وذكرت لمعالي محدثي أن بعضهم يدعي أن سعد باشا لم يزر أبيانة إلا مرة واحدة بعد رحيله عنها وهو شاب، وذلك لما خف إليها في سنة 1910م ليكون في استقبال سمو الخديوي السابق عند زيارته لها. فقال فتح الله باشا على الفور: «هذه رواية لا تطابق الحقيقة بتاتا؛ فإن سعد باشا كان يكثر من تردده على مسقط رأسه كلما سمح له وقته بزيارة أهله، فإنه لما كان يتلقى العلم في الأزهر الشريف كان يجيء إلى أبيانة في كل عطلة صيفية مستصحبا معه جماعة من أصدقائه أمثال الشيخ محمد عبده وقاسم أمين وإبراهيم اللقاني والشيخ عبد الكريم سلمان، الذي صار فيما بعد مفتشا عاما للمحاكم الشرعية وغيرهم. ولما اشتغل بالمحاماة كان لا ينقطع عن زيارة أبيانة من وقت لآخر حتى إذا تربع في كرسي الوزارة زارها غير مرة، ورافقه إليها في إحدى تلك المرات المغفور له مصطفى فهمي باشا، وأقام معه فيها سبعة أيام.» (4) سعد في الجبة والقفطان
فسألت فتح الله باشا عن أقدم ذكرى يتمثلها في مخيلته المغفور له سعد باشا، فأجابني بقوله إن أقدم صورة مرتسمة في ذهنه للفقيد العظيم هي منظره وهو يتأهب للرحيل إلى القاهرة لكي ينتظم في سلك الأزهر الشريف، بعدما انتهى من حفظ القرآن الكريم في الكتاب الوحيد الذي كان موجودا في أبيانة في ذلك الحين، وكان رحمه الله يلبس يومئذ الجبة والقفطان والعمامة، فانتهزت هذه الفرصة لأسأل معالي محدثي عن التاريخ الذي خلع فيه سعد باشا الملابس العربية واستبدل بها الملابس الإفرنجية، فأجاب قائلا: «إن المرجح جدا أن سعد باشا استعاض عن زيه العربي بالزي الإفرنجي قبل وقوع الثورة العرابية بسنة.»
فقلت لفتح الله باشا: «وهل تحفظون معاليكم أو هل يحفظ أحد من أقاربكم ثوبا من الأثواب الوطنية التي كان الفقيد العظيم يلبسها قبل ارتدائه الملابس الإفرنجية؟» فقال إنه لم يبق من ملابس سعد العربية سوى جبة حمراء، وهي محفوظة اليوم في بيت الأمة مع سائر مخلفات دولته. (5) الرئيس الجليل في الكتاب
فقلت لمعالي محدثي إنه من الثابت أن سعد باشا حفظ القرآن في الكتاب الذي كان موجودا في أبيانة، فهل يزال هذا الكتاب قائما أو هل يزال صاحبه عائشا؟ وإذا كان قد انتقل إلى جوار ربه، فهل هناك بين سكان أبيانة الحاليين من كان يتردد على ذلك الكتاب مع سعد باشا في شبابه؟
فقال فتح الله باشا: «إن المنزل الذي كان يقول فيه ذلك الكتاب قد انهارت أركانه، وليس بين سكان أبيانة الأحياء من عاصر سعدا في ذلك العهد، ولكنني أعرف نجل الفقي أحمد زيدان الذي أنشأ الكتاب المذكور، واسمه أحمد زيدان كأبيه، وقد دخل الكتاب قبيل خروج سعد باشا منه، وهو الشخص الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة ويذكر شيئا عن أيام الفقيد العظيم في الكتاب، فإذا كنتم ترغبون في الاجتماع به ففي استطاعتي أن أدعوه إلى موافاتكم هنا غدا صباحا.» فشكرت معاليه على عنايته وأعربت له عن رغبتي في مشاهدة أحمد زيدان المذكور في أقرب وقت ممكن.
وسألت فتح الله باشا: «هل انتقل سعد باشا يومئذ من أبيانة إلى القاهرة رأسا، أم قصد قبل ذلك إلى جهة أخرى؟» لأنني فهمت من سياق حديثه أنه رحمه الله لم يتوجه إلى العاصمة مباشرة، فقال معاليه: «إن هذه نقطة لم يلتفت إليها أحد من الذين كتبوا عن سعد باشا قبل الآن، فإن الفقيد العظيم لم يذهب إلى القاهرة رأسا كما هو المفهوم، بل ذهب أولا إلى دسوق ليتلقن أصول تجويد القرآن الكريم على المقرئ الشهير الشيخ عبد الله عبد العظيم، مقرئ معهد سيدي إبراهيم الذائع الصيت، فأقام فيها فترة قصيرة من الزمان ثم استأنف سفره إلى العاصمة.» (6) حديث العم أحمد زيدان
وفي صباح اليوم التالي بعدما استيقظت من النوم وتناولت طعام الفطور، جاءني أحد الخدم وأبلغني أن فتح الله باشا ينتظرني في حديقة الدار، فأسرعت إليه فألفيته جالسا مع شيخ في العقد السابع من عمره لابسا الملابس العربية، ولما دنوت منه لأحييه قال لي معاليه وهو يشير إليه: «هذا هو العم أحمد زيدان الذي تبحث عنه، فسله ما تشاء.» فصافحت زميل سعد القديم وجلست على مقربة منه أطرح عليه السؤال تلو السؤال عن حداثة فقيد مصر العظيم.
فأخبرني أنه في نحو الثانية والستين من عمره، وأن سعدا كان يتقدمه في السن ببضع سنوات، وأن والده هو الذي أنشأ الكتاب الذي تعلم فيه سعد القرآن الكريم، وأن عدد التلاميذ الذين كانوا يترددون على الكتاب كان يناهز التسعين، وأنه عندما يغلق عينيه ويعرض ذكريات تلك الأيام في مخيلته يشاهد الفتى سعد زغلول حاملا لوح الخشب بيده، أو ماضيا في تسميع القرآن الكريم لأستاذه. ومما يذكره عنه أيضا، كأنه يراه اليوم ماثلا أمامه، أنه كان يميز عن إخوانه بطول قامته ونحولة جسمه. (7) مقدرة سعد على حفظ القرآن
ويقول العم أحمد زيدان، بعدما يشهد الله على صدق ذمته وصحة أقواله، إن سعدا امتاز منذ عهده الأول في الكتاب بذكائه ونجابته وقوة ذاكرته، وإن «لوحته» لم تكن تمر على «الأستاذ» إلا مرة واحدة ليصححها، في حين أن لوحات الآخرين كانت تمر عليه مرات، وإنه أجاد حفظ القرآن الكريم حتى بز جميع أقرانه بمراحل، وبلغ من جبروته على نفسه أنه كان ينشد ثلاثة أرباع المصحف كل يوم؛ فكان ينشد ربعا قبل الظهر، وربعا بعد الظهر، وينشد الربع الثالث في المساء. وكان الأستاذ يلح عليه بالاكتفاء بربعين في اليوم فيأبى ويصر ويظل مقيما على عناده، إلى أن يجيبه الأستاذ إلى طلبه ويجلس إزاءه ليصغي إلى إنشاده، واستمر سعد على هذا المنوال سنة كاملة، وهي آخر سنة كانت له في ذلك الكتاب.
فسألت العم أحمد زيدان عن السن التي كان فيها سعد باشا لما انتقل إلى القاهرة، فقال أنه يجهل هذه التفاصيل ولكن سعدا كان قد بلغ أشده في ذلك الحين.
صفحه نامشخص