وقد انضم شاكر بك إلى الوفد، وتجلى نشاطه في الصحافة والبرلمان، ولكنه انضم إلى السعديين عند انشقاقهم وتقلد الوزارة مرتين، ولما قامت ثورة يوليو اعتقل أكثر من مرة وفي مناسبات مختلفة، ثم وضع تحت الحراسة فهام على وجهه كالمجنون. وكانت أم أحمد ترثي لحاله وحال أسرته وأمه ولكني عرفت عنه أشياء .. من بعض الصحفيين، لم يكن من المستطاع أن تبلغ علم أم أحمد. قيل - والله أعلم - إنه عمل مرشدا للمخابرات، وقيل إنه وضع نفسه في خدمة بعض من العرب كقواد دون لبس أو إبهام، وإنه بهذا وذاك أمن المزيد من العسف وكون ثروة كبيرة. وكانت تلك الثروة دعامته في عهد الانفتاح، ليقفز إلى درجات خيالية من الثراء. اليوم الظاهرة الغالبة عليه هي التدين، وكأنما يكفر عن تناقضات حياته الحافلة بالألم والذكريات الأسيفة.
خطر لي ذات يوم أن أزور أم أحمد بعد انقطاع طويل. وجدتها في بيتها مع ابنتها المحالة إلى المعاش بعد خدمة كاملة في التعليم. كان بصرها قد كف وقدرتها على الحركة قد ولت. ولما عرفتني فتحت لي ذراعيها بحرارة وشوق، ثم جلست على كرسي جنب فراشها. لعل لسانها هو العضو الوحيد الذي بقي محافظا على حيويته، ورحنا نتذكر ونتذكر ونقلب صفحات الماضي البعيد والقريب. جلنا معا في جنبات عالم حافل بالأموات، ألا ما أكثر الراحلين! كأن الوجوه لم تشرق بالسناء والسنا في ظلمات الوجود، وكأن الثغور لم ترقص بالضحك، ها هي راوية الحكايات وطبيبة الحب والجنس والسعادة ملقاة على الفراش القديم تشكل عبئا يوميا على أقرب الناس إلى قلبها. وما قيمة الحكايات يا أم أحمد وهي تتكرر بصورة أو بأخرى قبل أن تلقى نفس المصير؟ وقد عبرت الحارة من أولها لآخرها وانغمست في العطر القديم. رأيت قلعة آل سعادة مغلقة مهجورة كالبيت المسكون، أما السرايات الأخر فقد صارت إحداها مدرسة، والثانية مستشفى، والثالثة مقرا للحزب الوطني. وتنبثق من الماضي أصوات وألوان ونبضات قلب، فأقول لها: لقد جمعتنا هذه الحارة ذات يوم ثم فرقت بيننا الأيام، فإلى اللقاء في المقر الأخير.
صباح الورد
لم يبق من شارع الرضوان القديم إلا موقعه ما بين شارعي العباسية وبين الجناين، ويحتفظ أيضا بميل سطحه الطبيعي من مرتفع الشرق إلى منخفض الغرب، غير أن بيوته قد انقلبت عمائر، وتحولت الحقول والحدائق إلى أرض فضاء تباع فيها الخردة ومخلفات السيارات. وحل سكان جدد لا يحصيهم العدد مكان سكانه القدامى الذين تشتتوا في الأحياء أو استقروا في جوف الأرض. كان يستكن في حضن الهدوء الشامل، محاذيا في حبور الحقول والحدائق، يثمل بمناجاة يومية مع أشجار الحناء والياسمين والتين والخضروات، وخرير السواقي، مزهوا ببيوته المهندمة ذات الحدائق الخلفية الصغيرة. في الشتاء تسقفه السحب وتتجهمه وجوهها المكفهرة، وحتى إذا أمطرت مطرة واحدة سال سطحه المائل بالمياه الجارية لتتجمع في شارع بين الجناين صانعة نهرا منه يفور بالزبد. وفي الصيف تلهبه الشمس فتنطلق من صنابير جدرانه خراطيم المياه ترش الأرض مهدهدة حرارتها الحامية. وينظر القادم من الحي الشعبي العتيق فيما حوله بدهشة وسرور، ولا يجد في قاموسه وصفا للشارع والبيوت والناس إلا أنه شارع إفرنجي وبيوت إفرنجية وأناس متفرنجون، لا ينقصه إلا القبعة واللغة الأجنبية. ومع ذلك فقد ترى القبعة فوق شعر مقصوص ألاجرسون، أو تسمع الفرنسية في حوار عابر، وقد نطق صبيانه بجملة: «أحبك وأعطني قبلة.» بالفرنسية قبل أن يتعلموها في المدارس بسنوات طويلة.
واستقرت أسرتي في بيت من البيوت في منتصف الجناح المطل على الحقول، أمي وأبي وأنا، أما الإخوة والأخوات فقد هاجروا هجرة دائمة إلى بيوت الزوجية. والنقلة من الجمالية إلى العباسية في ذلك الزمان تعتبر وثبة من القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث. توارت الحارة والأزقة بعبيرها العنبري ومصابيحها الغازية وعرباتها الكارو وملاءاتها اللف والجبب والقفاطين والعمم. وتلقانا الرضوان، ملتقى الريف والمدينة، بعصرية مقتحمة مهديا إلينا المياه والكهرباء والصرف الصحي، وسرعان ما استبدلت بالجلباب البيجاما، والكرة بالسيجة والجري وراء عربة الرش، كما كتب علي أن أرى السيقان والأعناق لتتفتح على إيقاعاتها مراهقتي. كنا أول من هاجر من الطبقة الوسطى الصغيرة، في إثر أعيان الحارة الذين سبقوا إلى العباسية الشرقية فشيدوا القلاع وغرسوا الحدائق. وكان والداي قد فارقا الشباب بعقد أو عقدين من السنين، والحق أن فرحتهما بالحياة الجديدة شابها اكتئاب وحنين، ولم يستطيعا التحرر من هيمنة الحي القديم على قلبيهما، من أجل ذلك لم ينقطع أبي عن حيه، أناسه ومقاهيه، وكذلك أمي واظبت على زيارة الحسين وجيران الزمان الأول، وربما سألت أبي في عتاب: لماذا هجرنا بيتنا القديم؟
أما أنا فقد انقسمت إلى اثنين، تكيفت مع الجديد وأصدقائه ومجالسه وعصريته، وكلما سنحت فرصة للرحلة للحي العتيق انتهزتها حتى جرفت معي الأصدقاء الجدد فاكتشفوا على يدي عالما غريبا، عشقوه، وأقبلوا عليه كالسائحين. على أي حال فلن يطول حديثي عن بيتنا أكثر من ذلك، ولي عودة إليه إن شاء الله في حينه. أما الآن، وسأقتنع بأن أكون ترجمان الرضوان فيما لديه من قصص. هو صاحب الحكايات الأول؛ فهو الذي ضم البيوت يمينا وشمالا، وعلى سطحه التقى الصبية ليبدءوا عهد صداقة دائمة، وفي أركانه ذهب الأبطال وجاءوا، وفي جنباته تطايرت الأخبار وانتشرت، ولو لم يصدق من رواياته إلا نصفها لكفى، بالإضافة إلى أن الزمن كان ينقيها من الشوائب ويسندها بالشواهد، والعبرة في النهاية بما يقال لا بما حدث، ورب كذبة أصدق من حقيقة، فاستمع إلى شارع الرضوان ولا تكن من المتشككين.
آل إسماعيل
يقوم بيتهم في آخر الشارع من ناحية بين الجناين، في الناحية المطلة على الحقول، وهو يماثل أكثر البيوت بهندسته الأنيقة وحديقته الخلفية، ولكنه بحكم موقعه يطل على الحقول وشارع بين الجناين وشارع الرضوان، ويمتاز بدرجة عالية نوعا بأثاثه واستخدامه لطاه مع الخادمة وهو ما يعد من الاستثناء النادر. وتتكون الأسرة من جمال بك إسماعيل - ولا أدري إن كانت رتبته رسمية أم بالشهرة - الموظف بوزارة الأوقاف، وزوجته كريمة هانم وذريته الجميلة مديحة وسامية وعثمان. أسرة ناجت وجداننا حتى نفذت إلى أعماقه. الأب ربعة كبير البطن كث الشارب، مهيب الطلعة، لامع الحذاء والعصا، إذا مر أوقفنا اللعب وتلقينا نظراته الغاضبة في سكون وامتثال. وربما صاح بنا: بدل اللعب والقرف روحوا سقفوا عقولكم!
ينطق «سقفوا» لا «ثقفوا»، فنغرق في الضحك بعد ذهابه ويقول قائلنا: ما هو إلا بغل فخم!
أما كريمة هانم فتسير مختالة بحسنها، متبخترة بلحمها الجسيم كالمحمل، وأما مديحة وسامية فما أجمل ما يشف عنه النقاب من جمالهما الغض، حتى عثمان تميز بالجمال ولكن رقته الأنثوية جرت عليه التعليقات الساخرة الحادة. وترفع عن صداقتنا لفارق عمر بسيط، وكم عبر بنا دون أن ينظر إلينا. واشتهرت كريمة هانم في أوساط الأسر بالخفة، وتمتعت في حياتها بقدر لا يستهان به من الحرية، فكانت تصاحب زوجها إلى المسرح والسينما، وتحكي للنساء عن منيرة المهدية ومسرحياتها الغنائية، وطالما قالت عنها والدتي: سيدة طروب ودمها شربات، ولا نهاية لنوادرها المسلية!
صفحه نامشخص