سعد زغلول زعیم الثوره
سعد زغلول زعيم الثورة
ژانرها
Self-governing ، بل معناه الحكومة الدستورية، وأن الغرض من ذكر هذه العبارة في البلاغ بيان أن الحكومة الإنجليزية لا يصح أن ترتبط بمعاهدة حكومة لا تكون ذات نظام دستوري، وكذلك كانت الترجمة العربية الرسمية وفق هذا التفسير، ولولا هذا لكانت أحاديثنا مبنية على غير أساس، ولما جاز لنا أن ننقلها إليكم، ونستنتج منها ما استنتجناه.
والقرار الذي اتخذه سعد، وأشار إليه عدلي في الخطاب المتقدم هو قراره الذي نشره في بلاغ بعث به إلى مصر عقب نشر اللجنة بيانها، وقال فيه ما نصه:
يحاول الأقوياء بجميع الوسائل أن يأخذوا منكم رضاه بحمايتهم؛ ليزدادوا قوة ويزيدوكم ضعفا، فلا تنخدعوا إذا وعدوكم، ولا تخافوا إذا هددوكم، واثبتوا على التمسك بحقكم في الاستقلال التام؛ فهو أمضى سلاح في أيديكم وأقوى حجة لكم، فإن لم تفعلوا - وليس في قوة إيمانكم الوطني ما يجعل احتمالا لذلك - خذلتم نصراءكم، وأهنتم شهداءكم، وحقرتم ماضيكم، وأنكرتم حاضركم، ومددتم للرق أعناقكم، وحنيتم للذل ظهوركم، وأنزلتم بأمتكم ذلا لا يرفع منه عز، وإن تفعلوا - كما هو أكبر ظني في عظم إخلاصكم ومتين اتحادكم وقوة وطنيتكم - فقد استبقيتم لأنفسكم قوة الحق، وأعددتم لنصرتكم قوة العدل، فلا تذلوا وإن قهرتم، ولا تخشوا وإن ظلمتم، ولا بد من يوم يعلو فيه حقكم على باطل غيركم، وينتصر فيه عدل الله على ظلم خصومكم، وتتحقق بإذن الله الإله القدير آمالي وآمالكم في الاستقلال التام.
وصل هذا البلاغ إلى مصر، ونشر في صحفها عند منتصف يناير، وكانت لجنة الوفد المركزية قد أعلنت بلاغا في معناه عقيب صدور البيان المتقدم من لجنة ملنر، وتعاقب على أثره صدور البلاغات في هذا المعنى من ذوي الشأن والرأي في مقدمتهم الأمراء والعلماء، وأيقنت اللجنة - لجنة ملنر - أن لا رجاء في الاتصال بينها وبين الأمة المصرية على قاعدة البيان الجديد؛ لأن هذا البيان لم يغير من الأمر شيئا، ولأن الأمة لا ترى لها مصلحة في تجاهل وفدها النائب عنها في قضيتها، كما ترى السياسة الإنجليزية المصلحة في هذا التجاهل أو هذا التفريق بين الأمة ودعاتها؛ فلم يعد للجنة مناص من السفر أو من القناعة بما عندهم من وسيلة لاستطلاع الآراء هنا وهناك، وزيارة بعض أعضائها لبعض أصحابهم الذين كانوا يعرفونهم من سراة المصريين في القاهرة أو الريف، وشاع بين أبناء الريف أن أعضاء اللجنة الملنرية يطوفون البلاد خفية؛ فأصبحوا يستريبون بكل سؤال يلقيه عليهم أجنبي غير معروف، ورويت في ذلك أحاديث شتى تدخل في باب الملح والطرائف، ولكنها تدل في الوقت نفسه على الجد في كراهة الحماية وحب الاستقلال والوفاء لزعيم الوفد والحذر من حيل الاستعمار؛ فكان الفلاح الساذج إذا سأله أجنبي لا يعرفه: أين الطريق؟ بدر إلى ذهنه أنه عضو من أعضاء اللجنة يتخفى لاختلاس الآراء والأجوبة بغير علم الوفد، فأجابه على الفور: عليك بسعد في باريس يخبرك أين الطريق، وإذا سأله: هل لك أولاد؟ أو سأله: كم أجرك في اليوم؟ لم يزد على أن يحيله إلى سعد في باريس فهو أعلم بالجواب! ولا يبعد أن يكون أعضاء اللجنة الذين اختلفوا إلى الأقاليم قد صادفوا شيئا من هذه الأجوبة، وعرفوا من دلالتها السياسية ما هو أدل وأجلى مما كانوا يقصدونه بالتحقيق والسؤال.
ولا ينبغي أن ننسى أناسا من الداعين إلى مقاطعة اللجنة قد تشعبت بواعثهم ونياتهم، فلم يكونوا جميعا على نية الأمة في تأييد الوفد ورعاية حق نيابته، أو صون كرامته على مهانة التجاهل الذي قصدته الحكومة البريطانية، فكان ممن اتخذوا المقاطعة أناس اتخذوها إحباطا لكل مفاوضة يجريها الوفد في الحاضر والمستقبل، ومنهم خصوم له كانوا يرضون باليسير في حل القضية المصرية، ولا يطمعون في استقلال تام ولا ناقص، ولكنهم يصطنعون الغلو ويؤثرون التصعيب وتوسيع المسافة بين طرفي الاتفاق؛ لاعتقادهم أن كل شرط يوضع للمفاوضة المقبلة إنما هو عقبة في طريق الوفد دون غيره من الرجال الرسميين، فإن هؤلاء الرجال الرسميين لا يلقون أكثر اعتمادهم على قوة الحكومة، ومن ورائها قوة الاحتلال.
أما الوزراء الذين كانوا معروفين يومئذ باسم أصدقاء الوفد - وهم رشدي وعدلي وثروت - فقد أخذوا بالحيطة فلم يغضبوا الوفد ولم يغضبوا اللجنة، وكتبوا في السابع من يناير خطابا إلى سعد يقترحون فيه عليه أن يعود هو وأصحابه إلى القاهرة لمفاوضة ملنر بعد الوعود التي أفضى بها إليهم، ولا تخرج عن معنى البيان المتقدم، فلما أجاب الوفد بامتناع ذلك لأن بيان ملنر يحصر الغرض من المفاوضة في الحكم الذاتي، أجابوه بما أسلفنا من تفسير كلمة «الحكم الذاتي»، كما جاءت في الصيغة الإنجليزية، وقالوا: إن اللورد ملنر لا يرى مانعا من دخول الوفد المفاوضة على أساس الاستقلال التام، وإن كان هو لا يستطيع الجهر بهذا الأساس، ولا يزال يرجو بعد تمام المفاوضة أن يحسن «للرأي العام الإنجليزي» قبول ما ليس يقبله الآن.
وقد بسط سعد تفصيل رأيه في بيان رد به على التقرير الذي جاءه من لجنة الوفد المركزية مع علي ماهر بك، وفيه يقول بتاريخ الحادي والعشرين من يناير: ... إننا لم نجد في بلاغ ملنر شيئا يخالف التصريحات السابقة عليه إلا خلوه من لفظ الحماية وحسن أسلوبه. أما في الجوهر فقد وجدناه متفقا معها تمام الاتفاق؛ إذ هو مثلها يعتبر مصر تابعة لإنجلترا، ولجنة ملنر لجنة تحقيق، موقف المصريين معها موقف المجيب من المستجوب، وغاية أبحاثها الوصول إلى وضع نظام حكومي في دائرة الحكم الذاتي، ونحن لا نعترف بشيء من ذلك؛ فلا تبعية لإنجلترا علينا، ولا نعرف لهذه اللجنة سلطة التحقيق في بلادنا، والغاية التي نسعى إليها هي التمتع بجميع حقنا في الاستقلال التام، نعم! إن هذا البلاغ وسع مجال المناقشة، ولكنه ضيق الغاية منها؛ فجعلها وضع نظام حكومي في حدود الحكم الذاتي؛ وبذلك هدم بيد ما بناه باليد الأخرى، وزاد أن اشترط لنفسه حرية العمل، وهو تحديد الغاية الذي لا ينقل المسألة من مركزها، فلا ترتفع به حماية بل تتأكد، ولا يتم به استقلال بل يقل، ولا يفيد إلا شيئا واحدا هو تسهيل مأمورية التحقيق على اللجنة، وما كان للمصريين أن يعرفوا لها هذه الصفة وألا يسهلوا لها هذه المأمورية. وأكبر ما تعطيه أو تشير بإعطائه أقل من حقهم بكثير. زد على ذلك أنها جاءتهم رغم أنوفهم وضد إجماعهم بأن استعملت كل وسائل الشدة معهم تمهيدا لوصولها، وشكلت وزارة لم يرض الرأي العام بها.
إن عودة الوفد أو بعض أعضائه على أثر هذا البلاغ لم يخطر ببالنا للاعتبارات السالف ذكرها، ولأن الإنجليز لا يتأخرون أن يتخذوا منها حجة على فوز سياستهم، ويبنون عليها كثيرا من الأقوال التي ينشرونها لتضليل الرأي العام في أوروبا عموما وإنجلترا خصوصا. ربما كان يسهل علينا أن نتعرض لمثل هذا الخطر، ونعجل لهم ذلك الفوز لو أنهم وعدونا بشيء في مقابلته وعدا صريحا يصح الاعتماد عليه. ولكنهم لم يفعلوا، وليس لنا أن نتوهم أنهم سيفعلونه بعد عودتنا على غير وعد سابق. لو أنهم مع توسيع مجال المناقشة أطلقوا الغاية منها لصح لنا أن نتعشم أن نقنعهم بالبرهان الصادق والحجة الدامغة بصحة مطالبنا، ولكنهم حددوها بما دون ما نطلب حتى في ذلك البلاغ الذي نشروه بقصد استرضائنا؛ فكان مثلهم في ذلك مثل بعض القوانين الألمانية القديمة التي كانت تقضي بسماع الشهود بعد الحكم في الدعوى؛ ولهذا رأينا أن العودة ارتكانا على البلاغ المذكور لا تكون إلا عبثا مقرونا بالخفة والمخاطرة. ويصح للإنجليز وغيرهم أن يقولوا إنه كفى أن يغير شكل التصريح، وأن يؤتى ببعض العبارات الطلية في أن تغير الأمة المصرية بتمامها خطتها نحو اللجنة، فتخرج من مقاطعتها إلى المفاوضة معها. كلا! إننا لم نبلغ هذا الحد من البساطة والسذاجة؛ إن المسألة أكبر بكثير من أن يكون لاختلاف الصور والأشكال تأثير فيها.
إننا نقبل العودة للمفاوضة على شرط أن تكون بين متعادلين في حقوق المناقشة وطرفين كل منهما يمثل أمة، وأن يكون الغرض منها الوصول إلى عقد معاهدة تضمن لمصر استقلالها التام ولإنجلترا مصالحها التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال التام، وأن تعترف الدول بهذه المعاهدة وتسجل في عصبة الأمم. فإذا صرح الإنجليز بذلك رسميا هنالك لا نتأخر عن العودة لمباشرة المفاوضة متى ألغيت الأحكام العرفية، وضمنت لنا العودة لمباشرة أعمالنا عندما نريد. أما المفاوضة في أوروبا فنحن مستعدون لها مع لجنة ملنر أو غيرها ما دامت المناقشة لا يترتب على الدخول فيها الالتزام بشيء ما. وما دام أن العبرة بما يتم عليه الاتفاق في حدود التفويض لنا، فإذا كان الإنجليز يرغبون حقيقة في ودنا وفي بناء علاقاتهم على الاتفاق معنا، فلا شيء أسهل عليهم من اتباع إحدى هاتين الطريقتين للوصول إلى الغاية. وهم لا بد أن يفهموا أن الأمة المصرية وصلت من اليقظة والانتباه ومعرفة حقوقها إلى درجة لا تركن معها إلى الأقوال، ولا تعتمد فيها إلا على الأعمال، ولا ترضى عن استقلالها التام بديلا. نعم! إن في قوتهم إرغامها على النظام الذي يريدون وضعه فيها، وقد لا يبعد عليهم أن يحملوا كل الدول على الاعتراف بحمايتهم علينا، ولكن حقنا لا يضيع بهذا الإرغام ولا بهذا الاعتراف، بل يبقى ثابتا، ونبقى مستمرين على المطالبة به والسعي للحصول عليه، وإذا لم يكن في الحكومات الأجنبية الآن من يمد يد المساعدة إلينا، ففي شعوبها كثير من الأحرار يعطفون علينا وينتصرون لقضيتنا بأقلامهم وخطبهم، وما يدرينا أن يظهر غدا المساعد لنا؟! وللزمان تقلبات تجعل الحليف عدوا والعدو حليفا.
ولا يصح أن نسقط من حسابنا اتساع ملك بريطانيا وتباعد أطرافه، واضطراب الأحوال في ممتلكاتها وجوارها، وانتشار المبادئ الديمقراطية في العالم عموما وفيها خصوصا، وتهديد حزب العمال لحكوماتها بالاستيلاء عليها وقربه من هذه الغاية يوما فيوما، كما تؤيده الانتخابات الجزئية والاعتصابات التي كثر تواليها في هذه الأيام. كل هذا يجعلنا ألا نغامر بحقنا، وأن نبقى متشددين في التمسك به ومقاطعين للجنة التي حضرت رغم أنوفنا لحملنا على الرضاء بإنقاصه حتى تعود خائبة؛ فيعلم الإنجليز وتعلم الأمة والعالم معها أن مصر متحدة تمام الاتحاد على الوصول إلى استقلالها التام، وأن إرادتها على ما تكره مخالف لشرف الوعود التي بذلتها إنجلترا، ومناقض للعهود التي سجلتها، وغير منطبق على المبادئ التي قبلتها، ومكدر على الدوام لسلمها ومقلق لراحتها، وأن خير سياسة تتبعها هي أن تبر بوعدها، وتتخذ من مصر حليفة صادقة لها لا تابعة نافرة منها تترقب الفرص دائما للخروج عليها، وتفضل الموت على الاستسلام لها ...
صفحه نامشخص