وما أتم فتح الله باشا كلامه حتى سألته عن أحزم موقف يعتقد أن سعد باشا وقفه في حياته، فقال: «مما لا ريب فيه أن حزم سعد باشا تجلى بأجلى مظهره في الخطبة السياسية الوطنية الجامعة الرنانة التي ارتجلها قبل إلغاء الحماية في جمعية الاقتصاد والتشريع السياسي على مسمع من المستشار القضائي الإنجليزي، وأعلن فيها بطلان الحماية وحق مصر في التمتع باستقلالها.»
سعد يبتسم.
فسألته: «وما هو أشجع موقف وقفه سعد باشا في نظركم؟» فأجاب معاليه: «إنه بلا شك الموقف الذي وقفه عند مغادرته لميناء عدن إلى جزائر سيشل، فإنكم تعلمون أن سعد باشا نقل يومئذ وحده إلى البارجة التي أقلته إلى سيشل؛ إذ لم يسمح لأحد منا في بادئ الأمر بمرافقته إليها، وكان كل من الزملاء يتسابق إلى أن يكون في ركاب سعد، مع أن السائد على أفكارنا كان أنه ذاهب إلى الأبد، وأن من يبقى في عدن قد يعود إلى الوطن، فلما أزف موعد الرحيل رافقناه إلى الميناء ونحن نبكي ونولول كالأطفال، أما هو فكان رابط الجأش ساكن الجنان ثابت الخطى جهوري الصوت، لم يذرف دمعة واحدة حتى آخر لحظة، مع أنه كان يشعر في تلك الساعة أنه يودعنا الوداع الأخير، وأنه لن يعود إلى مصر بعد ذلك أبدا.» (14) دار سعد في أبيانة
وهنا كانت الساعة الثانية عشرة مساء قد أزفت، فختم فتح الله باشا حديثه بأن أبلغني أنه أمر بإعداد مركبته لتكون تحت تصرفي في صباح الغد لتقلني إلى أبيانة لزيارة دار سعد باشا فيها، فكررت له الشكر على عنايته. وفي صبيحة اليوم التالي قبل أن أتوجه إلى أبيانة حدثني معاليه عن الدار التي ولد فيها سعد باشا، فقال إن الدار الأصلية التي رأى فيها الفقيد العظيم نور الحياة لم يعد يبقى لها أثر، وكانت دارا فسيحة وسعت في بعض الأحيان رب البيت وحرمه وأولاده الثمانية وسبعة عشر تابعا، علاوة على الضيوف، وكانت تضم بين جدرانها جناحا خاصا لنزولهم وإقامتهم.
وفي نحو سنة 1900 هدم المغفور له سعد باشا البيت القديم وأعاد بناءه على الطراز الحديث، وهو البيت الذي يشغله «الحرملك» اليوم، وبنى رحمه الله السلاملك بجواره في الفناء الذي كان يلعب فيه فتحي باشا وفتح الله باشا، وقد وقف دولته هذا البيت على أولاد إخوته، ويقطن فيه الآن أنجال المرحوم عبد الله بك زغلول نجل المرحوم الشناوي أفندي زغلول، أخي سعد باشا. (15) جولة في دار الفقيد العظيم
وبعد عشر دقائق كنت واقفا أمام دار سعد باشا في أبيانة أسرح الطرف في البقعة التي ولد فيها زعيم مصر الأكبر، فالتفت إلى محمد بك زغلول نجل المرحوم عبد الله بك زغلول وقلت له: «هل كان يظن سكان أبيانة أن الفتى سعدا الذي رأى النور في هذه البقعة الوضيعة سيرفع يوما علم الاستقلال في بلاده، وأن بيته سيصبح على مر الأعوام كعبة يؤمها المصريون وحرما يقدسه الوطنيون؟» وهنا حانت مني التفاتة إلى الفناء المحيط بالدار، فألفيته مملوءا بأكوام التراب وقد تصاعدت الروائح الكريهة من بعض منها ، فتوغلت في السير وكنت كلما تقدمت خطوة إلى الأمام أشاهد مظهرا آخر من مظاهر الخراب الذي بدأ يسود ذلك المكان، أما البقعة التي كان يقوم عليها الجناح الذي ولد فيه سعد باشا في الدار القديمة، وتقع هذه البقعة الآن خلف «الحرملك» في مكان السور الذي يفصل الدار عن الطريق العام، أما هذه البقعة فلم تعد في الواقع سوى أكوام مكدسة من الحجر والتراب، وقد تفشت منها بعض الروائح أيضا، فاستولى علي حزن شديد سيتسرب مثله إلى قلب كل من يقرأ هذه السطور التي تعجز عن وصف الحالة الراهنة، وليس من رأى كمن سمع! ولئن كانت الظروف لم تسمح لي بدخول الحرملك والسلاملك إلا أن في مظهرها الخارجي وحده ما يكفي لمضاعفة ذلك الحزن، فمتى يحل اليوم الذي يهتم فيه المصريون بمسقط رأس زعيمهم يا ترى؟ ومتى نراهم يشمرون عن ساعد العمل والجد ليصونوا ذلك البيت التاريخي من كل عبث وخراب؟ (16) من هو العم علي طلحة؟
وكان فتح الله باشا قد أوصاني قبل ذهابي إلى أبيانة بأن أبحث فيها عقب وصولي إليها عن شخص يدعى علي طلحة، عرف سعد باشا في حداثته، ثم رافقه إلى القاهرة كخادم بسيط لما كان الفقيد العظيم يشتغل فيها بالمحاماة، فلما اجتمعت بمحمد بك زغلول في أبيانة سألته عن علي طلحة المذكور، فأشار إلى رجل مسن صغير القامة نحيل الجسم كان يسير على مقربة منا وقال لي: «هذا هو علي طلحة.» فناديته وسألته هل يذكر سعد باشا فقال: «إذا كنت أنا لا أذكره فمن ذا الذي يذكره إذن؟!» ومما هو جدير بالذكر هنا أن والدة علي طلحة هي التي أرضعت سعد باشا وهو طفل، وكانت ترضع معه طفلتها التي ولدت في الوقت عينه، وكان اسم الطفلة «فرحانة»، فكانت أم علي طلحة تحمل «سعدا» على ذراع و«فرحانة» على ذراع آخر، ويا لهما من اسمين بهيجين! وكأن ريبا خامر علي طلحة في الباعث لي على سؤاله عن ذكرياته عن سعد باشا، فسألني لماذا أريد سماعها فأخبرته بالغاية منها، فسري عنه وأخذ يجاوبني على أسئلتي بصراحة. (17) سعد وأخوه الشناوي أفندي
وقبل أن أنقل إلى القراء المعلومات التي أدلى بها إلي العم علي طلحة، تحسن الإشارة إلى أن الشيخ إبراهيم زغلول والد سعد باشا تزوج مرتين، فرزق من الزوجة الأولى خمسة بنين وهم: شلبي والشناوي وأحمد ومحمد وعبد الرحمن، ورزق من الزوجة الثانية: سعدا وفتحيا وفرج الله، وقد توفي هذا الأخير وهو حدث.
ويقول العم علي طلحة إن الشيخ إبراهيم زغلول انتقل إلى جوار ربه ونجله سعد لم يناهز بعد الثالثة من عمره، فاهتم به شقيقه الشناوي أفندي، الذي كان ثاني أنجال الشيخ إبراهيم زغلول وأدخله الكتاب، ثم أرسله إلى القاهرة ليدخل الأزهر الشريف.
فقلت للعم علي طلحة: «أتريد أن تقول بذلك إنه لولا الشناوي أفندي لما كان سعد باشا قد دخل الكتاب وانتظم في سلك الأزهر؟»
صفحه نامشخص