أم أحمد
لو رجعت إلى الذاكرة ما وجدت إلا صورا متناثرة لا تعني شيئا؛ قمرا يطل من نافذة عالية، أقمارا ثلاثة يخرجن من تحت القبو صفا واحدا، حنطورا يتهادى في الميدان بامرأة كالمحمل. الزمن القديم في الحي العتيق، لم يبق من حياته الحافلة إلا ما تعيه الطفولة؛ مناظر غائمة، وأصوات غائبة، وحنين دائم، وقلب يخفق كلما حركته روائح الذكريات. ما كان أجدر ذلك كله أن يتلاشى في ظلمة الماضي، فلا يستطيع الحب أن يستنقذه من الموت، لولا خالدة الذكر أم أحمد! قوية، سمراء، متحدية، في ملاءتها اللف، ووجهها السافر، وشبشبها الرنان، وصوتها الغليظ النافذ، ولسانها الذي لا يهمد ولا يعرف الحرج، بيتها كان يقع ملاصقا للشرفة التاريخية لبيت القاضي، يصل إليه الزائر من ممر ضيق متصاعد مترب، في جانبه كارو قديمة مركونة مهملة، وأحيانا يرى حمارا واقفا يقتات التبن من مخلاة تطوق علاقتها عنقه، كان يشدني إلى مأواها العربة المهملة والأمل المثابر العنيد في الالتقاء بالحمار الهادئ العذب، وهناك أراها وهي تطهو الطعام أو تطعم الدجاج أو تتسلى بمشاجرة شفهية عابرة. في شبابها اليافع - الذي لم أشهده - كانت زوجة لمعلم كارو.
أنجبت منه بكريها أحمد وزينب وسيدة وسنية، ولعلي لمحت الرجل وابنه مرة أو مرات كشيئين من الأشياء التي يموج بها الميدان التاريخي، ميدان بيت القاضي، ولكني علمت مع الأيام أن المعلم قتل في معركة بأرض المماليك، وأن ابنه أحمد مات في السجن. ولم أشهد أم أحمد في حزنها، حتى حين لحقت زينب بأبيها وأخيها لمرض فتك بها في زمن متأخر نسبيا. كلا، لا أذكر أني رأيتها باكية أو مولولة أو شبه يائسة، ما عهدتها إلا متماسكة قوية ضاحكة أو محدثة، غارقة حتى قمة رأسها في أعمالها، ومشروعاتها، تعيش يومها وتبني للغد. وأذكر قول أمي عنها «لولا قوتها الخارقة لأهلكتها الأحزان.» وهو قول لم أع معناه تماما إلا فيما بعد، فعلمت أن أم أحمد التي عرفتها ما هي إلا الثمرة الأخيرة لصراع طويل مع الألم كتب لها فيه النصر؛ فمنذ وجدت نفسها وحيدة توثبت بهمة صلبة للكفاح في الحياة المتاحة، حتى ظفرت بوظيفتها المرموقة في الميدان والحارات المتفرعة عنه، فباتت أشهر شخصية دون منازع، هي الخاطبة والماشطة وإخصائية التجميل والسعادة الزوجية، وشقت طريقها إلى سرايات الحي جميعا وبيوت الطبقة الوسطى، إلى قيامها بمهام الصحافة والإذاعة والمخابرات، وتحسنت أحوالها، ثم توجت كفاحها بتشييد بيت لها من طابقين على كثب من قسم الجمالية. وألحقت سيدة بالمدارس فصارت معلمة، أما بنتها الصغرى، وكانت أجمل إنتاجها كله، فقد أحبها ابن الأسرة الساكنة في الطابق الأول من بيتها وتزوج منها، وأصبحوا فيما بعد من رجال التربية الكبار في مصر. المهم أن أم أحمد جذبتني بسحر حكاياتها عن الجيران، وخاصة أهل الطبقة العليا، وهي حكايات لا يعرف مدى الصدق فيها إلا الله، ولكنها تحرك الشهية دائما لدورانها حول أولئك السادة الممتازين. ولم تنقطع أم أحمد عن زيارتنا عقب انتقالنا إلى العباسية؛ فقد سبقنا أهل السرايات إلى العباسية الشرقية، فانتقل المجال الحيوي لأم أحمد من حي الحسين إلى العباسية تبعا لذلك، مؤصلة ممارسة وظائفها الساحرة. ولم تتوقف عن نشاطها حتى بعد أن تقدم بها العمر، أو بعد أن أدت فريضة الحج وأمست الحاجة أم أحمد، ولكنها اضطرت إلى لزوم دارها بعد أن زحف عليها العجز وضعف بصرها وقلت حركتها قبل رحيلها عن الدنيا في ختام الثمانينيات. ولا أزعم أنها أحسنت تعريفي بأفراد السادة والسيدات من أهل سرايات حارتنا، ولعلها هي نفسها لم يتح لها أن تعرف حقيقتهم، ولكنها اهتمت بعموميات لا بأس بها، وبشئون مما يتصل بعملها، وعلى أي حال فقد عرفت حقائق عن الأسر ككل، كما عرفت أشياء عن مصائرها. وهي في جملتها تعد ثروة هامشية تضاف إلى التجارب التي حصلها الإنسان بنفسه وحواسه وقلبه. ورغم ما عرفت به أم أحمد من صفات الغجر فقد حظيت بإعجابي لقوتها الذاتية وصلابتها وشجاعتها وذكائها وانتزاعها من الصخر الأصم مكانة مرموقة بين أرقى سيدات ذلك الزمان. ولن أنسى أيضا منظرها وهي واقفة فوق الكارو بين جارات لها في إحدى المظاهرات الوطنية تهتف بصوتها المدوي لسعد ومصر.
وحارة قرمز ذات جدران حجرية عالية، تغلق أبوابها على أسرارها، ولا تبوح بسر إلا لمن ينظر في داخلها، هناك يرى ربعا آهلا بالفقراء والمتسولين يجمعهم الفناء للعمل المنزلي وقضاء الحاجات، أو يرى جنة تغنى بالحديقة والسلاملك والحراملك، من نافذة صغيرة عالية قبيل القبو يلوح أحيانا وجه أبيض كالقمر، أراه من موقعي في نافذة بيتنا الصغير المطلة على الحارة فأهيم رغم طفولتي في سحر جماله، وقد أسمع صوته الرخيم وهو يبادل أمي التحية إذا خلت الحارة من المارة، فلعله بث في روحي حب الغناء، فاطمة العمري، حلم الطفولة المجهول، وموعد اللقاء النافذة، وإذا توارت يوما فإنما لتلقنني الألم قبل أوانه. وكلما غابت حدجت أمي بنظرة عتاب كأنما هي المسئولة عن غيابها، فتضحك طويلا وتحكي لأم أحمد عن العاشق الصغير فتتلقف الخبر لتزفه إلى فاطمة، ثم ترجع إلينا برسالة سعيدة أن أشد حيلي، وأنها ستنتظر عريس الهنا مهما يطل الانتظار، ثم تقول: ولكنك تعشق أمها أيضا، فما حكايتك؟
أمها؟! أراها أحيانا في الحنطور وهو يتهادى بها في الميدان، وعيناها الجميلتان تطلان علي فوق حافة البرقع الأبيض، وجسمها المتمادي في العظمة يملأ المقعد بتمامه. وتضحك أم أحمد ثم تقول لأمي: زينب هانم قالت لي إنها رأته «مشيرة إلي» وهو يتطلع إلى ما بين ساقيها المنفرجتين حتى اضطرت إلى ضمهما .. أيعجبك هذا؟!
من هؤلاء الناس الذين ليسوا كبقية الناس؟ العمري - والعهدة دائما على أم أحمد - رجل قد الدنيا، صاحب فابريكة النحاس ومحل بيع النحاس بالصالحية، أصلهم من القدس، والجد الكبير هاجر إلى مصر ليستثمر أمواله، أنشأ فابريكة في الخلاء قبالة الجبل، ويوم حملت الآلات من محطة مصر إلى الفابريكة محمولة على الكارو تجمع الأهالي ينظرون ويسبحون لله القادر على كل شيء، ومن يومها ما من عروس تزف إلا وتقتني نحاسها من محل العمري. وآل الخير كله لحسين بك العمري زوج زينب هانم، وشيد الرجل سراياه في درب قرمز، وأنجب فاطمة الجميلة وثلاثة ذكور.
وكانت زينب هانم وأمي يتبادلان الزيارة، فتجيء الهانم وحدها دون فاطمة وتذهب أمي وحدها بدوني رغم توسلاتي الباكية. وبقدر ما كانت تعجبني عينا زينب هانم إلا أن جسمها الضخم كان يخيفني. ومن عجب أن الحارة كانت أسرة كبيرة واحدة لا تعترف بالفوارق الطبقية. أجل، لم يكن التزاور ممكنا بين الربع والسراي، ولكن السرايات كانت تفتح أبوابها لأهل الربع في رمضان والأعياد، يجلسون في الحديقة، ويأخذون حظوظهم من اللحوم والكعك ويستمعون لتلاوة القرآن من كبار القارئين. وكشفت أم أحمد عن جانب من دورها في سراي آل العمري، فقالت إنه بفضلها استقرت الحياة الزوجية بين حسين بك وزينب هانم، وبفضل وصفاتها النادرة تمادت المرأة في العظمة حتى حاكت المحمل السلطاني، وقالت وهي تقهقه: وهي اليوم تضرب زوجها باليد والعصا!
وذهلت أمي فقالت أم أحمد مستدركة: بالدلال والحب!
ليس كالضرب الذي نستعمله! أي نوع من الضرب ذاك؟! - وهذا اللحم الأبيض الذي تغوص اليد بين طياته الطرية من صنع يدي!
مرة أمرت الحنطور أن يتوقف حيالي وأنا ألعب في الميدان، ومدت لي يدا بضة بذراع مطوقة بالأساور الذهبية لتهبني قطعة من الملبن بالقشدة، فتناولتها فرحا متلقيا في ذات الوقت مما ذقته من عبير جميل نافذ كأنه عصير مركز لحديقة ورد، وكم شغفتني زيارات الهوانم بهداياها اللطيفة اللذيذة! - ووددت أن أسرع في تسمين فاطمة، ولكن أمها أجلت إلى ما بعد الزواج.
صفحه نامشخص