فلم تجب زينب بل بقيت في مكانها ثابتة لا تتحرك، وبعد بضع ثوان نقر على الباب ثانية، وقال: زينب، أسامعة أنت ما أقول؟
فتقدمت إلى الباب وقالت بصوت خافت: من أنت؟ - أنا مخلص لك فاسمعي ما أقول. - ويلاه. - لا تخافي يا زينب، سكني روعك، اسمعي كلمة وعودي إلى سريرك مطمئنة، هل وعدت عزيز باشا زوجك أن تهبيه نصف ثروتك لكي يطلقك وتتخلصي من عذاباته. - من أنت يا هذا؟ - لا يهمك أن تعرفي من أنا وإنما يهمك أن تعرفي الطريق المؤدي إلى خلاصك. - قل لي: من أنت أولا، وكيف دخلت الدار؟ - لا تهتمي أن تعرفيني من أنا يا زينب، ولا كيف دخلت؟ وإنما أقول لك: لا تتنازلي عن شيء من ثروتك لعزيز باشا البتة، ولسوف يضطر أن يطلقك مجانا. - كيف ذلك ومتى؟ - قريبا - إن شاء الله - تتخلصين من هذا العذاب. - بأي الطرق؟ - ستعرفين كل شيء في حينه، تشددي ولا تستسلمي له . - أخاف من قساوته وتعذيبه. - لا يقدر أن يعذبك أكثر مما يفعل الآن فتحملي كما تحملت فيما مضى على أمل الفرج القريب. - كيف أثق بقولك؟ - مهما كنت خائنا لك فلا أكون كزوجك. - صدقت. - إذن عودي إلى سريرك مطمئنة.
وعند ذلك عاد الملثم يخطو في الرحبة خطى خفيفة لا يسمعها إلا المستيقظ.
وكانت زينب تشعر بابتعاده وقبل أن يتوارى شعرت بقوة غير معتادة في يدها حملتها على أن تفتح الباب في الحال، وإذ ذاك أبصرته قافلا، فنادته قائلة: «هست» فالتفت فأومأت إليه فدنا فراعها منظره فأقفلت، فوقف في وسط الرحبة ففتحت الباب قدر قبضة فدنا حتى صار على قيد باع فراعها ما تقلده من السلاح وكان حينذاك يقول لها: «عودي إلى مرقدك بسلام.»
فأقفلت الباب مرتاعة، وهي تفكر أفي حلم هي أم في يقظة؟ وجعلت تسائل نفسها: من يا ترى هذا؟ وما بغيته، وكيف دخل؟ ولما هدأ روعها شعرت بائتناس بمفاوضته وارتاحت إلى قوله مع أن أمره حيرها، وعزمت على أن تخلف بوعدها لعزيز باشا في اليوم التالي.
أما الملثم فعاد من حيث أتى ويوسف أقفل الباب وراءه والبواب يغط غير دار بما كان، والخدم وسائر أهل المنزل كلهم نيام لم يشعروا بشيء مما حدث.
ولما نهض عزيز باشا في الصباح من نومه جاء إلى غرفة زينب باش الوجه، وقال لها: ألم تزالي مصممة على أن تتخلصي من هذا السجن بما وعدت أن تفعليه؟
فهزت رأسها هزة رحوية وهي مقطبة الجبين وقالت: كلا.
فبهت عزيز باشا وانقلبت بشاشته إلى عبوسة وقال: لماذا؟ - لأني لا أود أن أضيع ثروتي جزافا. - إذن عدلت عن الطلاق؟ - عدلت. - تبقين في هذا البيت خادمة؟ - لا تكون ابنة حمدي باشا رفعت خادمة، بل أميرة تتمتع بريع أملاكها. - ماذا جد حتى أخلفت بوعدك؟ - كنت مجنونة لما وعدت، والآن عاد إلي رشدي فعلمت أن ضياع مالي بين يديك ذنب مني لا يغتفر. - أراك تتكلمين بكل قحة! - بل بكل حق.
فلطمها على وجهها وقال: قومي هيئي القهوة والفطور حالا؛ لنرى بنت رفعت باشا أخادمة هي أم أميرة؟ - أفعل ما تقول، لا لأني خادمة؛ بل لأني ضعيفة وأنت قوي، وقد قويت علي كل الخدم بحيث لم يبق لي فيهم نصير وراحم، بل إن شرك حملك على أن توغر علي صدر عمي وزوجته حتى إنهما لا يريدان أن يسمعا لي شكوى، بل حرمتني زيارتهما، فأسأل الله أن ينصفني منك وهو قدير. - ستندمين على عنادك هذا، وسأريك كيف أنفذ بغيتي هذه بالرغم منك؟ وعند ذلك عاد عزيز إلى غرفته وقامت زينب لتلبي أمره صاغرة.
صفحه نامشخص