كذلك كان القصر في يوم من أيامه الغابرات، ثم كان ما هو كائن اليوم وما سيكون إلى أن لا يكون: دارا لإيزيس وأوزيريس، ومصلى لربة الحب والوفاء، ورب الأقمار والشموس، ثم ها هو اليوم غريق في لجة ماء، وضحية يفتدى بها بعد أن كانت تتلقى الفداء، وبقية من تلك الأجيال تغوص في خضم هذه الماضوية التي ترفعها حوله الصخور والجبال، وتعززها ذواهب الأعمار والآجال، والتي يتلبس بها مكان لو فارقه العبوس لحظة لضحك من الإنسان، ومما يصنع الإنسان، وعجب لهذه الحشرة ما لها وللخلود، وما حق لها تدعيه على المكان والزمان! •••
على ساحل ذلك الخضم كنت أقف بأمسي ويومي منذ أمد وجيز، وعلى ساحله ذاك وقفت طفلا مبهم الآمال والأشواق، أرقب على كثب مني أحدث ما تحدث أوربا، وآخر ما أنجبت ظواهر الحضارة وبدائع القرائح والأفكار، ومنه نظرت إلى المدينة الأوربية تلوذ به وتحج إليه في آثار أرباب لها هجروا عروشهم في الشمال كما زعم الأقدمون، وصمدوا يستطلعون طلع الجنوب، ولشد ما توزعني تلك الرحلة الشاسعة بين أقدم قديم وأحدث حديث، وأشد ما أشعر الساعة بالبعد السحيق يفصل ماضي الذي كنت فيه، وبين حاضر لي وددت لو أنني تركته غريقا هناك في عدوة الخضم العميق.
الصحيح والزائف من الشعر1
كيف نعرف الشعر الزائف من الشعر الصحيح؟ سؤال جوابه عندي كجواب من يسأل: كيف نميز بين ضروب الإحساس؟ فالإحساس القويم الصالح موجود ينعم به أو يشقى به أناس كثيرون، والشعر الجيد الصحيح موجود كذلك يقوله الشعراء ويقرؤه القارئون، ولكن التمييز بين إحساسين كالتمييز بين شعرين أمر يرجع إلى شخص المميز وملكاته وأطواره ومطالعاته، وليس إلى قاعدة مرسومة ومعرفة كالمعرفة الرياضية التي لا تختلف بين عارف وعارف، وللتعليم في هذا الأمر حظه الذي لا ينكر، وأثره الذي لا يذهب سدى، فأنت تستطيع أن تضرب الأمثال وتبين للمتعلم المثل الجيد والمثل الرديء فيفهم عنك ما يفهم، ويستعين بالأمثال على القياس والمقابلة، ولكنك لا بد منته معه إلى حد يختلف فيه نظره ونظرك، ويتباعد فيه حكمه وحكمك، ولن تستطيع أن تعطيه كل وسائل نقدك للشعر إلا إذا استطعت أن تعطيه كل وسائل إحساسك بالحياة. فإن هذا يحتاج إلى خلق جديد، وذاك كهذا يحتاج أيضا إلى خلق جديد.
أسمعنا بعض المتعلمين قصيدة يصف فيها الحرب ويستهلها بالغزل، وأظنه استطرد من الغزل إلى وصف الحرب بجامعة المشابهة بين الدماء التي سفكتها الحسناء، والدماء التي تسيل في ميادين القتال ! وكان بعض السامعين يعجب ويستحسن، ويشتد إعجابه ويعظم استحسانه لهذه المشابهة الظريفة وهذا الانتقال البارع! وكل أولئك السامعين ممن يقرءون الشعر ويتصفحون كتب الأدب ويعرفون أن هناك شعر صناعة، وشعر سليقة، وإن من الكلام ما يتكلف، ومنه ما يرسل عن وحي البديهة الصادقة والذوق السليم! فعجبت لإعجابهم، ودهشت لاستحسانهم، ورأيت أن المسافة بينهم وبيني في النظر إلى ذلك الشعر كالمسافة بين من يقبل على المائدة متشهيا ملتذا وبين من تغثى نفسه من الخلط والغثاثة. نعم! فإن للنفس لغثيانا كغثيان المعدات، وإن للمعاني لخلطا كخلط الطعام، وإن رجلا لا ترفض نفسه إحساس الغزل ممزوجا بإحساس النكبات والكوارث لأعجب عندي من رجل لا ترفض معدته العسل ممزوجا بالخل والتوابل، وذوب السكر ممزوجا بذوب الملح وما إليه!
وكنا منذ أيام نتطارح قصيدة ابن الرومي في رثاء ولده «محمد» وهي القصيدة التي يقول فيها:
طواه الردى عني فأضحى مزاره
بعيدا على قرب، قريبا على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها
وأخلفت الآمال ما كان من وعد
صفحه نامشخص