مجنون ... يهبط في الساعة الحادية عشرة في ليلة من ليالي الشتاء الباردة فيخرج السيارة من «الجراج» وينطلق بها في سرعة، وكأنه كان صادقا حين قال لأخته في التليفون منذ لحظة إنه على موعد هام في الجيزة، ولكنه لا يقف عند الجيزة، وإنما يمضي في شارع الأهرام، ثم ينحرف في طريق الصحراء نحو الإسكندرية، ويوغل في الطريق مسافة بعيدة، ثم يتوقف عند المنعطف المرتفع، وينزل من السيارة، ويقف على حافة المرتفع، ثم يملأ رئتيه بالهواء البارد في ارتياح، وكأنه يعب من نسيم ربيع ضوعته رائحة الزهر ...
وينفث الهواء بعد أن يدفئه كأنه ينفث دخان لفافة من التبغ الجيد في رضاء وغبطة.
مجنون! من رآه على هذه الحالة لأقسم أنه مجنون، ومن سبر أغوار نفسه، وهو في موقفه هذا، وعرف أين تذهب خواطره الساعة، لأدرك أنه مجنون يفترض أغرب الخيالات، ثم لا تلبث خيالاته التي يفرضها أن تخرج حديثا في جوف الليل البارد، حديثا هامسا، وكأنه يحدث أشباحا تنصت للحديث: تجربة بديعة ... لقد نجحت ... ليس الموت كريها كما يزعمون ...
وكأن الأشباح تسأله فهو يجيب: لم لم أذهب إلى القرافة نفسها؟ ... لسبب بسيط هو أني حي فعلا، وربما خفت ... حي بين الأموات، هنا قفر، وهناك قفر وظلام وظلام، وبعد عن الحياة، وبعد عن الحياة ... الفارق الوحيد هو أني حي، فإذا متنا يا نفس، فلن يجد علينا شيء ... لا شك أن التجربة قد نجحت، فلنعد الآن إلى عالم الأحياء.
وينطلق ثانيا بأقصى سرعة تستطيعها السيارة، ينطلق إلى داره، ويندفع إلى غرفة مكتبه ليفتح كتاب مذكراته ويكتب:
الليلة في الساعة الحادية عشرة خرجت من داري، وذهبت إلى مكان ناء في جوف الصحراء يغمره الظلام، وتلتطم فيه ريح الليل الباردة في أشد ليالي الشتاء زمهريرا ... مكان خلا من الحياة حتى أحسست فيه كل ما في العدم من برودة وجفاف، واستنشقت أنفاسا من هوائه لأعرف كيف يكون طعم الموت، فآمنت بأن الموت ليس شيئا كريها كما يزعمون، لو أن الإنسان قد ضمن بين قبور أنداده مثل هذا الهدوء والأمن الذي أحسسته في جوف الصحراء، أكبر كارثة تحدث لنا لو أن الناس يحتفظون ببعض صفاتهم بعد الموت ... إذن لانقلب العدم جحيما ... أقصد دنيا ثانية.
ويغلق المجنون مذكراته وينام.
وليس صحيحا أن تكون تصرفات المجانين دائما عفو الخاطر، ودون مبرر وبلا مناسبة، وليس صحيحا كذلك بالنسبة لصاحبنا أن يوصف بالشذوذ المطلق، إنه شاذ فعلا، ولكن هناك منطقا يربط بين تصرفاته، في تصرفه مع أخته مثلا كان هناك منطق، وفي رحلته الغريبة بالليل كان هناك منطق، ولنصطلح على تسمية منطقه هذا بمنطق المجانين، كما يسميه هو نفسه، كلما ألح عليه إنسان بالعتاب، إنه يقول دائما ... «سئمت منطق العقلاء ... وأنا الآن مرتاح جدا لمنطقي الجديد، منطق المجانين.»
ولنعد إلى حوادث يومه لنرى خلالها منطقه العجيب، إن أخته مثلا تدعوه للغداء مرتين تقريبا كل أسبوع ، وفي كل مرة تدعوه تنسى أنها دعت شقيقها وحده، فتعد طعاما يكفي عشرة وحوش مفترسة، قد جاعت أسبوعا كاملا، وآية البر بالأخ عندها أن يأكل الأخ كما تأكل عشرة وحوش مفترسة؛ لأنه مسكين يعيش وحده، ويسيء الطباخ تغذيته، وحجتها الدائمة أن الطعام لا يضر أحدا حتى زوجها ... زوجها البدين الذي يأكل، وكأن له في كل شريان معدة قائمة بذاتها تهضم الطعام، وكرش احتياطي للاحتفاظ بما يزيد على الحاجة، إن زوج أخته هذا لم يشك مرضا طوال حياته إلا مرض ضيق الملابس الذي يعتريه كل شهر تقريبا.
في هذا اليوم بالذات كان هو يشكو ألم الأمعاء الذي يعاوده بين الحين والآخر، ومع ذلك فقد تناسى آلامه حين ملأت خياشيمه رائحة طبق الخرشوف ذي الصلصة البيضاء، الخرشوف الذي أوصاه طبيبه بأن يأكله، فكان أول طبيب يصف طعاما يحبه المريض؛ ولذلك آثر السلامة وفر من المعركة، معركة الطعام عند أخته التي تخسر فيها معدته دائما بعد أن ترغم على احتمال كل الجولات، ولم يتكلم بالتليفون؛ لأنه يؤمن إيمانا تاما تؤيده شواهد الماضي أنه أضعف من أن يقاوم توسلات أخته، وكم من مرة هزمت إرادته أمام هذه التوسلات، ولقد رفع سماعة التليفون طوال الساعات الثلاث التي قضتها سعدية معه؛ لأنه كان يعرف غرام سعدية بتفتيش جيوبه والعبث بأوراقه وكثرة استلطافها لحاجاته الخاصة، ولم يكن هناك فرصة لتعبث بحجرته أكثر من تلك التي تسنح لو أنه نهض إلى غرفة مكتبه ليرد على التليفون، وثرثر مع أخته كعادتهما ... تلك الثرثرة التي تطول أحيانا أكثر من نصف ساعة، وبقي بعد ذلك أن جرس التليفون يحلو له دائما أن يزعجه خلال جلساته الخاصة؛ ولذلك كان يؤثر دائما كلما زاره صديق أو صديقة أن يرفع سماعة التليفون.
صفحه نامشخص