سبیل حیات
سبيل الحياة
ژانرها
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازنى
الفصل الأول
بلدتي القاهرة
كان ينبغي أن تكون بلدة «كوم مازن» - مركز تلا، على ما أظن، من أعمال المنوفية - مسقط رأسي. فإن فيها أهلي وعشيرتي.. ولكن المقادير بخلاف ذلك. فلا رأسي سقط في كوم مازن، ولا كتب لي قط أن أزورها أو ألم بها.
وشاءت إرادة الله - لحكمة ولا شك - أن أكون قاهريا، مولدا، ونشأة، وإقامة، وأنا أطوف ما أطوف ثم آوي إلى القاهرة، ولا يخطر لي أن أرى هذه البلدة - الطيبة على ما سمعت - التي نزل فيها أجدادي ونسبوها إليهم وكنت أظن لفظ «كوم» محرفا عن «قوم»، ولكن الدكتور زكي مبارك - وهو أدرى - يقول إن الصواب «الكوم» بالكاف، وأنه لا تحريف هناك، لأن أهل القرى التي تقع على النيل، كانوا يؤثرون الأرض المرتفعة حتى لا يغمرها الماء في موسم الفيضان..
والقاهرة التي عرفتها - أو قل الرقعة التي عرفتها منها - في صدر حياتي، شيء مختلف جدا عن هذه القاهرة الحديثة التي أشابتني.. والرقعة التي أعنيها هي التي لا تزال معروفة بأسمائها وإن كانت معالمها القديمة قد عفى عليها الزمن، وهي تشمل أحياء الجمالية، والأزهر، والسكة الجديدة، وغيرها مما يتفرع عليها.
وكانت طرقها ضيقة، وأرضها غير مرصوفة، ودورها واسعة ذات أفنية رحيبة، وفي بعضها شجر ذو ثمر وزهر ونافورة جميلة، ومصلى. وفي إحدى هذه الدور الجميلة - وكانت لزوج عمتي لا لنا - ولدت.. ولكن أبي كان قليل الاستقرار، فكان لا ينفك ينتقل بنا من دار إلى دار، حتى لأحس أني أكلف ذاكرتي شططا حين أحاول أن أتذكر صور هذه البيوت كلها.. ولكن شيئا واحدا أتذكره بوضوح وهو فناء كل بيت، أو «الحوش». أما المسكن نفسه - حيث يأكل الناس، وينامون - فإن أمره يعييني. وأحسب أن هذا غير مستغرب، فإن «الحوش» هو ملعب الطفل ومرتعه، وفيه يقضي معظم نهاره فصورته خليقة أن تثبت ولا تبرح ذهنه.
وكان بعض الطرق مسقوفا، مثل شارع «القرنية»، ليحجب الشمس، والبعض درب ضيق فوقه بناء: فهو أشبه بالسرداب، مثل الذي كان، ولعله مازال بين «بيت المال» وساحة مسجد الحسين، رضي الله عنه، وفيه تكثر الوطاويط.. وكانت «الحارات» في الأغلب ضيقة جدا، والبيوت فيها متقاربة، فالطريق لا يتسع لأكثر من اثنين يسيران جنبا إلى جنب.
وللبيوت «مشربيات» جميلة دقيقة الصنع، من خشب، تبرز من المنازل المتقابلة وتكاد تتلاصق، وفيها توضع القلل ليتبرد الماء. ومازلت أذكر كيف كنت أمد يدي إلى مشربية الجار، فأشرب من قلله إذا وجدت قللنا فارغة، أو ماءها غير بارد، أو لمجرد العبث والشيطنة!..
صفحه نامشخص