صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر
صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر
ژانرها
دولة سعد باشا زغلول بالملابس الرسمية (تصوير المسيو شارل).
وما كاد يذاع النبأ في طول البلاد وعرضها وينشر البيان التاريخي الذي بني عليه قبول دولته للوزارة مع احتفاظه برئاسة الوفد، حتى سرت روح الحياة والاستبشار في القطر وتألفت الوفود من الأقاليم، وأقبلت للتهنئة رغم إعلان دولته رسميا للمديرين والمحافظين بأن لا يكلفوا أحدا بالحضور للتهنئة، وأن يكتفى بإرسال البرقيات أو التهنئات البريدية، وكأنما كان هذا داعيا لزيادة ثقة الأمة وحبها لزعيمها فأقبلت الوفود تترى وتألفت المظاهرات الكبرى، ورفعت الأعلام في كل مكان، وأصبح ما بين عابدين وبيت الأمة تيار لا ينقطع من المواكب والوفود والأعلام زهاء الأسبوع.
ولقد بدأت الوزارة السعدية أعمالها بحفظ كرامة البلاد، وافتتحت عهدها بإطلاق سراح المسجونين السياسيين الذين ذهبوا ضحية السلطة العسكرية، وكان في مقدمتهم البطل عبد الرحمن بك فهمي، بعد أن تعب رؤساء الحكومة السابقون في إطلاق سراحهم فلم يفلحوا.
ومن مآثرها أيضا حفظ كرامة مصر في آثار الملك توت عنخ آمون، والحرص على آثار أجدادنا التي كان يتصرف فيها المستر كارتر الإنجليزي، كما يشاء، ذلك الموقف الذي ستخلده الأمة في بطون التاريخ لسعد وصحبه بالشكر والثناء.
سفر دولته إلى لندن والاعتداء عليه بمحطة القاهرة
وقد دعي دولة الرئيس الجليل إلى الذهاب للندن للمباحثات مع المستر مكدونلد رئيس وزارة الحكومة الإنجليزية، بناء على دعوة منه فيما يختص بالمسألة المصرية؛ ولتحقيق مطالب الأمة في استقلالها التام لمصر والسودان، وهذا ما أخذه على عاتقه من قبوله رئاسة الوزارة، وفعلا حدد لسفره يوم السبت 12 يوليو سنة 1924؛ ليتشرف أولا بمقابلة جلالة الملك المعظم بالإسكندرية، وتقديم واجب التهنئة والتبريك بعيد الأضحى المبارك، وكانت محطة العاصمة قبيل هذا الميعاد مزدحمة بجمهور كبير من حضرات العلماء وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب والوزراء وكبار الموظفين، وغيرهم ممن اعتزموا السفر بهذا القطار إلى الإسكندرية لهذا الغرض نفسه عدا الذين كانوا فيها من المودعين، والذين جاءوا خصوصا لتوديع حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل، وحضرات أصحاب المعالي الوزراء، وكان رجال البوليس مصطفين في جوانبها من الباب الخارجي إلى آخر الرصيف، الذي يسافر منه القطار إلى الإسكندرية وفي نحو الساعة 7 والدقيقة الثامنة صباحا أقبل حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل، ومعه حضرات أصحاب الدولة والمعالي والوزراء، فحياه المجتمعون بالهتاف والتصفيق المتواليين، ودخل دولته بين هذه المظاهر إلى الرصيف الذي يسافر منه القطار إلى الإسكندرية، وكان الصالون الملحق بهذا القطار لدولته والذين معه في مقدمته، فلم يكد دولته يتجاوز في الرصيف مركبات الدرجتين الثالثة والثانية، ويحاذي أول مركبة من مركبات الدرجة الأولى حتى برز له من بين الجماهير من الجهة اليمنى شاب بدين الجسم ببدلة كحلية اللون، وأطلق على دولته رصاصة من مسدس معه، وهم أن يثني بأخرى، ولكن أيدي الذين حوله كانت أسبق إليه من فكره، فغلت يده وأخذوا بتلابيبه وأوشكوا أن يقضوا عليه، لولا إسراع رجال الحفظ الذين خلصوه منهم، وأدخلوه إلى مركبة من مركبات القطار وحافظوا عليه فيها.
وقد لوحظ أن الرصاصة التي أطلقت على دولة الرئيس الجليل أصابته في الساعد الأيمن وجرحته، ولكنه كان رابط الجأش وقد خاطب الذين حوله قائلا: «نموت ويحيى الوطن، ولكن ما كنت أتوقع أيها الإخوان أن تقع هذه الجريمة علي من وطني وفي أرض الوطن».
ثم قدم له الحاضرون كرسيا فجلس عليه في الرصيف، وجاء فريق من السيدات الأجنبيات فروحن عليه بمراوحهن، ودولته يبتسم ويشكر لهن هذا الصنيع، ثم أدخلوه إلى غرفة الضابط القضائي فوق الرصيف نفسه، وجاء الممرضان اللذان بالقسم الطبي التابع لمصلحة السكة الحديد الأميرية ، فنزعا ملابسه وعملا له الإسعافات الوقتية بحضور حضرات أصحاب الدولة، والمعالي الوزراء وغيرهم من كبار الموظفين، وقد ظهر لهم أن الرصاصة التي أطلقت على دولته مرت بالذراع الأيمن فيما يلي الأبط، ومست الثدي الأيمن، ومن ثم استحضرت سيارته الخصوصية، وأقلته إلى مستشفى الدكتور بابايوانو، وقبل أن ينقل دولته إلى سيارته في محطة القاهرة التفت إلى الجماهير المحتشدة حوله، وقال لهم بصوت جمهوري وهو يتبسم: «أشكركم أشكركم إن حالتي والحمد لله بسيطة لا تستدعي القلق»؛ ولعدم استيفاء راحته التامة في هذا المستشفى اكتفى بالاستراحة بضع دقائق، ووافته إليه حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة حرمه المصون، وقابلته متجلدة فابتسم وخاطبها بما معناه: «لا تجزعي فالحالة بسيطة لا تستدعي الجزع»، ثم انتقل بسيارته إلى مستشفي الدكتور علي إبراهيم رامز بك في منيل الروضة، وتولى فحصه والعناية به فيه حضرة الدكتور المشار إليه، ومعه الدكتور مادن والدكتور حسن كامل مجتمعين، ثم أذاعوا في الساعة التاسعة صباحا التقرير الطبي ؛ ليطمئن الشعب المصري الساخط على هذا العمل الدنيء، أما الجاني الأثيم فاتضح أن اسمه عبد الخالق عبد اللطيف وهو من طلبة الطب في برلين، وأصله من فارسكور بمديرية الدقهلية، ويبلغ من العمر الحادية والعشرين في ربعة القامة غليظ مؤخرة العنق بشكل يدل على العتو والغلظة، وقد حضر من برلين إلى مصر يوم 2 يوليو سنة 1924، وسعى ثلاث مرات لدى مدير مكتب دولته في مقابلته فلم يمكنه من ذلك، فلما أخفق من تحقيق أمنيته اغتنم فرصة سفره إلى الإسكندرية وارتكب جريمته هذه.
سعد باشا زغلول بالمستشفى (تصوير رياض أفندي شحاته).
وما كاد يذاع نبأ هذا الاعتداء الفظيع الوحشي على دولته، ويتصل خبره بمسامع جلالة مولانا الملك المعظم فؤاد الأول، حتى أمر جلالته بإلغاء تشريفات عيد الأضحى وأوفد في الحال كبير أمنائه حضرة صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار وطبيبه الخاص سعادة محمد شاهين باشا للاستفسار عن صحة دولته، وإبلاغه أسف جلالته على هذا الحادث مع عطف جلالته السامي، وتعطفت صاحبة الجلالة الملكة فأوفدت حضرة صاحب السعادة باشا أغا السراي الملكية إلى حضرة صاحبة العصمة حرم الرئيس للاستفسار عن صحة دولته وإبلاغها تمنيات جلالتها بعاجل الشفاء، وقد انهالت الرسائل البرقية من عموم رؤساء الوزارات الأوربية على القطر المصري، وجميعها يعرب عن شديد استيائها من وقوع هذا الحادث السيئ.
صفحه نامشخص