فالتفت حمد بك إلى طاهر أفندي وقال على الفور: أما هي ابنة حضرتك يا طاهر أفندي؟ - كلا، وإنما هي ابنة صديق لي تركها يتيمة الأبوين وهي حديثة السن جدا، فتوليت أمر تربيتها. - كذا كذا، إذن هي نصرانية؟ - نصرانية الأم فقط، ومسلمة الأب. - على أي دين هي الآن؟
فتردد طاهر أفندي في الجواب فقال حمد بك: لا أنكر أن هذا السؤال لا يستحق جوابا، ولكني أقصد أن أقول: لمن تنتمي ألأبيها أم لأمها؟ والذي حداني إلى هذا السؤال إنما هو ما أراه من ظهورها في قاعة الاستقبال كسيدات الإفرنج، فاستغربت أمرها. - لا بدع أن يحدوك استغراب أمرها إلى هذا التساؤل؛ ولذلك لا ندحة لي أن أقول لك إنها تنتمي لي الآن؛ إذ لا تعرف لها أبا أو أما سواي، وما هي إفرنجية المظهر إلا لأنها ربيت في فينا، وليس هناك محجبات. - أما قطنتما بلدا عربية قبل مصر؟ - كلا. - عجيب! كيف تعلمت العربية بحيث إنك تتكلمها مثلنا تقريبا ولا تفرق عنا إلا بما مازج لهجتك من النبرات التركية. - تلقنت العربية عن أمي؛ لأنها مصرية الأصل، وأبي كان يتكلمها جيدا؛ لأنه قضى مدة شبابه في مصر أيضا. - وعائدة؟ - وعائدة تلقنت العربية مني. - تتكلمها جيدا؟ - وتعرف الإفرنسية أيضا جيدا، فضلا عن الألمانية. - إذن تعتبر عائدة كابنة حضرتكم؟ - نعم. - أليس لحضرتكم بنون غيرها؟ - لم يكن لي امرأة قط يا حمد بك. - عجيب! لماذا؟ - لم أعثر على فتاة موافقة من بنات ديني في بلاد النمسا، ولم أغادر تلك البلاد إلى بلاد إسلامية إلا الآن. - عساك تصادف أمنيتك عندنا يا طاهر أفندي. - إن شاء الله أنال رغبتي بحسن مساعيكم. - إذا كان هذا الأمر يهمك فيمكنك أن تتكل علي عظيم الاتكال بهذه المسألة، ولي الأمل الكبير أن تتوفق إلى عروسة جميلة ووجيهة الأصل ومتربية. - أشكر اهتمامكم وغيرتكم يا حمد بك. - ولكن خطر لي خاطر يا طاهر أفندي. - ما هو؟ - أن تزوج عائدة نفسها، أظن هذا هو مرادك. - معاذ الله؛ فإن الفتاة تنظر إلي نظرة الابنة لأبيها. - ولكن ألا تعلم هي أنك لست أباها الحقيقي؟ - تعلم حق العلم. - إذن لا يصعب عليك أن تحول إحساساتها وعواطفها نحوك من بنوية إلى حب جنسي. - ولكني أستنكف ذلك بعد ما ربيتها كابنة لي، ثم إن بيني وبينها فرقا عظيما في العمر فمن الخطل في الرأي أن تكون فتاة صغيرة كهذه زوجة كهل مثلي.
عند ذلك دخل الاثنان إلى القاعة وعادت عائدة إلى البيانو تطربهم تارة، ويتحادثون أخرى إلى أن كاد ينتصف الليل فارفضوا.
أما حمد بك فضل فعاد ورسم عائدة منقوش في صفحة مخيلته، وعامل الحب يحفر موطنا لها في فؤاده، حدثته نفسه أن يقترن بهذه الفتاة ولكن خشي أن يأبى عليه طاهر أفندي الزواج منها؛ لما بينه وبينها من التفاوت في السن؛ ولأنه بعل امرأة وأب صغار. ولما فكر طويلا بهذا الأمر وافترض أن زوجته الحالية قد تكون أحد الموانع من زواجه بعائدة قال في نفسه: أطلقها؛ لأنه حسبي أكون زوج هذه الفتاة الجميلة الخلق والخلق.
على أن حمد بك وإن كان قد فسح سبيلا للحب في قلبه لم يكن يزال قوي الإرادة يتغلب على هواه فصمم على أن يتأنى في هذا الأمر، ويتردد إلى منزل طاهر أفندي ليشاهد عائدة ويجتمع بها فإن شعر بازدياد حبه لها وولوعه بها نفذ عزمه، وإن فتر حبه لمصادفته ما يغير ظنه بها عدل عنه وكان حبه هذا سحابة صيف، اختط لنفسه هذه الخطة؛ لأن الزمان حنكه وعلمه أن الحب قد يكون أحيانا كزهرة الربيع التي تنبت وتزهر وتذوي في فصل واحد.
الفصل الثاني والعشرون
علم القارئ الكريم أن عزيز باشا كان يضاجر زوجته زينب هانم جدا؛ لكي يضطرها أن تهبه أملاكها أو تبيعه إياها بلا ثمن، وقد حداه إلى ذلك اضمحلال ثروته شيئا فشيئا في أبواب المسكر والميسر والبورصة ونحوها حتى كادت تنفذ تماما، ولا يخفي أن المال قوة الرجال فلم ير عزيز باشا بدا من الاستيلاء على ثروة زوجته؛ لكي يستقوى بها ويستطيع الظهور في مظهره المعتاد في الهيئة الاجتماعية.
وكان أحيانا يضارب في البورصة بغية أن يسترد ما خسره في الأباطيل، وفي تلك الأثناء ضارب مضاربة كبيرة فخسر معظم ما بقي له من الثروة التي ورثها من أبيه، فلم ير بدا من بيع بقية أطيانه ووفائها، وحينئذ يكاد يصبح صفر اليدين، فعقد النية على أن يتخذ الوسائل اللازمة لاستيهاب ثروة زوجته بأي الطرق القانونية، فاستعمل كل الوسائل لإقناعها، تارة يتملقها وتارة يتهددها فلم ينجح؛ لأن زينب كانت نبيهة جدا وعالمة أن مصيرها الرذل من قبل زوجها، فإذا رذلها مجردة من ثروتها عاشت عيشة الهوان؛ ولهذا تشبثت بمالها، ولم يجز عليها تمليقه وتحببه ووعوده؛ لأنها عجنته وخبزته وذاقت مره، فلم تعد تعتقد أن ذلك العود المر ينضح حلاوة.
حار عزيز باشا في إيجاد الوسيلة الممكنة لاغتصاب أملاك زوجته، وشعر حينئذ بشديد الحاجة إلى المال والثروة مخافة أن يضعف نفوذه فكاد يتميز غيظا فصوب كل إرادته إلى حملها على أن تمنحه قسما كبيرا من ثروتها، ولما يئس من استرضائها بالحسن أو اضطرارها بالمضاجرة والتهديد عمد إلى وسائل النكاية.
وكانت له خليلة ربة حانة تدعى راحيل، فاتفق معها على أن تسكن في منزله، فأعد في دار الحريم غرفة حقيرة لزينب، وأمرها أن تقيم فيها فسألته في ذلك، فقال: إني أحتاج إلى غرفتك لأمر. - أي أمر يضطرك إلى إخراجي من غرفتي؟ - ليس من شأنك أن تسأليني في أموري الخصوصية.
صفحه نامشخص