ولم يكن يسمع منه غير هذا الجواب: رضا ... مبسوط النهارده ... وكل يوم يا أستاذ ... كل شيء ولله الحمد.
ويضع مبسم النارجيلة ليرفع يده إلى فمه، ويقبلها في حرارة ظهرا لبطن.
كان يسأل نفسه أحيانا: ما الذي يعجب هذا الكائن الحي في هذا الوجود المضطرب؟ كيف يعيش، وما من شيء يشغله؟
سأله مرة بعد أن أعياه سؤال نفسه: أنت غني يا عم محمود؟
وأجابه الرجل في ابتهاج: إلا غني يا أستاذ ... طبعا غني، ولله الحمد. - أعني عندك ملك مثلا؟ - عندي الدكان ... وعندي بضع أمواس ... وعندي زبائن كحضرتك ... الحمد لله.
وعرف أنه لن يصل إلى جواب من الرجل، فعاد يسأل نفسه ... أين يعيش هذا الرجل من الحياة حتى لا يحس بضغطها وكفاحها ومشاغلها، أتراه يعيش على هامشها فلا يحس بما تنطوي عليه من مرارة وشقاء؟!
إنه هو مثلا سعيد بلا شك ... موفق بلا شك ... لديه زوجته خديجة التي يحبها وتحبه، وتدير له منزله كأحسن ما تدير زوجة منزل الزوجية ... وعنده وظيفته يجني منها مرتبا لا بأس به يقوم بشئونه وشئون بيته ... ولكنه مع ذلك لا يعدم ساعات من النهار والليل يفكر فيها، وتشغله هموم الحياة ... يشغله أمر مستقبله فيفكر متى يزيد مرتبه، ويحس بحاجته الدائمة إلى أن يزيد هذا المرتب ليرتفع بمستوى حياته قليلا، ويشغل باله ما سوف تتمخض عنه الأيام ... لسوف تلد له خديجة أولادا، ولسوف تزيد تكاليفه، وتكثر أعباؤه ... ولسوف ... ولسوف ...
ويتمتم دون أن يسمعه أحد. - مستحيل ! ... أيمكن أن يعيش إنسان بغير هموم ولا أفكار في عالم تصطرع فيه حتى الهوام؟ هذا الرجل قد منحه الله نعيما آخر ... نعيم من خلت رءوسهم من عقل يفكر.
ثم يرى عم محمود في جلسته، جلسته الهادئة يعب أنفاس نارجيلته في شغف، ويرشف الشاي في لذة فيراجع نفسه قائلا: ومع ذلك فما في تصرفاته شيء يدل على أنه غير عاقل ... إنه لا يخطئ أبدا.
ويقترب من الحانوت، وينهض عم محمود لتحيته، ويصحبه إلى داخل الحانوت، ويبدأ في مزاولة عمله في نشاط وخفة ... خفة الشاب لا تثاقل الشيخ الذي غزا الشيب شاربه، وداعبت خطوط العمر بشرته في عنف وقسوة ... في ذلك اليوم دخل إلى الحانوت وجلس مكانه، وشرع عم محمود يحلق ذقنه، ودخل في تلك اللحظة عبد المجيد بك الشاب المرح الذي لا يكف عن الدعابة.
صفحه نامشخص