وهو اليوم في الخامسة والسبعين، قل نشاطه ولم ينعدم، صحته حسنة، ومزاجه رائق، وضحكته عالية. وقد اكترى شقة على النيل في طريق المعادي في الدور الخامس عشر، ويقسم لياليه بين ملاهي الهرم ومقهى العباسية.
آل العلوي
جيران السناوي. ولبيتهم ميزاته من الضخامة النسبية وجمال الأثاث والرياش، فضلا عن أن جدرانه معرض وطني لزعماء الوفد. وآل العلوي أسرة عريقة في الثراء والجاه، وجدهم مذكور في تاريخ الجبرتي بين النخبة الوطنية المصرية، وعندما انتقلت إلى شارع الرضوان وتوثقت عرى الصداقة بيني وبين ابنهم الأصغر جميل، كان رب الأسرة قد لزم الفراش طريحا مفلوجا، وكانت الأم تقوم بواجبات الوالدين معا. وإلى ذلك كان له أخوان من أهل العلم والخبرة يشغلان وظائف مرموقة في الحكومة، وأختان متزوجتان من موظفين كبيرين، والأم سيدة ممتازة حقا ممن سبقن إلى التعليم في أعلى درجاته المتاحة، وشاركن في الحركة الوطنية، واحتلت مركزا رفيعا في لجنة السيدات الوفديات، هو بإيجاز بيت علم وجاه ومال ووطنية. ولما مات الأب شهد شارعنا جنازة كبرى سار في مقدمتها سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وماهر والنقراشي وغيرهم من أساطين الثورة المصرية. وجميل مشرق الوجه، رياضي الجسم، نبيل المظهر، ولكنه انحرف عن سبيل أسرته فوهب نفسه للرياضة واللهو، ولم يحقق في حياته المدرسية النجاح المتوقع، فحصل على الابتدائية بطلوع الروح، وغلب الحب أمه فلم تعامله بالحزم الواجب. جل كان يطلع على المجلات والكتب، وكان ذكاؤه أكبر من همته فلم يطبع بطابع التفاهة أو السطحية أبدا، ولم يفتر اهتمامه بالشئون العامة. وأصيبت أمه بمرض عضال لم يمهلها طويلا فلحقت بزوجها، ووجد صديقنا نفسه وحيدا في بيت الذكريات مع الطاهي وخادم عجوز. وتسلم تركته الوفيرة في وقته فاقتنى سيارة فيات وعاش عيشة الأعيان منذ شبابه الباكر. إنه مثال نادر الوجود في نبل أخلاقه ونقاء سريرته وشهامته وخفة ظله وخالص مودته، فضلا عن انتمائه القلبي إلى وطنه. ولا شك أنه تنبه بعد فوات الفرصة إلى فداحة الخسارة التي حاقت به بإهماله الدراسة، وإلى الفوارق التي باعدت بينه وبين أفراد أسرته والناجحين من أصدقائه، ولكن ذلك لم يوغر صدره على أحد، ولم يرسب في أعماقه عقدة من عقد النقص أو العظمة الكاذبة، فظلت العلاقة بينه وبين إخوته وأصدقائه على أتم ما يكون من الصفاء والمرح، ولكنه من ناحية أخرى انغمس في ملاهي الشباب، فعشق النساء وشرب الخمر وجرب المخدرات. وربما شابه سيد ضرغام في استهتاره أو سامحا في تمرده على التقاليد، ولكن ذلك اقتصر على السطح دون الأعماق. كان صاحب عقيدة دينية ومبادئ أخلاقية ووطنية، ولكن بقدر ما امتلأ قلبه بالأنوار بدا سلوكه منحرفا مستهترا متمردا، يؤمن بالله ودينه ولكن لا يؤدي فريضة ولا يحترم طقسا، ويتأجج قلبه بالوطنية ولكنه لا يترجم ذلك إلى سلوك أو فعل ، فلم يتفق قلبه وسلوكه إلا في المعاملة، معاملة الأصدقاء بصفة خاصة والناس بصفة عامة. ومضى في حياة اللهو ما بين القاهرة والإسكندرية حتى فكرت أختاه في تزويجه من بنت الحلال المناسبة. ولما فاتحتاه في ذلك، قال بهدوء حازم: لن أتزوج، إنه قرار قديم ولكنه أبدي!
ودهشنا لما سمعنا. وكان عبد الخالق - الملهوف على الزواج والمحروم منه لفقره - أشدنا دهشة وقال له: تستطيع أن تتزوج من أحسن بنت في البلد!
ولكنه كان يفكر تفكيرا مختلفا، الزواج الذي تقترحه أختاه زواج الكفاءة، والأسرة والعرائس في طبقته يتطلعن إلى المركز والشهادة مع المال أو قبل المال. وهو يتحمل أي شيء إلا أن يرفض لتعليمه الرسمي المحدود أو بطالته! فتحت إشراقة الوجه وسماحة الخلق ولطافة المعشر كمنت الكبرياء كقوة لا تعرف الوسط، قلت له: توجد ولا شك من ترحب بك.
فقال باسما: لست شحاذا!
ورغم كل ما قلت عنه فإن قصته الحقيقية لم تبدأ بعد، ألم تبدأ وتنته مع القمار؟ أجل، إنه متعدد الهوايات؛ فهناك الصداقة والحب العابث والشراب والقراءة والسينما، ولكن كل أولئك لا تمثل إلا هامش حياته فقط، أما اللب والجوهر والماهية فهو القمار، بدأ لعبه هواية، تسلية، وتمكن واستفحل حتى صار جوهر الحياة ومعناها ونبضها وحلمها وكل شيء فيها، صار قلبه وعقله وخياله وأعصابه، قلنا إنه القمار والقمار هو. النرد والبصرة، البوكر، الكونكان في المقهى، في البيت، في النادي، ثم بعد التحريم في بيوت القمار السرية. وكان له وقت معين وللأشياء وقتها، ثم التهم الليل كله حتى مطلع الصبح، وأصبح لكل شيء سواه وقت يخطف خطفا، وأصبح المحور وكل شيء يدور من حوله. المائدة هي الأصل، وقد يشرب وهو جالس إليها، أو يتناول طعام عمل، أو يعشق امرأة مقامرة. كل لذة باتت ثانوية بالقياس إلى القمار، حتى الحب نفسه. كأن الكون لم ينفجر، والأرض لم تولد، والحياة لم توجد، إلا كي يتمخض عن ذلك كله الكوتشينة الملونة المزركشة برموزها وأعدادها المقررة للمصائر. ولم تؤثر المقامرة في صفاء أخلاقه؛ فلم يقارب الغش ، ولا التآمر، ولا الحقد أو الغضب، حتى لو تبين له أنه كان ضحية اغتيال واحتيال، وجرت الحياة على منوال واحد حتى بلغ الخمسين من العمر، وعقب استيقاظه من نوم النهار، ذات يوم من الأيام، ما يدري إلا ويد تقبض على عنقه، وتضغط بغلظة على جهازه التنفسي، وتمزق حنايا صدره. ويخف إليه طبيب الحي ليعلن عن مجيء الذبحة الصدرية، ويصف العلاج والرجيم ويوصي بالتزام الفراش شهرا على الأقل، لم يصدق ولم يستسلم. أبى أن ينضم إلى زمرة العاجزين أو شبه العاجزين، أبى أن يحرم نفسه من طيبات الحياة من أجل ضربة عابرة. وما كاد يشعر بتحسن مع دخول الليل حتى نهض فارتدى بدلته وذهب إلى سهرته! ورجع إلى بيته في الصباح الباكر ليتلقى الضربة الثانية. ولم يصدق الطبيب ما حصل، وقال: إنه الجنون نفسه!
وأدرك على رغمه أن الحال تقتضي جدية وصبرا فاستكن. ولما استرد صحته فكر في الأمر مليا. إنه مطالب بتناول الدواء بصفة مستمرة، والحرمان من لذيذ الطعام، وتجنب الانفعالات أو القمار بمعنى آخر. وبمعنى آخر أيضا إذا أراد الحياة فليقنع منها بأن يكون جثة محنطة، ليستمر نبضه وتنفسه عددا من السنين. كلا، ليس هو ممن يختارون هذه الحياة، إنه لا يخاف الموت ولا تزعجه فكرته، وما تهمه إلا الساعة التي هو فيها. والموت آت على أي حال سواء سبق بالفوضى أم بالنظام، بالاستهتار أم الحرص، فاحي حياتك وليكن ما يكون. ومارس حياته كأن لم تعترضها ذبحة أو طبيب أو إرشادات طبية. ويراقبه الأصدقاء بقلق، ولا يضنون عليه بالموعظة والإرشاد. ويشيدون بفضيلة الاعتدال، تذكر ما وهبك الله من مال وحرية وعقل، توجد فرص كثيرة للحياة الطيبة الطويلة، ولكننا ننهزم حيال ابتسامته الحلوة الساخرة الملخصة لفلسفته في الحياة بلا كلام، بل إنه اعترف لنا ذات يوم قائلا: الدهن الحيواني محرم علي كما تعلمون، ولكنني لا أرضى بأقل من ست كعكات من كعك العيد!
وصاح به حسن الفنجري: إنها تتخم مدينة صغيرة لا معدة فرد من بني آدم!
وواصل سهره مع القمار إلى الصبح، وخطر لي يوما أن أسأله عما يجذبه بكل تلك القوة إلى مائدة القمار. توقعت أن يقول الفراغ أو الضجر أو اليأس ولكنه أجابني مرة في لحظة صدق: المائدة تجمعني بنخبة من الأكابر، لا على أساس من المساواة فحسب، ولكنها تمنحني السيادة أيضا في كثير من الأحايين، ولا تنس لذتها الجنونية!
صفحه نامشخص