96

ساعات بین کتاب‌ها

ساعات بين الكتب

ژانرها

ض ينادي أمي! أبي! أدركاني

وفتاة هيفاء تشوى على الجمر

تعاني من حره ما تعاني

وأب ذاهل إلى النار يمشي

مستميتا تمد منه اليدان

تأكل النار منه لا هو ناج

من لظاها ولا اللظى عنه وان

قرأ الأديب هذه الأبيات ثم قال: حبذا هي لولا «تمد منه اليدان»، فهذه شهد الله من ضرورات النظم لم يكن للشاعر بها يدان!

قلت: حبذا إذن هذه الضرورة التي وفقت حافظا لخير ما يقال في هذا الموقف، فلو أنه استطاع أن يقول يمد اليدين لما أتى بشيء ولهمد في البيت معنى الهول الذي يطالعك من قوله: «تمد منه اليدان» فإن بناءها على المجهول هنا يريك أن الأب المروع لم يكن يدري ما يصنع، وأنه ذهل عن وعيه فيداه تمتدان من غير شعور ولا فهم لمعنى حركاته ووجهة خطواته، وعندي أن كلمة «تمد أو تمتد» في مكانها هذا أبين عن هول الزلزال من الأبيات الأربعة، وما فيها من نار تأكل، وأرض تنفغر، وأصوات تصيح، وهذا توفيق إذا جاء به الشاعر عن قصد فهو براعة وإذا جاء به عن غير قصد فهو إلهام.

إن كان في هذه الأبيات ما يؤخذ على حافظ فليس هو تلك الضرورة السعيدة، وإنما هو اتهام للرحمة الإنسانية قد تنطوي عليه أبياته، وقد يبدر من بعض الشعراء والكتاب على غير نية، فقد أراد الشاعر أن يمس فينا كوامن الإشفاق، فوهم أننا لا نرثي للمنكوبين إلا إذا كانوا طفلا صغيرا يشفق عليه كل مشفق، أو فتاة هيفاء يحزن الناس عليها للجمال لا للرحمة، أو أبا ينظر الناس بعينيه إلى أطفاله المفقودين ويحسون معه بحنانه المستطار، وليس يحتاج المرء إلى كبير حظ من «الإنسانية» ليأخذ بيد الطفل الصغير، ويتفجع للفتاة الهيفاء، ويأسى لمصاب الأب الثاكل، فلئن كان حافظ قد صدق الوصف، وأبلغ في الصدق، وأفلح في تنبيه الشفقة وبسط الأيدي بالمعونة لقد كان يبلغ المدى في الإحسان لو أنه استمد الوصف من حاسة غزيرة وقدرة فنية تنتزعان من الزلزال صورة منكوب غير عزيز على النفوس، لا بل صورة حيوان هائم في هول تلك القيامة، فتهبانه من الشعر ما لم يوهبه من عفو الرحمة، وتفيضان عليه من الجمال والمودة مثل ما أفاضته الطبيعة على الطفل المهجور، والفتاة الهيفاء، والوالد المرعوب، ونشعر حين نقرأ الوصف أن جمالا أعلى من جمال الطفولة والملاحة والأبوة، يرتقي بنا إلى ذلك الأوج الرفيع، وذاك هو جمال العبقرية التي تعرف العطف حيث لا يعرفه سائر العاطفين.

صفحه نامشخص