أما قصة الأستاذ عبد السميع، فهي تبدأ بداية أخرى، فهو لم ير سعدية حتى يحبها ويتزوجها ... وهي لم تره، فتنصب حوله الشباك حتى يقع في الفخ ... إن بعض المتشائمين يسمون الزواج فخا تموت فيه الفريسة ببطء وإمهال ... أو تعيش وقد كسرت أجنحتها فلا تكاد تشيل عن الفخ لتحلق ... حتى تهبط فيه ثانيا لتستقر ... إن الذي رأى عبد السميع أفندي، هو المصور الفوتوغرافي الذي التقط له صورة في ردائه الكحلي الذي لا يرتديه إلا ليلة الجمعة حينما كان يذهب ليسهر مع أقرانه.
والذي رأى سعدية أيضا، هو المصور الفوتوغرافي، مصور آخر غير الذي رأى عبد السميع، التقط لها صورة، وهي في ثوب قرمزي بدا فيه قوامها الطويل المنساب في استقامة نحو قدمين عريضتين تناسبان هذا القوام، ويبدو أن كلا المصورين قد فهم مهمته بكل دقة، وأداها بنجاح، فقد راقت سعدية في عين عبد السميع، ورأت سعدية بدورها أن عبد السميع مقبول شكلا.
أما من ناحية الموضوع فقد كان المهر مرضيا لوالد سعدية، ولم يكن مرهقا لعبد السميع، إذا ألقينا نظرة على قائمة الجهاز الذي تكفل به والدا العروس، كان الجهاز حجرة جلوس، وحجرة نوم، وحجرة مائدة، ومطبخا كاملا، وكان المهر سبعين جنيها، لا تكاد تكفي لشراء الجهاز، أي إن سعدية ستكون في داره ربحا دائما لم يدفع له مقابلا، ربحا من اللحم الأبيض الشهي الذي طالما داعب أحلامه والذي طالما صحا من نومه فوجد نفسه يطبق بيده على الوسادة متخيلا أنها ذراع سمينة من نوع هذا اللحم، وهكذا ... لم تكن هناك قصة، ولا شبه قصة ... إلى اللحظة التي احتوى فيها البيت الصغير، بحي المنيرة، عبد السميع وسعدية.
لم تكن هناك سوى عملية حسابية تقوم على بعد النظر كقيامها على الأرقام سواء بسواء، ومن بعد النظر أن يستريح عبد السميع من هذه الأحلام الكاذبة التي تخيب ظنه كلما صحا من نومه.
ومن بعد النظر أيضا أن يدفع سبعين جنيها، فيأخذ بما يعادلها أخشابا، وموبيليات ... ثم يكسب فوق ذلك قدرا شهيا من اللحم الأبيض الدافئ.
ولننصف عبد السميع، فنقرر أنه كان إلى يوم زواجه لا يعرف اللحم الدافئ إلا أحلاما سريعة لا تعدو نطاق خياله ... ولننصفه أيضا، فنقول: إن الزواج لم يكن يعني في نظره غير أن تتحقق هذه الأحلام دون نفقات، ولم يكن الزواج في حسابه يعني بداية قصة أو نهايتها، ولم يكن في نيته أن يكون الزواج بداية قصة.
ولنترك الآن عشرين عاما تمر ... هي الزمن الذي استغرقته القصة لتشرف على نهايتها ... ولنجلس خلف مائدة عبد السميع على المقهى ... أية مائدة ... فالمقهى خال والساعة الرابعة بعد الظهر، وكل شيء هادئ في المدينة الكبيرة حتى نسمات الهواء قد هدأت فسكنت أوراق الشجرة التي تقوم عند حافة الرصيف كأنما استغرقت في سبات عميق.
لقد جلس وحده يجرع فنجانا من القهوة، ويدخن سيجارة ... كل ما في عبد السميع يدل على أنه ثائر ... حركة يده العصبية، نفثه لدخان سيجارته، عدم استقراره على مقعده، كأنما يريد أن يفعل شيئا، ثم تمتمة شفتيه كأنما يحدث نفسه.
ترى ماذا يقول عبد السميع لنفسه؟
أي شيء جد في حياته؟ حياته التي بناها كما أراد من عشرين عاما فجعله يأوي في مثل هذه الساعة إلى المقهى الخالي؟ أي شيء؟ وتسمع عبد السميع، وهو يهمس لنفسه: مش معقول! أي شيء هذا الذي لا يعقله عبد السميع؟
صفحه نامشخص