وعند ذلك نهض وخرج من مقصورتها إلى القاعة غاضبا، فأسرعت نعيمة وراءه ووقعت على قدميه تقبلهما وهي تقول: اعذرني يا أبتي لا أقصد أن أغيظك، ولا يهنأ لي عيش إن كنت غاضبا. - هل رضيت؟ - لست أعني هذا، ولكني أتوسل إليك أن ترضى علي وتتأمل مسألتي جيدا، فتدرك أني محقة فيما قلته. - اخرجي من هنا اخرجي، إنك نقمتي ونغصة عيشي.
وعند ذلك خرجت نعيمة والدموع تنسكب على خديها، وهي تكفكفها بمنديلها وعادت إلى مقصورتها.
وبعد ذلك اجتمع حسين باشا بزوجته عصمت هانم وأخبرها ما كان من رفض نعيمة وقحتها في الأجوبة، وإصرارها على الرفض، وطلب إليها أن تجاهد في إقناعها ما استطاعت، وكان الوقت العصر، فقالت له: ندعها اليوم وغدا أغتنم الفرصة الموافقة لمخاطبتها بهذا الموضوع.
الفصل العشرون
وكانت عادة نعيمة أنها تقف نحو الساعة الخامسة كل يوم في شرفة دار الحريم وتفتح إحدى نوافذها الصغيرة التي في شرفة الحريم، وترى حسنا مارا في مركبة اعتيادية مقفلة فيراها من نافذة العربة الخلفية. يتراءيان لحظة واحدة فقط كل يوم، فيضرمان نارا من الحب تدوم متلهبة 86400 لحظة؛ إذا كانت اللحظة مساوية ثانية.
في تلك الساعة؛ أي بين الخامسة والخامسة وربع أينما كان حسن يجب أن يطير إلى الحي الذي أودع فيه قلبه، لو كان موعودا بربح ألف جنيه في تلك الهنيهة القصيرة لأغفل الألف جنيه وربما أغفل العشرة آلاف جنيه؛ لكيلا يحرم نظرة من نعيمة، ولكيلا يخيب رجاؤها في انتظاره نحو ربع ساعة في الشرفة. إذا توقع أمرا يشغله في اليوم التالي عن المرور من تحت الشرفة أخبرها باللغة الرمزية التي كانا يتفاهمان بها.
إذا كانت يده خارجة من نافذة العربة الخلفية علمت أنه لا يستطيع المرور في الموعد المعين في اليوم التالي، إذا كانت العربة مكشوفة علمت أنه يريد مقابلتها، ومكان المقابلة معلوم - وقد علم القارئ أنه في باب الحديقة الخلفي - ثم يعود في العربة. أما إذا كانت هي تستطيع مقابلته فإن أرته منديلا بيدها علم أنها مستعدة أن تقابله في ذاك المساء، وإن كان المنديل مدلى من نافذة الشرفة علم أنها ستقابله في مساء اليوم التالي. إن رأى يدها على خدها علم أنها غير مسرورة من أمر، وهكذا إذا هي رأته، وهناك رموز أخرى لا موجب لاستقرائها.
في ذلك العصر بعدما انتهى حسين باشا عدلي من مفاوضة نعيمة على غير جدوى وقفت نعيمة في الشرفة كعادتها قبل أن تحين الساعة الخامسة وفتحت النافذة ومدت معصمها منها وفي يدها منديل، وجعلت تتوقع بفروغ صبر مرور حسن في العربة.
كالمعتاد كان الوقت 15 دقيقة قبيل الخامسة، فكانت نعيمة كل دقيقة تمل وتجدد الصبر ستين مرة حتى كادت روحها تزهق، حانت الخامسة تماما وصار مرور حسن متوقعا اللحظة بعد اللحظة أكثر من قبل، فكان قلبها هلعا وعضلاتها تختلج جزعا، خافت أن يخرج أبوها أو أمها إلى الشرفة، فيريانها، فيوجسان منها، لماذا لم تخف قبلا؟ كانت تخاف هذا الخوف ولكن كانت واثقة أنها تستطيع التمويه، ولكن في تلك الساعة اشتدت عليها كل المخاوف؛ لأنها صارت تتوهم أن عيون أبويها بالمرصاد عليها، وأنهما يسمعان كل خطرة من خطرات أفكارها ويفهمان كل معنى من ملامحها.
لم يكن مطمعها حينئذ أن ترى حسنا، ولكن كانت تبتغي أن تكلمه كلمة فقط، كانت تريد أن تخبره أنها لبثت على عهدها، وتسأله هل يستطيع القيام بوعده؟
صفحه نامشخص