والمعجزة في لفظها العربي قوامها الإعجاز، أي الإقناع بأن فاعلها هو الله لا سواه؛ ومن ثم يكون الرجل الذي ساقها مساق الدليل رسولا من عند الله، وقوامها في اللفظ الإفرنجي الإعجاب والإدهاش، ولكنه معنى ناقص؛ لأن الشيء قد يكون معجبا مدهشا ثم يكون من عمل الناس كأكثر هذه المخترعات الحديثة قبل شيوعها، وكجميع أعمال الشعوذة وما يسمى بالسحر والكهانة، فإن هذه جميعها عجائب تخالف المألوف وتبده الناظرين إليها بما يجهلون من أسبابها، فالكلمة العربية إذن - المعجزة - أدل على معناها المقصود بها من أختها الإفرنجية، وأقرب إلى غرض أصحاب المعجزات حين يسوقها للإفحام والإقناع.
ولدافيد هيوم الفيلسوف الإنجليزي رأي في المعجزات ينكرها أولا، ثم يذهب إلى أنها على فرض ثبوتها لا تصلح للدلالة على مقاصد أصحابها، ولا تلزمك الحجة بصدق ما يعرضون لك من الدعاوى والأنباء، فهب أن رجلا جاءك وقال لك: إن واحدا وواحدا يساويان ثلاثة أو يساويان واحدا ونصفا، فأنت تنكر عليه هذه الدعوى وتناقشه فيها بالأدلة الحسابية، فإذا قال لك بعد ذلك: إنني أستطيع أن أريك الشمس طالعة من المغرب إلى المشرق، أو النجم يجري في السماء لغير مستقره. ثم استطاع ذلك فعلا فأنت تكبر الأمر وتستهوله وتحاول تعليله، ولكنك لا ترى كيف يقنعك هذا بأن واحدا وواحدا يساويان ثلاثة، ولا يساويان اثنين كما علمت بالحساب والبرهان، وإذا زعم زاعم لك أن حادثا من حوادث التاريخ المحققة لم يقع قط في الدنيا، أو وقع على خلاف الوصف الذي أجمع عليه الرواة فأنت قد تعجب لذلك، وتطلب الدليل على كذب الرواة وخطأ التواريخ، فإذا جاءك المدعي بدليل يثبت به قدرته على رفع الأشياء بغير روافعها المألوفة، وإظهار الأشياء في غير مواعيدها الموقوتة، أو ما شابه ذلك من شواهد القدرة ودلائل الإعجاز، فالمسألة تظل في نظرك كما كانت في مبدأ الأمر قائمة بغير دليل مقنع من جنس القياس المنطقي الذي تجوز به المناقشة، فالبرهان العلمي أو البرهان المنطقي هو عند دافيد هيوم البرهان لا سواه، الصالح وحده للإثبات والنفي والتصديق والتكذيب.
وكلام الفيلسوف فيه شيء من الوجاهة، ولكن فيه كذلك شيء من المغالطة. إذ ما هي دعوى النبي الذي يطالبك بالإيمان وتطالبه أنت عليه بالبرهان؟ دعواه أنه مرسل من عند الله برسالة قد تفوق مدى العقل والإدراك ولا بد فيها من التسليم فالنجاة، أو الإنكار فالهلاك، وكل ما يطلب من النبي إذا هو ادعى هذه الدعوى أن يأتي بعمل لا تشك أنت في أنه عمل إلهي يعجز عنه البشر أجمعون، فإذا قدر على ذلك الفعل فقد ألزمك الحجة، وقام لك بما هو حسبه من دليل قاطع مانع للشك والجدال، ووجب عليك أن تصدق رسالته وتؤمن بالقدرة التي يدعوك إلى الإيمان بها ولو كنت لا تراها ولا تنفذ إلى مقام الحديث معها. كل ما عليه كما قلنا أن «يثبت» لك أن المعجزة التي جاءك بها لا تأتي لإنسان، ولا تصدر من غير إله، فإنه إن أثبت لك ذلك فقد أثبت لك كل شيء، وأدى إليك أمانتك أصدق أداء.
تلك هي المعجزة التي يحتاج إليها العقل الإنساني ليؤمن بما فوق إدراكه، ومتناول نقده وتعليله، فينبغي للمعجزة أولا أن تخرق النظام الذي يعهده الناس، وينبغي لها ثانيا أن تمنع كل ريب في حدوث ذلك الخرق بقدرة غير قدرة الله، ولا يكفي الإعجاز وحده دليلا على الرسالة الإلهية؛ لأن الإعجاز قد يكون لغير براعة في الفعل المعجز، وقد يكون لعمل من أعمال البشر التي لا بد فيها من رجحان واحد على الآخرين.
مثال ذلك: جاء إليك صبي يتهجى وكتب لك سطرا من خطه، ثم طلب إليك أن تكتبه أنت بيدك كما كتبه هو غير مستعين برسم ولا تصوير، فأنت لا محالة عاجز عن محاكاة ذلك الخط أتم محاكاة وغيرك أيضا عاجزون عن إجابة ذلك التحدي الساذج الصغير ، فماذا ترى في دعوى الصبي إذا هو ادعى النبوة، أو ما شاء له عقله الصبياني المخدوع؟ هذه محاكاة يعجز عنها أقدر القادرين في كتابة الخطوط لا لحسن رائع في الخط المحكي، ولا لزيادة في جهد الصنعة وطاقة التجويد، ولكن لأن يد الصبي غير سائر الأيدي، ومعرفته بالخط غير سائر المعارف فهو يكتب خطا لا يحكيه أحد، ويفعل فعلا يعجز عنه الآخرون، فهل ترى هذا الإعجاز مما تنهض به الحجة وتغدو له العقول؟ أو هل ترى أن مجرد العجز هنا دليل على انتصار الصبي القادر وخذلان المقلدين العاجزين؟
على أن العجز عن المحاكاة قد يكون لحسن رائع في الشيء المحكي، ولزيادة واضحة في جهد الصنعة وطاقة التجويد؛ قد يكون آية النبوغ ومعجزة العبقرية الراجحة بمزاياها وملكاتها على جميع العبقريات، ثم لا يلزم منه أن يتخذ دليلا على النبوة والرسالة الإلهية، أو أن يثبت لصاحب الآية كل دعوى يدعيها وكل حجة يحتج بها على من لا يساويه في الإتقان والبراعة، فالشعر مثلا سليقة يتشابه فيها الشعراء، ولكنهم لا يبلغون ذروتها العالية جميعا، ولا يرتفع إلى تلك الذروة إلا واحد فرد تنقطع دونه المنافسة، ويحجم عنه الادعاء، وهذا الفرد في رأي الإنجليز والأوربيين عامة هو ويليام شكسبير، سيد الناظمين في وصف حالات النفوس، وتحليل طبائع الرجال والنساء والملوك والصعاليك والعقلاء والمجانين. آية لم يؤتها شاعر غيره ولم ينكرها عليه مدعي عظمة، أو طامع في شهرة، أو مكابر في فضيلة، فهم ها هنا متفقون لا يشذ عنهم في الرأي إلا أمثال الذين يشذون على الأنبياء والمرسلين، ويلجون في المكابرة بدليل أو بغير دليل، ومع هذا نحن لا نسلم لشكسبير النبوة إذا ادعاها وتحدى الشعراء أن ينظموا مثل نظمه ويصفوا مثل وصفه فعجزوا عن الإجابة، وأقروا بالعجز صاغرين، ونحن لا نقبل أن تكون معجزته إلهية خارقة للنواميس؛ لأن الناس «عاجزون» عن مجاراته فيها، ولأنه هو الفرد الذي اتفق له الرجحان على الشعراء كافة في المشرق والمغرب، إذ لو لم يتفق له هو ذلك الرجحان لاتفق لسواه، ثم لا يكون ذلك السوي إلا آدميا من الآدميين، وإنسانا فانيا لا يسمو إلى مكان الآلهة والأرباب، وإنما مثله في هذا الرجحان مثل الحجر الذي يوضع في أعلى البناء ويزدان بالحلية وإبداع اللون والتركيب، فهو يعد حجرا كسائر الحجارة وإن ميزه موضعه بالعلو والجمال، وهو لا يحق له أن يتخذ من تفرده معجزة يتسامى بها على طبيعة الحجر وقوانين البناء.
وقصارى القول: إن المعجزة النبوية يجب أن يثبت لها أمران؛ أنها معجزة من حسن ورجحان، وأنها معجزة من قدرة الله وحده لا من قدرة أحد سواه، وعلى الذين يتكلمون في إعجاز القرآن أن يبسطوا القول في هذا، وأن يقصروا الحجة عليه؛ لأن كل حجة غيرها تحتاج إلى تتمة تبلغ بها إلى هذه النهاية - وسبيل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي صاحب كتاب «إعجاز القرآن» الذي بين أيدينا الآن - أن ينحو هذا النحو، ويزيد فيه على من تقدمه إذا هو أراد أن يجعل كتابه إذن نموذجا في البلاغة البدوية، أو تسبيحا بالآيات القرآنية، أو تحية يقرؤها المسلم فيرتاح إليها، ويقرؤها غير مسلم فلا تزيده بالقرآن علما، ولا تطرق من قلبه أو عقله مكان الإيمان والتسليم، ولكن لا يقل عنه إنه كتاب في إعجاز القرآن، وليس فيه شاهد واحد على معجزات الكلام، ولا هو نهج فيه ذلك المنهج الذي أحسن فيه الجرجاني أيما إحسان، وأفاد به الآداب العربية أيما إفادة، فإنما الثناء على القرآن في كتاب تناهز صفحاته الأربعمائة حسنة طيبة يكتب للرافعي أجرها وثوابها عند الله، ولكنها لا تكتب له في سجل المباحث والعلوم، ولا تعد من حسنات التفكير والاستقراء.
أويعجب الأستاذ الرافعي مما نقول؟ إذن ليرجع إلى كتابه، وليذكر أنه عبر أكثر من مائتي صفحة لا يكاد يلم بشاهد واحد من آية قرآنية، أو أصل واحد مقرر من أصول البلاغة، وأنه لما بدأ بالاستشهاد في فصل «الكلمات وحروفها» جاء يحدثنا عن نبرات الحروف، ونغماتها الموسيقية، وموقع كل حرف بجانب ما تقدمه وما يليه، كأن بلاغة القرآن معلقة على هذا المعنى تثبت بثبوته وتدحض بإدحاضه، وإليك بعض ما ذكر في هذا الفصل بنصه: «ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، فيهيئ بعضها لبعض ويساند بعضها بعضا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف من دقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة وربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب ولا تساغ، وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحروف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنا عجيبا، ورأيت الأحرف والحركات التي قبلها قد امتدت لها طريقا في اللسان أو اكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت متمكنة في موضعها وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة. كلفظة «النذر» جمع نذير فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معا فضلا عن جسأة هذا الحرف ونبوه في اللسان، وخاصة إذا جاءت فاصلة للكلام فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكن جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته في قوله تعالى:
ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر . فتأمل هذا التركيب وأنعم ثم أنعم على تأمله وتذوق مواقع الحروف وأجر حركاتها في حس السمع، وتأمل مواضع القلقلة في دال «لقد» وفي الطاء من «بطشتنا» وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو «تماروا» مع الفصل بالمد كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذ هي جرت على اللسان؛ ليكون ثقل الضمة عليه مستخفا، ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة، ثم ردد نظرك في الراء من «تماروا» فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء النذر حتى إذا انتهى إليها اللسان انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه. ثم اعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون وأنذرهم وميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في النذر وما من حرف أو حركة إلا وأنت مصيب في كل ذلك عجبا في موقعه والقصد به.»
هذا نموذج من شواهد الرافعي بنصه، نرى أنه قد علق فيه بلاغة القرآن على شيء هيهات أن يكون مقصودا أو ساريا في كل آية على النحو الذي يحكيه، وإلا فما يقول الرافعي في هذه الآية التالية من سورة هود:
صفحه نامشخص