387

صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر

صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر

ژانرها

وفي صيف سنة 1886 زار عاصمة بلاد الإنكليز، وكان في أثناء إقامته هناك يترد على أندية العلم ومجتمعات الآثار ولا سيما المتحف البريطاني الشهير، ثم عاد في الشتاء إلى مصر فطلبت إليه مجلة المقتطف أن يتولى إدارة أشغالها، ففعل حتى أوائل سنة 1888م فاستقال وانصرف إلى الكتابة والتأليف، فألف تاريخ مصر الحديث في مجلدين كبيرين، وقد عانى في تأليفه صعوبات جمة وفي سنة 1889 ألف تاريخ الماسونية العام، وهو أول كتاب كتب في العربية من هذا النوع، ثم ألف التاريخ العام وهو مختصر تاريخ ممالك آسيا وأفريقيا القديمة والحديثة.

وفي أواخر سنة 1889 انتدبته المدرسة العبيدية الكبرى لطائفة الروم الأرثوذكس بمصر؛ ليتولى إدارة التدريس العربي فيها، فتولاها سنتين وفي أثناء ذلك ألف رواية المملوك الشارد وهي أول رواياته فصادفت إقبالا غريبا، حتى طبعت غير مرة وكان صاحب الترجمة قد استحضر الأدوات المطبعية، فتنحى عن التدريس وثابر على الكتابة والتأليف، فأصدر الهلال في أواخر سنة 1892م، وكان في أول نشأته يتولى كل أموره بنفسه من إدارة وتحرير ومكاتبات وغير ذلك، مما لا يستطيعه إلا نفر من الرجال ولكنه كان يواصل العمل بلا ملل ولا إهمال توصلا إلى النجاح، حتى إذا اتسع نطاق المجلة عهد بإدارتها إلى حضرة شقيقه متري أفندي زيدان، واستخدم آخرين للأشغال الأخرى وانقطع هو إلى التأليف والتحرير فكتب بعد نشأة الهلال مؤلفات عديدة سنأتي على بيانها، وقام في أثناء عطلة الهلال الصيفية بعدة رحلات أهمها رحلته إلى الأستانة على أثر الدستور، وإلى أوربا منذ سنتين ورحلته في الصيف الماضي إلى فلسطين أي: قبيل وفاته.

وفاته

في مساء الثلاثاء في 21 أغسطس سنة 1914 حوالي الساعة الحادية عشرة، وافت المنية هذا الفقيد الكريم بغتة ولم يكن يشكو علة ولا أصيب بمرض وما هي إلا دقيقة شهق فيها الفقيد شهقة أقامت أهل بيته مذعورين، وكان إلى آخر ساعة من حياته على تمام الصحة يشتغل كبضعة رجال من غير أن يعرف الكلل والملل.

وما ذاع نعيه حتى عم الأسف لفقده وأقبل الأصدقاء والفضلاء والأعيان والعلماء والأدباء على منزله في القاهرة، وتقاطرت الرسائل البرقية والبريدية من محبيه في جميع الجهات يشاطرون أهله الأسى، ويذكرون آثاره ومناقبه الحميدة وخدمه الجليلة للعلم والأدب والتاريخ، وبعد أن أقيمت صلاة الجنازة في الكنيسة لحظ أهله أن هيئة الموت لم تبد على وجه الفقيد، بل صارت علامات الحياة أظهر فيه مما كانت في الصباح، ففحصه الأطباء فقالوا: إن كل الدلائل تدل على حدوث الموت لكن أهله ظلوا مرتابين، فعدلوا عن دفنه وعزموا على إبقائه إلى الصباح: ولما أن كان الصباح خاب أملهم الضعيف، فدفنوا فقيدهم وهم يتمنون لو يفدونه بأرواحهم.

ولما بلغ نعي الفقيد حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا قائمقام سمو الخديوي الأسبق وقتئذ في الإسكندرية، أنفذ من قبله سعادة وكيل محافظ مصر إلى منزل الفقيد؛ لتعزية أهله وإبلاغهم مشاركة دولته لهم في حزنهم.

أخلاقه

كان الفقيد ربعة ممتلئ الجسم أسمر اللون متوقد العينيين تظهر عليه ملامح الصحة والنشاط وكان رحمه الله بسيطا في جميع أعماله، ثابتا صادقا لطيف الحديث قريبا إلى الناس، لا يأنف من مجالسة من هم دونه ولا يلقى إلا والبشاشة تملأ وجهه.

ولعل الصفة الغالبة في أخلاقه كبر النفس، وقد كان مخلصا في عمله نزيها عن الأغراض، لا يهمه إلا الوقوف على الحقيقة والتمسك بأذيالها ، ومن أقواله المأثورة: «لا يصح إلا الصحيح ولا يبقى إلا الأنسب»، وتجد إخلاصه هذا واضحا في كل عمل شرع فيه وفي كل حرف خطه قلمه.

وكان رحمه الله يعرف العربية والإنكليزية والفرنساوية والألمانية والسريانية والعبرانية مع إلمام بسائر اللغات الشرقية وغيرها، وأكثر ما عرفه إنما عرفه باجتهاده الشخصي، ودرسه على نفسه بالثبات وصدق العزيمة، فكان إذا رأى الحاجة إلى علم أو لغة أكب عليها حتى ينالها كما فعل لما أخذ في درس المواد الشرقية، فرأى حاجة إلى الإطلاع على ما ألفه الألمانيون في آثار العرب وآدابهم من نتائج مباحثهم، وتنقيبهم فدرس هذه اللغة بنفسه وبعد بضعة أشهر أصبح قادرا على فهم ما يقرأه منها، وقس على ذلك.

صفحه نامشخص