظر، في "الصحيح" و"الضعيف"؛ لأنني مع حرصي الشديد في تحريرهما، وتحقيق القول في أحاديثهما، على المنهج العلمي الدقيق الذي كنت تحدثت عنه في مقدمة الطبعة الأولى للمجلد المذكور، كما ستراه في المقطع (٣٤) الآتي، ومع ذلك فقد كنت مضطرًا للاعتماد على المنذري في التصحيح والتضعيف، والتجريح والتعديل،
_________
(^١) قلت: يزيد بعض الخطباء هنا: "ونستهديه"، ولا أصل لها في هذه الخطبة الكريمة المعروفة بـ (خطبة الحاجة)، في شيء من طرقها التي كنت جمعتها عن النبي ﷺ في رسالة، وفيها بيان أنه ﷺ كان أحيانًا يقرأ بعدها ثلاث آيات معروفة من سور: (آل عمران)، (النساء)، و(الأحزاب)، وبعضهم يقدم منها ما شاء ويؤخر، وربما زاد فيها ما ليس منها، غير منتبهين أن ذلك خلاف هديه ﷺ، وأنه لا يجوز التصرف في الأوراد ولو بتبديل لفظ، ولو لم يتغير المعنى. انظر التعليق على حديث البراء الآتي في (٦ - النوافل/ ٩).
1 / 3
وغيرها حينما لا أتمكن من الرجوع إلى أصوله ومصادره التي رجع إليها، وكذلك اعتمدت على غيره أيضًا كما بينته في المقطع (٣٥) الآتي.
أما اليوم -وبعد مضيّ نحو أكثر من عشرين سنة على التحقيق المذكور- فقد حدثت أمور، وتطورت بعض الآراء والأفكار، أوجبت إعادة النظر في المزبور، انطلاقًا من قولي المعروف: (العلم لا يقبل الجمود). ومن أهم تلك الأمور، وأسباب تطور الأفكار صدور بعض المطبوعات والمصورات من الكتب الحديثية التي لم تكن معروفة من قبل، وفيها كثير من مصادر المنذري المشار إليها آنفًا، منها على سبيل المثال:
١ - صحيح ابن حبان: الإحسان.
٢ - مسند أبي يعلى.
٣ - كشف الأستار عن زوائد البزار.
٤ - وأخيرًا أصله المسمى "البحر الزخار"، طبع منه حتى اليوم ثمانية أجزاء.
٥ - معجم الطبراني الكبير.
٦ - معجم الطبراني الأوسط.
٧ - الدعاء. له.
٨ - شعب الإيمان للبيهقي.
٩ - الزهد الكبير. له.
١٠ - كتب ابن أبي الدنيا، وهي كثيرة، وطبع لها "فهرس الأحاديث" بقلم
1 / 4
محمد خير رمضان يوسف.
وغيرها كثير وكثير جدًا من مختلف علوم الحديث من المسانيد والتراجم وغيرها.
وأما المصورات، فمن أهمها:
١ - المطالب العالية المسندة، لابن حجر العسقلاني.
٢ - تفسير ابن أبي حاتم. ثم طبع أخيرًا.
٣ - الطب النبوي، لأبي نعيم.
٤ - الغرائب الملتقطة من "مسند الفردوس" لابن حجر.
٥ - الكنى والأسماء، لأبي أحمد الحاكم.
٦ - مسند السراج.
٧ - معرفة الصحابة، لأبي نعيم، ثم طبع منه الأول والثاني.
٨ - البر والصلة لابن المبارك.
٩ - المعجم لابن قانع، ثم طبع في ثلاثة مجلدات.
١٠ - الوهم والإيهام لابن القطان الفاسي، ثم طبع أخيرًا في ستة مجلدات. وغيرها كثير.
فأقول: هذه المصادر كانت من الأسباب التي فتحت لي طريقًا جديدًا للتحقيق علاوة على ما كنت قدمت، فقد وقفت فيها على طرق وشواهد
1 / 5
ومتابعات لكثير من الأحاديث التي كنت قد ضعفتها تبعًا للمنذري وغيره، أو استقلالًا بالنظر في أسانيد مصادرها التي ذكرها هو أو سواه، فقويتها بذلك، وأنقذتها من الضعف الذي كان ملازمًا لأسانيد (^١) مصادرها المذكورة في الكتاب، إلى فوائد أخرى لا يمكن حصرها، وقد نبهت على بعضها بالحواشي، انظر مثلًا التعليق على الحديث (١٠) (٥ - الصلاة/ ٨). وعلى الحديث (٥) (٥ - الصلاة/ ١٢)، وعلى الحديث (١٠) منه.
وعلى العكس من ذلك فقد ساعدتني بعض الطرق المذكورة في المصادر الجديدة على اكتشاف علل كثير من الأحاديث التي قواها المؤلف أو غيره: كالشذوذ، والنكارة، والانقطاع، والتدليس، والجهالة، ونحوها، كما ساعدتني على تبين خطأ عزوه إلى بعضها، كأن يطلق العزو للنسائي الذي يعني (السنن الصغرى)، والصواب أنه في (السنن الكبرى) له، أو أن يعزو للطبراني مطلقًا ويعني (المعجم الكبير) له، وهو خطأ صوابه (المعجم الأوسط) له، (^٢) ونحو ذلك.
ومن قبل لم يكن ممكنًا الوقوف على هذه المصادر التي جدَّت وسميتُ آنفًا بعضها. وكذلك ساعدني ذلك على تصحيح بعض الأخطاء الهامة التي ترتب عليها أحيانًا تضعيف الحديث الصحيح براوٍ ضعيف مثل (شهر بن حوشب)، وهو ليس في إسناده كما ستراه في الحديث (٢) من (٦ - النوافل/ ٨)، إلى غير ذلك من أخطاء أخرى ما كانت تظهر لولا هذه المراجع.
هذا ما يتعلق بالمصادر العلمية التي صدرت حديثًا.
_________
(^١) انظر مثلًا الحديث الأول الآتي في (٤ - الطهارة/ ٣)، فقد أعله المؤلف بجهالة أحد رواته، وقويته لشاهد من غير طريقه، وهو من فوائد كتاب ابن القطان الفاسي. ونص الحديث (٧) في (١ - الإخلاص/ ١)، ومثله كثير.
(^٢) انظر التعليق على الحديث (٦) في (٢ - السنة/ ٢).
1 / 6
وأما ما يتعلق بالآراء والأفكار، فالإنسان بحكم كونه خلق ضعيفًا، وساعيًا مفكرًا، فهو في ازدياد من الخير، سواء كان ماديًا أو معنويًا على ما يشاء الله ﷿، ولذلك تتجدد أفكاره، وتزداد معلوماته، وهذا أمر مشاهد في كل العلوم، ومنها علم الحديث القائم على معرفة الألوف من تراجم الرجال، وما قيل فيهم جرحًا وتعديلًا، والأطلاع على آلاف الطرق والأسانيد، فلا غرابة إذن أن يختلف قول الحافظ الواحد في الراوي الواحد والحديث الواحد. كما اختلفت أقوال الإمام الواحد في المسألة الواحدة كما هو معلوم من أقوال الأئمة، ولا داعي لضرب الأمثلة فهي معروفة، فبالأولى أن يكون لأحدنا من الباحثين أكثر من قول واحد في الراوي الواحد وحديثه، ولبيان هذا لا بأس من ضرب بعض الأمثلة:
١ - عبد الله بن لَهيعة المصري القاضي الصدوق، (^١) نشأنا في هذا العلم، ونحن ندري أنه ضعيف الحديث لاختلاطه، إلا فيما كان من رواية أحد العبادلة عنه، ومع البحث والتحري انكشف لي أن الإمام أحمد ألحق بهم (قتيبة بن سعيد المصري)، كما بينت ذلك في "الصحيحة" (٢٥١٧)، وقد يكون هناك آخرون.
٢ - دراج بن سمعان أبو السمح المصري، جريت إلى ما قبل سنين على تضعيف حديثه مطلقًا سواء كان عن أبي الهيثم أو غيره، ثم ترجح عندي أنه حسن الحديث إلا عن أبي الهيثم في بحث أودعته في "الصحيحة" أيضًا برقم (٣٣٥٠) (^٢).
_________
(^١) انظر على سبيل المثال التعليق على الحديث (٦) في (٤ - الطهارة/ ٧) والتعليق على الحديث (٦) أيضًا (٤ - الطهارة/ ١٠). والحديث (١٥) في (٨ - الصدقات/ ٣).
(^٢) انظر الحديث (٣) في (٣ - العلم/ ٨).
1 / 7
فلهذا فقد تطلب مني التحقيق الجديد إعادة النظر في كل حديث في كتاب "الترغيب" في إسناده أحد هذين الراويين، لتلحق -على ضوء هذا التفصيل- بـ "الصحيح" أو "الضعيف" منه.
ويشبه هذا -من حيث إعادة النظر- الرواة المعروفون بالاختلاط أو التدليس، والثقات المضعفون في بعض شيوخهم مما هو معروف عند المشتغلين بهذا العلم الشريف، فهذا النوع أيضًا قد تطلب مني جهدًا خاصًا لتمييز صحيح حديثهم من ضعيفه، وقد وفقت في ذلك إلى حد كبير كما سيرى القراء التنبيه على ذلك في التعليقات مع الإيجاز. والفضل لله أولًا وآخرًا.
وثمة سبب آخر يستدعي إعادة النظر في الكتاب، ألا وهو ما فطر عليه الإنسان من الخطأ والنسيان، وهو وإن كان لا يؤاخذ عليه المرء كما هو ثابت في القرآن والسنة، فلا يجوز الإصرار عليه إذا تبين، ولذلك فإن من دأبي أنه كلما بدا لي خطأ أو وهم نبهت عليه على هامش نسختي من الكتاب، لأصححها إذا ما قدر له طبعه من جديد. وهذا ما جريت عليه في كل ما يعاد طبعه من كتبي، لا يصدني عن ذلك استغلال ذلك بعض الشانئين والطاعنين من ذوي الأهواء المعروفين بمعاداتهم للسنة والداعين إليها، من الذين يجعلون المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ويتجاهلون ما كان عليه أئمتنا من الرجوع إلى الصواب حينما يتبين لهم. والآثار في ذلك عنهم معروفة مشهورة. (^١)
فتذكرُ الإنسان هذه الحقيقة البشرية، مما يدفع عنه العُجب والغرور، ويحمله دائمًا على الاعتراف بالعجز والتقصير، ليتدارك من الخير والصواب ما فاته، ويقدم
_________
(^١) راجع إن شئت للرد على الطاعنين مقدمتي للمجلد الأول من "الصحيحة" (الطبعة الجديدة)، ومقدمة المجلد السادس منه.
1 / 8
إلى القراء ما هو الأصلح والأنفع بإذن الله تعالى، ليكون كما قال ﵊: "خير الناس أنفعهم للناس"، (الصحيحة ١٢٧).
ولهذا رأيت أن أجعل مراتب أحاديث "صحيح الترغيب" خمسة -مكان المرتبتين: صحيح وحسن سابقًا- وهي كما يلي:
١ - صحيح. وهو ما اكتملت فيه كل شروط الصحة على ما هو معروف في علم "مصطلح الحديث".
٢ - حسن. أي: لذاته. وهو الذي اكتملت فيه شروط "الصحيح"، لكن خف ضبط أحد رواته عن حفظ راوي الحديث "الصحيح".
٣ - حسن صحيح. وهو الحسن لذاته إلا أنه تقوى بمتابع أو شاهد له، وهذا الاستعمال معروف من بعض الحفاظ المتقدمين كالترمذي، وهو الذي أشاعه في "سننه"، ولكن لم يأت عنه ما يوضح مراده منه.
٤ - صحيح لغيره. وهو الذي تقوى بكثرة طرقه التي لم يشتد ضعفها.
٥ - حسن لغيره. وهو الذي قبله، ولكن لم تكثر طرقه، ويكفي فيه طريقان لم يشتد ضعفهما.
وإن مما ينبغي ذكره هنا أن تقرير هاتين المرتبتين الأخيرتين إنما يتم بعد النظر في إسناد الحديث في المصادر المذكورة في الكتاب، ثم بالنظر في أسانيد المصادر التي لم يذكرها المؤلف، فأرفع درجته إلى إحدى هاتين المرتبتين، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد فيهما ما هو صحيح لذاته، فضلًا عن الحسن، كلا، فقد يكون فيها أحدهما، لكني لم ألتزم بيان ذلك في التعليق لكي لا يتضخم حجم
1 / 9
الكتاب، وإنما بيان ذلك في المطولات من مؤلفاتي كـ "الصحيحة" و"الإرواء" وغيرها. وقد أشير إليها أحيانًا، فأرجو الانتباه لهذا.
وإنما اتخذت هذا الاصطلاح -والعلماء يقولون: لا مشاحة في الاصطلاح- لسببين اثنين:
أحدهما: أنه أدق في التعبير عن حقيقة قوة الحديث عند المؤلف، وعن الطريقة التي سلكها في إطلاقه مرتبة من هذه المراتب الخمس.
وجدير بالذكر أن الجهد الذي يفرغه المؤلف لإصدار المراتب الثلاث الأخيرة ليس كالجهد الذي يفرغه لمعرفة المرتبة الأولى والثانية، كما لا يخفى على من مارس هذا الفن، ولا أكون مغاليًا إذا قلت: إنني أفرغ أحيانًا الساعات الطوال، بل وأيّامًا وليالي لإصدار الحكم الرابع والخامس على بعض الأحاديث، وقد تكون النتيجة أحيانًا أن يبقى الحديث ضعيفًا؛ لشدة ضعف طرقه، ونكارة متنه، ولا يعرف هذه الحقيقة إلا من عاناها، كل ذلك حرصًا على حديث رسول الله ﷺ، وغيرة عليه أن يقال عليه ما لم يقل، أو أن ينفى عنه ما قال ﷺ.
والسبب الآخر: أن هذا الاصطلاح أدعى لقطع دابر القيل والقال، والخوض في المناقشة والجدال، مع بعض إخواننا المحبين أو غيرهم، فقد جاءتني على مر السنين استشكالات واعتراضات من عديد من الأشخاص من مختلف البلاد، فيهم المخلص المستفيد، وفيهم المغرض العنيد: كيف حسنت الحديث الفلاني، وصححت الحديث الفلاني، وفي إسناده ابن لهيعة، أو شهر بن حوشب، وأمثالهما؟! فأذكرهم بـ (الحديث الحسن لغيره) المعروف في علم المصطلح، والمطبق عمليًا من الإمام الترمذي في "سننه"، ومن الحفاظ المتأخرين
1 / 10
في تخريجهم للأحاديث كالذهبي، والعراقي، والعسقلاني وغيرهم، فمن أولئك من يتذكر، و﴿إنما يتذكر أولوا الألباب﴾ ويقنع، ومنهم من يُفحم ويَخنس! وأكثر هؤلاء ممن يحسبون أنهم على شيء من هذا العلم، وليسوا على شيء، والواحد منهم كما قال الذهبي ﵀: "يريد أن يطير ولما يريش"! فقد بلوناهم، وابتُلينا بهم. والله المستعان. (^١)
وإنّ من فوائد استعمال الاصطلاحين الأخيرين أنه قد يكون في بعض أحاديثهما جملة أو لفظة قد يستشكلها البعض، ويكون له في ذلك وجهة نظر، فيكون له في الاصطلاح المذكور ما ينبهه ويساعده على الرجوع إلى المتن الصحيح لذاته إن وجد، أو إلى تتبع المتون الأخرى، فقد يتبين له بذلك ما يزيل الإشكال.
ولقد كلفني هذا الاصطلاح العلمي النافع إن شاء الله تعالى جهدًا جهيدًا، وتعبًا شديدًا، وزمنًا مديدًا، لأنه اقتضاني مراجعة المرتبتين المشار إليهما آنفًا في الأحاديث كلها أو جلها، لتعديلها إلى المراتب الخمس الجديدة، حتى قد شعرت أنني لو شرعت بتأليفه من جديد كان أهون علي!
لكن الخير كل الخير فيما يقدره الله لعبده المؤمن، فقد نبهني الله ﷿ في أثناء هذه الدراسة على أوهام كثيرة أخرى للمؤلف رحمه الله تعالى في التخريج والمتون وغيرهما سوى التي كنت نبهت عليها فيما سبق. كما تنبهت لبعض الأوهام التي صدرت مني أنا، فانظر مثلًا التعليق على الحديث (٢) من (٥ - الصلاة/ ٣١).
وإن من ذلك الخير أنني بينت أن التزام هذا الاصطلاح أمر لا بد منه، لما
_________
(^١) وراجع لهذا السبب مقدمتي لـ "صحيح ابن ماجه" (ص ٦ - ٧/ طبعة المعارف).
1 / 11
سبق بيانه، وتمنيت لو أنني تنبهت له من قبل، أو نُبهت إليه، ولذلك فقد عزمت على التزامي إياه فيما أنا قادم عليه من مشاريعي المتعلقة بـ "تقريب السنة بين يدي الأمة"، كما أنصح بذلك كل خادم للسنة، عارف بفن التخريج والتصحيح والتضعيف ولوازمه.
من أجل ذلك فإني أشكر الله تعالى على ما وفقني ويسر لي مِن تحقيق هذا الكتاب مرة أخرى، وقد دخلت في الخامسة والثمانين من عمري بالتأريخ الهجري، فله ﵎ الثناء والمجد، وإليه أضرع وأسأل أن يبارك فيما بقي من عمري ووقتي، وأن يمتعني بسمعي وبصري وقوتي ما أحياني، ويمدني بمدد من عنده وفضله، حتى أستمر في خدمة سنة نبيه ﷺ إلى آخر رمق من حياتي، وأن يلحقني بالصالحين إذا حان أجلي، إنه سميع مجيب.
ثم إنني قد ذكرت آنفًا أني أحيل في تخريج أحاديث الكتاب التي هي بحاجة إلى تخريج -إلى المطولات من مؤلفاتي، وهذا إذا كان الحديث أو الأثر في شيء منها، وإلا كان لا بد من تخريجي إياه في التعليق عليه إذا أعله المؤلف، أو حكم عليه بما يخالف النقد العلمي الدقيق في نظري- بما يكشف عن مرتبته من تلك المراتب الخمس، مع الإيجاز في الكلام بقدر الإمكان. وانظر على سبيل المثال الأرقام التالية (١٣٧ و١٩٧ و٣٩٠ و٥٧٠ و٧١٠) إلى غير ذلك، وهي كثيرة جدًا.
ومن المناسب هنا التنبيه أنه قد يمر بالقارئ الرمز لبعض الأحاديث الصحيحة هنا والضعيفة هناك بكلمة إضافية في كل منهما مثل: (موقوف) و(مقطوع)، والمقصود بهما معًا التنبيه إلى أن الحديث ليس مرفوعًا إلى النبي
1 / 12
ﷺ، وإنما هو من كلام بعض السلف، فإن كان من الصحابة قلنا: "موقوف"، وإن كان ممن دونه قلنا: "مقطوع"، وهذا أمر معروف في علم المصطلح، فأحببت إحياءه والتنبيه عليه، انظر مثلًا الأحاديث (٣٤٨، ٣٤٩، ٩٦٤).
وما دمت لا أزال أتحدث عن المراتب المذكورة، فلا بد من لفت نظر القراء إلى الاصطلاح المطبعي الآتي:
لقد بدا لي وأنا في صدد تصحيح التجارب أن من الأنفع والأسرع لتنبيههم على مرتبة الحديث أن تُطبع المراتب بجنب الأحاديث على الأسلوب التالي:
١ - في الحديث الصحيح أو الحسن لذاته تطبع المرتبة بحذاء السطر الأول يمينًا أو يسارًا من حاشية الصفحة.
٢ - وتطبع مرتبة (صحيح لغيره)، و(حسن لغيره) تجاه متن الحديث كذلك، سواء كان أول المتن في السطر الثاني أو بعده، وإذا لم يكن بعد السطر الأول متن، لاكتفاء المؤلف بالذي قبله، طبعت المرتبة حذاء السطر كالحديث (١٠٨ و١٣٦).
٣ - وأما مرتبة (حسن صحيح) فطبعت لفظة (حسن) حذاء السطر الأول، إشارة إلى حسن الإسناد، بينما وضعت لفظة (صحيح) حذاء السطر الثاني أو بعده، دلالةً على صحة متنه، إما لذاته أو لغيره على ما سبق بيانه.
وبهذه المناسبة أقول:
لقد ساعدني كثيرًا على تطبيق هذا المنهج العلمي الدقيق ووضع كل مرتبة في مكانها المناسب لها، وكذلك على تصحيح تجارب الكتاب المرة بعد المرة ابنتي أم عبد الله بارك الله فيها وفي ذريتها، كما تجاوب معنا القائمون على طبع الكتاب
1 / 13
وصبروا معنا على التحقيق والتصويب، فلهم، ولكل من كان له يد في ذلك وبخاصة منهم الموظفين في المكتبة الإسلامية، لصاحبها صهري الكريم نظام سكجها، فلهم مني جميعًا، الشكر الجزيل.
هذا، وقد عرضت لي مشكلة بعد فرز "الصحيح" عن "الضعيف"، وهي أن المؤلف ﵀ يعقب الحديث أحيانًا ببعض الزيادات أو الألفاظ وهي مما لا تصح، معزوة لبعض المصادر، وعليه فهي مما ينبغي أن يذكر في "الضعيف"، لكن إن ذكرت دون سائر الحديث شقّ على القارئ فهم المراد بها، كما سيأتي بيانه قريبًا ببعض الأمثلة، فكان لا بد -والحالة هذه- من أحد أمرين:
١ - إما إيرادها مع حديثها في "الصحيح"، وهذا غير مناسب؛ لأنه قد يوهم غير المنتبه أنها صحيحة كأصلها الذي سِيقت فيه، وبخاصة إذا كان المتن طويلًا، والزيادة قصيرة مثل رواية: "ثم رفع طرفه إلى السماء ثم يقول" في حديث الدعاء بعد الوضوء الآتي برقم (٢٢٤).
٢ - وإما إيرادها كذلك مع الحديث في "الضعيف"، وهو غير مناسب أيضًا، لأنه قد يوهم ضعف الحديث من أصله!
فبدا لي أن الحل المناسب أن لا تذكر، لا في هذا، ولا في هذا، وإنما تذكر في الهامش تعليقًا على الحديث، مع بيان مرتبتها في الضعف. وأقرِّب ذلك إلى القراء الكرام بمثالين اثنين:
أحدهما: الدعاء الوارد في الحديث الآتي برقم (٣٦):
"اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه … " جاء فيه زيادة:
1 / 14
"يقول كل يوم ثلاث مرات". فمن الواضح جدًا أن ذكرها منفردة في "الضعيف" مما لا فائدة منه، بل هو مما يشغل بال القارئ ويتساءل: ما مناسبتها؟
والآخر: الحديث الآتي برقم (٢٠٩) بلفظ: "السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب"، فجاء عقبه زيادة في رواية: "ومجلاة للبصر"، ولا يظهر ارتباط هذه الزيادة باللفظ المذكور إلا لبعض الخاصة من العلماء وطلاب العلم.
ولذلك قررت ذكر هذا النوع من الزيادات أو الألفاظ في هامش هذا "الصحيح" -ما أمكنني ذلك- مع بيان المرتبة كما سبق، راجيًا أن أكون قد وفقت في هذا وفي كل ما أكتب وأحرر، والله ﷾ ولي التوفيق.
وختامًا أقول:
إن مما يحسن التنبيه عليه، ولفت نظر القراء إليه: أن المقصد الأول من هذين الكتابين: "الصحيح"، و"الضعيف"، وأمثالهما مما يدخل في مشروعي المعروف: "تقريب السنة بين يدي الأمة". ولازمه تمييز صحيحها من سقيمها نصحًا لها. ولذلك فإني أقول:
لست أتحمل مسؤولية ما قد يكون في بعض الأصول والمصادر التي أقربها وأميز أحاديثها من الأخطاء، لأن العناية بها، وتصويبها أمر آخر له أهله، وأنا قلما أتفرغ له وأتوجه إليه إلا بقدر؛ لضيق الوقت؛ ولأن همي الأول هو ما ذكرت من التقريب والتمييز، وإن كنت وأنا في صدد القيام بذلك، قد وفقني الله كثيرًا لتصويب كثير من الأخطاء التي تقع في بعض النصوص والأسانيد والرجال والتخريجات، لا سيما عند إعادة النظر والطباعة، كما سيتبين ذلك للقراء الكرام جليًا في الجزء الأول من هذا "الصحيح"، وسائر أجزائه إن شاء الله تعالى،
1 / 15
بخلاف بعض الناشئين أو الكاتبين ممن يدعون التحقيق والتعليق على بعض كتب الحديث، وهم (ليسوا في العير ولا في النفير) كما يقال في بعض الأمثال.
وبهذه المناسبة يحسن بي محذرًا ومنبهًا وناصحًا بيان الآتي:
لقد وقع تحت يدي طبعة جديدة لكتاب الحافظ المنذري "الترغيب والترهيب"، لثلاثة من المحققين والمعلقين -كما قالوا-، وأنا أصحح تجارب هذا "الصحيح"، فاقتنيته؛ لعلي أجد فيه ما يساعدني على ما أنا في صدده من إعادة النظر في "الصحيح" و"الضعيف"، وتصحيح بعض الأخطاء التي وقعت في الأصل؛ فاتني الانتباه لها؛ فيما سبق، فلم أستفد من تحقيقهم المزعوم شيئًا يذكر، بل وجدتهم جهلة لا علم عندهم يخوِّلُهم التعليق على هذا الكتاب الذي وقع فيه مختلف الأوهام التي ضجر من كثرتها الحافظ إبراهيم الناجي كما كنت حكيت ذلك عنه في مقدمة الطبعة الأولى كما سيأتي في المقطع (٤٣) منها، وأقول عن هؤلاء بحق:
إنهم جهلة، فلا علم لهم بالحديث متونه وأصوله، وكذلك الفقه، واللغة، هذه التي تؤهلهم -على الأقل لو كانوا على علم بها- لتحقيق الكلام على النصوص وبيان الراجح من المرجوح منها عند اختلاف النسخ أو المراجع، حتى هذا النوع من التحقيق لم يستطيعوا القيام به، بل إنهم لم يقدروا على تصحيح بعض الأخطاء الفاحشة التي لا تخفى على الطلبة، والتي وقعت في طبعتهم المزخرفة تبعًا للأصل، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا، وحسبي أن أقدم مثالًا واحدًا على ذلك، وهو الحديث الآتي في (٩ - الصوم/ ١١ رقم الحديث ٥) بلفظ:
1 / 16
"لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم .. ".
فطبعوه تبعًا لأصله الخطأ بلفظ:
"لا تصوموا ليلة السبت … ".
وكل أحد يعلم أن الليل ليس محلًا للصيام، فكيف غفلوا عن هذا الخطأ الفاحش؟! كان يمكننا أن نلتمس لهم عذرًا -كما هو المأثور عن بعض السلف- بأن نقول إنه خطأ مطبعي، كما هو القول في خطأ الأصل، ولكن هذا غير وارد هنا لأنه يستبعد عادة التطابق في الخطأ في اللفظ الواحد، ثم أين التحقيق المدعى، وليس من فرد واحد، بل من ثلاثة؟!
ولا أدل على جهلهم باللغة من الكتاب الذي اختصروه من طبعتهم لـ "الترغيب"، ثم طبعوه تحت عنوان:
"تهذيب الترغيب والترهيب من الأحاديث الصحاح طبعة محققة متميزة بصحاح الأحاديث … "!
وتحته أسماء المحققين الثلاثة المشار إليهم فيما تقدم.
وذلك أن هذا العنوان يدل على خلاف مقصدهم، لأن "تهذيب الكتاب" إنما يعني تجريده من الأحاديث الضعيفة وليس "من الأحاديث الصحاح"، ففي كتب اللغة:
"يقال: هذب الكتاب: لخصه وحذف ما فيه من إضافات مقحمة أو غير لازمة". المعجم الوسيط.
1 / 17
وعلى هذا المعنى ألفت الكتب المعروفة عند طلاب العلم فضلًا عن العلماء مثل: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي، و"تهذيب الكمال" للمزي، و"تهذيب التهذيب" للعسقلاني، وغيرها كثير.
فلو أن أولئك الثلاثة المحققين -زعموا- كان أصلهم من الأعاجم -مثلي! - وكانوا طلاب علم حقًا، لكان هذا وحده كافيًا لصرفهم عن الوقوع في مثل هذا الجهل الفاضح، ولكني قد تأكدت من تعليقاتهم أنهم ليسوا من طلاب العلم، ولا من الذين أتيح لهم الاستماع لهذا العلم، ولكني أشك أن يكون أصلهم عجمًا، أو أنهم عرب استعجموا!
نعم، هم ليسوا طلاب علم يقينًا، لأن الأعاجم من الطلاب يعلمون ما جهلوه هم، فمن منهم لا يعلم إجماع الأمة على أن تأخير الصلاة عن وقتها نسيانًا أو سهوًا ليس معصية، وقد صح أن الله تعالى استجاب دعاء الصحابة حين قالوا: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾؟! أما هؤلاء الجهلة الثلاثة فقد قالوا وتحت ما سموه "فقه الباب" (١/ ٤٤٦):
"وقد أفادت الأحاديث بمجموعها أن تأخير الصلاة عن وقتها ناسيًا أو ساهيًا معصية كبيرة .. "!
ولقد كذبوا -والله- فليس في الأحاديث ذكر للناسي مطلقًا، بل في الكثير منها خلافه وهو لفظ (متعمدًا)، ولكنهم لجهلهم بإجماع الأمة من جهة، ولقلة بضاعتهم بالفروع الفقهية من جهة أخرى سوّوا بين (الناسي) و(الساهي) المذموم في قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾، ولم يعلموا لبالغ غفلتهم أن المراد: بالساهين: المتعمدون إضاعة الصلاة عن وقتها عمدًا
1 / 18
باللهو عنها كما فسره سعد بن أبي وقاص ﵁ في الباب الذي أشاروا إليه، ويأتي برقم (٥٧٦).
ولقد كان يغنيهم عن هذا الجهل المغلف بالفقه الأرعن لو كان عندهم شيء من النباهة والفهم، ترجمةُ المنذري لأحاديث الباب بقوله: "الترهيب من ترك الصلاة تعمدًا وإخراجها عن وقتها تهاونًا". ولكن صدق الله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾.
ومن ذلك أن اسم (جَمع) إذا جاء في حديث من مناسك الحج فهو (مزدلفة) يقينًا، أما هم فقالوا (٢/ ١٥٤) في تفسيرها:
"بـ (جمع): بعرفات"!!
وسيأتي بيان ذلك في التعليق على حديث عبادة بن الصامت في المجلد الأول من "ضعيف الترغيب" (١١ - الحج/ ٩/ الحديث ٣) إن شاء الله تعالى.
ومن هذا القبيل قولهم في تفسير حديث النبي ﷺ:
"إذا تبايعتم بالعينة .. ". (^١)
قالوا (٢/ ٣٠٥): "بالعينة: بالمال الحاضر من النقد"! مع أنهم نقلوا بعده تفسيره الصحيح عن ابن الأثير، والذي خلاصته أن النقد مؤجل، والبضاعة حاضرة لم تتحرك، تباع من التاجر بثمن مؤجل، ثم يبيعها من اشترى لمن باع بثمن حاضر أقل، فيكون الفرق بين الثمنين مقابل الأجل، لذلك فهو من البيوع الربوية، كما أنه من بركات بيع التقسيط الذي يبيحه كثيرون! والشاهد، أن ما
_________
(^١) انظر الحديث في الجزء الثاني من "الصحيح" (١٢ - الجهاد/١٥/ الحديث ٢).
1 / 19
نقلوه عن ابن الأثير كان يغنيهم أن يقعوا في هذا الجهل، أو العجمة على الأقل، ولكن صدق من قال: وكل إناء بما فيه ينضح.
ومثله وأسوأ منه تفسيرهم (اللَّمَمَ) في حديث المرأة التي كان بها طرف من جنون، وطلبت منه ﷺ أن يدعو لها، وخيرها ﷺ بين أن يدعو لها فتشفى، وبين أن تصبر، ولا حساب عليها. فقالت: أصبر ولا حساب عليَّ. (^١)
فقال المعلقون الثلاثة الجهلة (٤/ ١٨٣):
" (لَمَمٌ): مقاربة المعصية، ويعبر بها عن الصغيرة .. ".
فتأمل أيها القارئ الكريم كيف فسروا هذه اللفظة من الحديث بمعناها المذكور في تفسيرها في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾، فخلطوا خلطًا قبيحًا جدًا؛ فإن هذا المعنى لا يناسب الحديث مطلقًا كما هو ظاهر بأدنى تأمل، لأن معناه حينئذ أن المرأة جاءت تشكو ارتكابها المعصية، وأن النبي ﷺ خيّرها بين البقاء عليها، وبين أن يدعو لها ولا حساب عليها .. !
وهذا من أبطل الباطل، ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾؟!
وإذا كان هذا حالهم في الفقه واللغة، فهم في الحديث أجهل، بل هو الداء العضال، لأنه جهل مركب، إذا حسنا الظن بهم، وإلا فيكونون قد تكلموا بغير علم وهم يعلمون! فيشملهم وعيد قوله ﷺ في الحديث المتفق عليه:
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم،
_________
(^١) سيأتي في (٢٥ - الجنائز / ٣/ الحديث ٢٦) من الجزء الثالث من هذا "الصحيح".
1 / 20
فضلوا وأضلوا". وإن مما لا شك فيه عند أهل العلم أن ممارسة تصحيح الأحاديث وتضعيفها ممن لا معرفة عنده، أسوأ وأشد من الإفتاء بغير علم، لأن الحديث النبوي هو المرجع الثاني بعد القرآن الكريم، فالكلام فيه بغير علم أخطر ضلالًا وإضلالًا كما لا يخفى، ولا سيما إذا كان لغرض مادي من جاه أو مال أو منصب، وحينئذ يكون له نصيب أو شَبَهٌ بمن قال الله تعالى فيهم:
﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾.
ولا أكون مبالغًا إذا قلت: إنني لم أرَ -مع كثرة أهل الأغراض والأهواء في هذا الزمن- واحدًا فضلًا عن ثلاثة يتفقون على الكلام على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا بغير علم أجرأ من هؤلاء، وبهذا التوسع، حيث بلغ عدد أحاديث طبعتهم (٥٥٨٠) في أربعة مجلدات ضخام في أكثر من ثلاثة آلاف صفحة! ليس فيها من العلم ما يستحق الذكر، إلا تكرار ذكر المصادر التي في "الترغيب" إلى الحاشية مقرونة بأرقام مجلداتها وصفحاتها أو أرقام أحاديثها، بحيث إن القارئ يتوهم أن ذلك من سعيهم وكدهم، وإنما هو مجرد نقل منهم لها من الفهارس التي كثرت في هذا الزمان، ومع ذلك لم يستفيدوا منها شيئًا لتصويب بعض الأخطاء الواقعة في "الترغيب"، وهي كثيرة كما سيرى القراء إن شاء الله ذلك منبهًا عليه في التعليقات.
ولنعد إلى المقصود الأهم هنا، فأقول:
إن الأحكام التي يطلقونها على الأحاديث تنقسم في الجملة إلى قسمين:
القسم الأول: مما سرقوه من بعض المؤلفين قديمًا وحديثًا، وفي بعضها نظر،
1 / 21
وقد أكثروا جدًا من الاستفادة من المجلد الأول من هذا "الصحيح" في بعض طبعاته السابقة، (^١) حتى في مقدمتهم، دون أن يتأدبوا بأدب قول العلماء: من بركة العلم عزو كل قول إلى قائله، وبخاصة إذا كان صادرًا عن بحث وتحقيق وجهد وعلم ليس في مقدورهم النهوض به، فإني أخشى عليهم وعلى أمثالهم أن يشملهم قول النبي ﷺ: "المتشبِّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور". متفق عليه (^٢).
وإذا كان النبي ﷺ لعن الواصلة، وهي التي تصل شعرها بشعر آخر، وسماه (الزّور) كما في "الصحيحين" وغيرهما، وذلك لما فيه من الإيهام والتدليس، فإن مما لا شك فيه أن النظر الصحيح والفقه الرجيح يقتضي تحريم ما هو أسوأ منه، ألا وهو تظاهر الجاهل بأنه عالم، وادعاؤه التحقيق، وهو في الحقيقة في ذلك لغيره مقلد رقيق! وأسوأ منه أن ينسب لنفسه ما هو لغيره كما فعل هؤلاء، هداهم الله.
وقبل الانتقال إلى بيان القسم الآخر، لا بد من ذكر بعض الأمثلة لهذا القسم الأول، لكي لا يظن أحد أن فيما ذكرت شيئًا من المبالغة أو المغالاة، فأقول:
أولًا: ذكرت تحت حديث أنس الآتي برقم (٢١٧) في الطبعة السابقة أن الحافظ المنذري ﵀ وهم في اسم راويه (واصل بن عبد الرحمن الرقاشي).
وقلت: "إنما هو واصل بن السائب الرقاشي، وهو ضعيف اتفاقًا، ثم إن حديث أنس نظيف منه، بل هو شاهد له". أي الحديث الذي قبله. فسرقه المذكورون، فقالوا في تعليقهم على الحديث (١/ ٢٣٣):
_________
(^١) قلت: ولذلك خلا المجلد الأول من مجلداتهم الأربعة من أنواع كثيرة من الأخطاء التي وقعت في المجلدات التي بعده!
(^٢) انظر سبب الحديث وشرحه في "الفتح" (٩/ ٣١٧ - ٣١٩).
1 / 22