55

ساعات بین کتاب‌ها

ساعات بين الكتب

ژانرها

حنو المرضعات على الفطيم

وأشربنا على ظمأ زلالا

ألذ من المدامة للنديم

يصد الشمس أنى واجهتنا

فيحجبها ويأذن للنسيم

يروع حصاه حالية العذارى

فتلمس جانب العقد النظيم

فهذه أبيات من الشعر الرائق البليغ يتسق لها حسن الصياغة وجودة الوصف و«بساطة» الأداء. إلا بيتا واحدا منها يتطرق إليه اللعب العابث والتزييف المكشوف، فسل أي الأبيات الخمسة هذا البيت المعيب لا نجد إلا القليل يوافقونك على أنه هو البيت الأخير، بل سل من شئت أي الأبيات الخمسة هو أبلغها في الوصف والأداء لا تجد إلا القليل يذكرون لك منه بيتا غير البيت الأخير، فهو بيت القصيد وواسطة العقد كما يقولون! ولم ذاك؟ لأن القارئ تبادره منه صورة العذراء الحالية، وهي في جمال الذعر والدلال فيسري إلى نفسه سرور هذا المنظر الجميل، ويخلط بين هذا السرور وبين سرور الوصف والمعنى الأصيل، وإنما مثله في هذه الخديعة مثل من يشتري الجوهر المزيف بثمن الجوهر الصحيح ؛ لأنه ينظر على العلبة صورة عذراء فاتنة! فجمال العذراء الذي تعرضه عليه العلبة شيء حسن، ولكنه إذا حمله على أن يقبل الجوهر المزيف بثمن أعلى من ثمنه المعروف فهو مخدوع فيه ومأخوذ بحيلة لا يؤخذ بها لو أنه فرق بين اللباب والغشاء، والشاعر هنا يحتال مثل هذه الحيلة في تزييف معناه ويشغلنا بصورة العذراء الحالية عن حقيقة الوصف الذي يراد في هذا المقام، فهو يصف واديا رويا يقي من الرمضاء بنسيمه البليل، ومائه العذب، ودوحه الظليل، فلا يكفيه هذا الوصف الذي هو حسب كل محب للطبيعة مشغوف بجمالها الساذج الغني عن التزويق والتزوير حتى يجعل حصباء الوادي كاللؤلؤ والمرجان ساقطا من عقد منظم، ولا يكفيه هذا حتى يكون العقد في جيد حسناء وتكون هذه الحسناء عذراء، ولا يكفيه هذا حتى يلعب أمامنا لعبته التي تعوزها الأناقة والكياسة، ويغشنا بها غشا محروما من لباقة الحركة وخفة المداراة، فنحن أولا لا نعجب بالحصى في الوادي الظليل لأنه كاللؤلؤ أو كالمعادن النفيسة، ولكننا نعجب به إذا استحق الإعجاب لأنه «الحصى» الذي يحسن في موضعه، ولو كان أبعد الأشياء عن مشاكلة اللآلئ والمعدن النفيس، ومع هذا لا نرى ضيرا في تشبيه الحصى بالدر المنثور، ولا نريد أن نقول إن الشاعر إنما التفت إلى الحصى هنا ليذكر الدر والعقود، لا لأنه أعجب به وتنبه لحسنه ورآه وسما متمما لمياسم ذلك الوادي الذي وصف أدواحه، وظلاله، ونعم بمائه وهوائه، ولا نريد أن نقول: إن بعض الشعراء قد جروا على أن يكون كل منظر من المناظر التي يصفونها مشاكلا لشيء من النفائس القيمة والأعلاق الغالية، فالأرض مسك وعنبر، والحصباء در وجوهر، والشجر زبرجد، والماء بلور، إلى آخر هذه الأوصاف المحفوظة والأمثال السائرة، لا نريد أن نقول هذا ولا نأبى أن يكون الشاعر صادقا في التفاته إلى الحصى مريدا لذكره متعمدا لوصفه، ولكننا إذا لم نقل هذا فأي ذوق سليم تغيب عنه الشعوذة في حكاية العذارى يمثلهن لنا الشاعر مروعات؛ لأنهن ينظرن إلى الأرض فيسرعن إلى لمس جوانب العقود مخافة أن تكون الحصباء من سمطها المبدد وجوهرها المنثور؟ وأي شعوذة لأننا أغمضنا أعيننا وأوصدنا آذاننا وأنكرنا الحس والعقل، لا لأنه بهر الأعين وضلل الآذان، وخلب الحواس والعقول؟ فالصورة التي عرضها علينا الشاعر غريبة عن أصل المعنى كاذبة كل الكذب، ولا فضل للبراعة والطلاوة، وقبولها على أنها معنى صحيح كقبول الجوهر الكاذب إكراما لصور العذارى الحاليات على العلبة المزخرفة! أما الحقيقة فهي أن أولئك العذارى الحاليات، وتلك العقود النظيمة إن هي إلا تحلية بضاعة كتحلية القصب الذي يبيعونه باسم «خد البنت» لا دخل لها في تركيب السكر، ولا قيمة لها في المعصرة، ودفاتر البائعين والشراة!

ولنذكر هنا أبيات المتنبي في وصف وادي بوان، فإنها بسبيل من هذا الغرض، وإن كانت تختلف عن البيت الذي تكلمنا عنه بالصدق والتحلية التي لا تكلف فيها. يقول في وصف ذلك الوادي:

ملاعب جنة لو سار فيها

صفحه نامشخص