الفارق الحاد بين الماضي والحاضر في تصور الإنسان لحياته، هو الفارق بين السكون والحركة، أو بين الثبات والتغير، فإذا استثنينا آحادا من رجال الفكر في الماضي، وآحادا من رجال الفكر في الحاضر، وجدنا الماضي كله على رؤية واحدة، وهي أن حقائق الأشياء ثابتة، وما على من يريد أن يرسم لنفسه صورة للعالم على حقيقته، إلا أن يبحث في كل شيء عن جانبه الذي هو ثابت فيه، ثم - إذا استطاع - عليه أن يجمع تلك الحقائق الثابتة عن الأشياء، لا ليكومها جميعا في كومة كما اتفق، بل لينسقها في بناء يظهر الصلة بينها، فما هو منها فرعي يوضع في أسفل البناء، وما هو أساس وعام يوضع فوقه، ثم يأتي الترتيب صعودا بأنه يسير في البناء إلى الأعم فالأعم وهكذا، وبهذا يستطيع الإنسان أن يرسم بفكره صورة للعالم كما هو قائم في حقيقته، وكانت هذه الرؤية للأشياء في ثباتها، تقتضي أن يكون لكل نوع من أنواع الكائنات - بما في ذلك النوع الإنساني - تعريف يحدد جوهر حقيقته، لا في عصر معين، ولا في عدة عصور تتوالى، بل هي حقيقته الثابتة إلى الأبد ... فللإنسان - مثلا - صفته المميزة والثابتة معه أبد الدهر، وهي أن فيه كل ما في الحيوان، مضافا إليه «العقل»، وكذلك للدولة صفاتها إلى الأبد، وكذلك حجم المدينة، ونظام الطبقات وطريقة نظم الشعر، وبناء المسرحية ... إلخ إلخ.
وكان من أهم نتائج تلك النظرة، التي تبحث عما هو ثابت في الشيء لتجعله جوهرا لحقيقته، أقول: إن من أهم نتائج تلك النظرة وانعكاساتها، أن قسم المجتمع إلى طبقات، يكون لكل طبقة منها حقيقة ثابتة، وما دامت هي كذلك فمن الخلط في الأمور أن ينقل فرد من انتمائه إلى طبقة، إلى طبقة أخرى، مهما كان لديه من صفات يتميز بها عن سائر أفراد طبقته، وقسمت الأعمال بين طبقات المجتمع، فما هو عمل الطبقة العليا بطبيعتها، لا يجوز أن يشارك فيه أفراد من الطبقة الدنيا ، والعكس صحيح أيضا، وكان أساس التقسيم بصفة عامة، هو أن الأعمال التي يؤديها الإنسان ببدنه، كالزراعة والصناعة، وحتى الألعاب الرياضية، إنما هي مقسومة للطبقات الدنيا، وأما العليا فمجالها ما يؤديه الإنسان وهو جالس، كالتفكير العقلي والإبداع الشعري، وأهم من ذلك تولي مناصب الحكم.
هذه «الخانات» الحديدية القوالب، والتي كان يقسم فيها الناس كل بحسب طبيعته المزعومة، ومنذ ولادته، إنما جاءت تفريعا خطيرا للرؤية العامة التي سادت العصور القديمة، وهي الرؤية التي ترى الأشياء وسائر الكائنات على اختلافها، ذات حقائق ثابتة، قد تطرأ عليها الطوارئ المتغيرة، كأن ينمو الطفل ليصير شابا، وأن ينمو الشاب ليصير رجلا، لكن وراء تلك التغيرات الطارئة جوهرا ثابتا هو الذي يحدد حقيقة ما بقي له وجود، ولقد جاءت الأديان جميعا لتغير ما هو خاص بالإنسان في تلك الرؤية العامة والشاملة، لتجعل الإنسان متساويا في جميع أفراده، وجعل الإسلام الفارق الوحيد بين فرد وفرد هو التقوى، لكن الرؤية القديمة كانت في كثير جدا من الحالات، أرسخ جذورا في نفوس الناس من أن تغيرها رسالات الأديان، وإلا فلماذا أصر أولو الأمر في الدولة الأموية، وهي أول نظام سياسي نشأ في التاريخ الإسلامي بعد الخلفاء الراشدين، أصروا على ألا يتساوى المسلمون الذين هم من أصل عربي، مع المسلمين الذين هم من أصول أخرى - كالفرس وغيرهم - وأسموهم بالموالي، وحتموا أن يكون لذوي الأصل العربي مناصب الحكم والحرب، وأما أعمال الحياة الجارية فمن نصيب الآخرين.
ولم تبدأ في الظهور رؤية أخرى إلى حقائق الأشياء، بما في ذلك الإنسان ونظمه الاجتماعية، إلا في القرن الماضي، ولم يكن ذلك انتقالا عشوائيا من قديم إلى جديد، بل جاء نتيجة طبيعية وضرورية لكشوف علمية جديدة، ولنظرات فكرية نافذة، مكنت الإنسان من رؤية العالم بكل ما فيه في إطار غير الإطار الذي كان، فلقد رأى السابقون الأشياء وكأنها ثابتة، لكل منها طبيعته التي لا تتغير، والتي على أساسها تقام القوانين العلمية التيقنية الثابتة، التي في إطارها يحدث للكائن المعين ما يحدث له، فوجد أهل القرن الماضي أن الأمر ليس كذلك، وأبدأ بالنظر إلى الذرة اللامتناهية في صغر حجمها، والتي من تجمعاتها تتألف الأشياء، فبينما كان تصور العلماء والمفكرين للذرة التي إليها يرتد كل كائن أيا ما كان نوعه، هو أنها جسم مصمت، ساكن، ثابت، لا يتحول من مكانه إلا بدافع خارجي، أشرق على علماء القرن الماضي ومفكريه، تصور آخر للذرة، هو أنها لا تعرف سكونا ولا ثباتا، فضلا عن أنها ليست مادة بقدر ما هي طاقة، تطوي في داخلها حركة لا تسكن ولا تفتر، وتجيء حركة كهاربها وكأنها حرة لا تتقيد بقانون حاسم وحتمي، ومن هنا استعصت حركتها على التنبؤ العلمي المحدد الدقيق، ومن هذا الأساس الأولي الصغير، تغيرت وجهة النظر، فلم يعد في الكون - كما كان الظن قبل ذلك - تلك الحتمية الصارمة التي تصورها الأسبقون.
وفي هذه الحالة، أيضا، كان للرؤية العامة إلى الكون وكائناته انعكاساتها على الإنسان ونظم حياته، فجاءت نظرة جديدة مضادة للنظرة السابقة، فبينما كان الأسبقون يرون أن خطوط الحياة مرسومة لكل فرد من أفراد الناس، ولكل طبقة من طبقاتهم، بحيث لا يستطيع من وضعته طبيعته في جماعة العاملين، أن ينتقل منها إلى طبقة الحاكمين، جاء المعاصرون ليزيلوا تلك الجدران الحاجزة بين الأفراد والطبقات، وأصبحت القدرة وحدها هي التي ترفع أصحابها أو تنزل بهم، وإن لم يتحقق ذلك بصورة كاملة في دنيا الواقع لعوامل أخرى، فهو أمر مأخوذ به من الوجهة النظرية، على الأقل، تضعه الشعوب في دساتيرها ليكون ملزما للجميع، فالفرق كبير بين حياة كانت مطردة اطرادا رتيبا لا يتغير منها شيء ولا يتبدل، بحيث كان من مستطاع أي إنسان أن يتنبأ على وجه التقريب بما سوف يجتازه من مراحل حياته مرحلة بعد مرحلة، تماما كما كانت الشجرة لتروي مراحل حياتها قبل وقوعها، ذلك لو كانت الشجرة لتعي وتنطق، فكأن الإنسان في التصور القديم كان أقرب إلى عالم النبات منه إلى عالم الإنسان، لكن قارن ذلك الاطراد القديم بشدة التغير وسرعته في حياة الناس اليوم، حتى لقد استحال الآن على أي إنسان أن يتنبأ بسيرة حياته على وجه التقريب قبل وقوعها، فقد يبدأ الفرد حياته فقيرا معدما، ليصبح في مرحلة وسطى من سيرته صاحب الملايين، والعكس صحيح كذلك، فكم هم أولئك الذين بدءوا حياتهم في مراتب العز، وإذا بأحداث الدنيا تدور دورتها لتردهم أشد المعوزين، إنه لو بعث أفلاطون من قبره اليوم، وهو الذي ظنه من مستحيلات الطبائع أن يصعد عامل إلى مراكز الحكم، أقول: إنه لو بعث اليوم لأفزعه أن يرى من القوة والسيطرة في أيدي العمال، ما ليس في أيدي سواهم، حتى لقد ضمن لهم الدستور عندنا حدا أدنى من حق الكلمة، في حين لم يضمن لغيرهم في ذلك الصدد شيئا.
جاء عصرنا هذا متميزا بما لم يتميز به عصر سواه، وهو أنه عصر كثرت فيه الثورات التي غيرت كثيرا جدا من أوجه الحياة كما عرفها القرن الماضي - والقرن الماضي يعد جزءا من «العصر» - فبعد أن كانت القاعدة في القرن الماضي أن يكون الحكم للرجل الأبيض، وأما سائر الألوان فعليها أن تخضع وتنقاد، حدثت ثورات لونية في كل أرجاء الأرض لتغير تلك الأوضاع الجائرة، وشهد هذا القرن العشرون وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، استقلال الشعوب الملونة شعبا في أثر شعب، ولم يبق إلا رواسب قليلة هي الآن في سبيلها من الجهاد الوطني إلى تحقيق استقلالها، بل إن اللون الأصفر لم يكفه أن يحقق لنفسه السيادة، وإنما بسط الطموح بجناحيه العريضين، ليبلغ من القوة والوفرة والثراء والقدرة على المنافسة حدا أرغم به من كان ألف السيطرة والكبرياء أن يخشع، ولقد نتج عن ثورة اللون وانتصاره، ثورة أخرى هي ثورة الثقافات، فكما كان للرجل الأبيض «في الغرب» الريادة في دنيا السياسة، كانت له كذلك الريادة ينفرد بها في دنيا الثقافة، فكانت الثقافات المتباينة بتباين الشعوب في سائر أرجاء الأرض، تقاس تقدما وتأخرا بدرجة اقترابها أو ابتعادها عن ثقافة الرجل الأبيض، فهو وحده المعيار: الأدب الحق هو أدبه، والفن الحق هو فنه، والموسيقى الحق هي موسيقاه، وكذلك أصبح لكل ثقافة شأنها وقيمتها ، لكن بقيت للرجل الأبيض في الغرب مكانة ما زال منفردا بها، يوشك ألا يشاركه فيها أحد من الشعوب الأخرى، اللهم إلا الشعوب الصفراء إلى حد ما، وتلك هي مكانته في التقدم العلمي، بما يتبعه من عالم الآلات والأجهزة، ثم مكانته - في بعض شعوبه - في ممارسته للحرية وللديمقراطية بدرجة لم تستطع تحقيقها سائر الشعوب، لكننا لا بد أن نستدرك هنا استدراكا له مغزاه البعيد، وهو أن تلك المكانة في العلم وفي الاختراع، قد شارك فيها مواطنون ذهبوا إلى تلك الشعوب البيضاء ليصبحوا جزءا منها، فالولايات المتحدة الأمريكية التي تمسك بعجلة القيادة في التقدم العلمي، إنما هي خليط من شعوب وألوان كلها يشارك في الإبداع العلمي وغير العلمي هناك، مما يدل أقطع الدلالة على أن المواهب الخلاقة ليست مرهونة بلون أو جنس، وإنما هي مرهونة بنظام اجتماعي يشحذها أو يميتها.
تغيرت الأفكار والأوضاع في عصرنا تغيرا شاملا وعميقا، ولكنه تغير انبثق من ينبوع واحد، هو ما أحدثته الرؤية العلمية الجديدة من اختلاف في وجهة النظر إلى العالم بكل ما فيه، فما قد كان ذا ثبات وسكون - كما أسلفنا القول - قد أصبح في الرؤية العلمية الجديدة متطورا ودائب الحركة، كان ذلك في كل شيء، من الذرة الصغيرة فصاعدا، إلى أن نصل إلى الكون الكبير في وحدته، فهل يمكن إزاء هذا التغير الشامل أن يتحدث فينا متحدثون ليقولوا: إلا الإنسان فلا يجوز له أن يغير من حياته شيئا؟
إن عصرنا هذا بالنسبة إلى أهل الأرض جميعا، إنما هو «عصر الجنين»، فكل إنسان أرهفت حواسه واستيقظ وعيه، لا مفر له من أن يأخذه قلق عميق، لا من جوانب الإبداع في عصره، من علوم وفنون، وصناعات، ونظم، ولا من كسب الإنسان لكثير من حقوقه في الحرب، والديمقراطية، والعدالة، والتعليم، وحصوله على الحد الأدنى من ضرورات العيش في صحة وفي أمن وفي أمل، أقول: إن عصرنا هذا هو عصر الحنين، الذي يدفع الناس إلى القلق من أن يكون عصرنا هذا - إلى جانب حسناته - مثقلا بسيئاته ، مما أشاع في أهله ما لم يشهد له مثيلا في تاريخه، من سخط وغضب وقسوة وعنف، حتى بات كل فرد عاقل واع حساس من أفراده، «يحن» إلى اجتيازه إلى ما عداه، ولكن إذا كان لكل إنسان أن يحن على الصورة التي يهوى، فهل يتساوى الرشاد بين من يتجه بحنينه ذاك إلى الماضي ليعيده كما كان، ومن يتجه بحنينه إلى مستقبل جديد يبدعه من عقله ومن قلبه إبداعا؟
وعودة بنا إلى بدء، فلقد سحرني الخيام، وسحر سائر أصدقائي منذ كنا في أوائل شبابنا، والتقطنا نحن كلنا البيت الذي وجدناه في ترجمة السباعي للرباعيات، يقول: «ما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها» ... لكن نظرة أخرى بمنظار العصر إلى هذا البيت، يتبين أن الخيام كان على صدق بمنظار عصره، أما نحن فقد أخطانا حين توهمنا أن هذه الصورة نفسها تصلح لتصوير الحياة في العصر القائم، والخطأ يشمل الأجزاء الثلاثة التي يتألف منها البيت.
أما ما مضى من تاريخنا فلم يفت، بالرغم من أننا نستنكر أن نجده ونجمد عنده، كأن حياتنا لا يجوز لها أن تعرف سواه، فما مضى لا يزال حيا في لغتنا، وفي عقائدنا، وفي مبادئنا، وفي طابعنا القومي، إلا أن هذه جميعا لا تحول بيننا وبين أن نتخذ منها أطرا ندرج فيها كل ما تظله روح عصرنا؛ لكي نظل مع الأحياء أحياء، هذه - إذن - واحدة، وأما الثانية القائلة عن المؤمل إنه غيب، فتلك قولة لا يقولها إلا من لا يعرف للإنسان قدرته على الحساب، فالمجانين وحدهم هم الذين إذا أملوا، جاءت آمالهم خبطا كخبط الأعمى، ولنذكر هنا عن عمر الخيام حقيقة قد لا يعرفها كثيرون، وهي أنه من أعلام العلماء في علوم الرياضة، ثم نجيء إلى الثالثة التي تمس موضوعنا مسا مباشرا، وهي استئثار الساعة التي نحن فيها بكل اهتمامنا كما يوصينا الخيام، فحقيقة الأمر بالنسبة إلى ساعتنا الراهنة، هي أنها مصدر قلق شديد في صدورنا، نعمل جاهدين على اجتيازها، على أن يكون ذلك الاجتياز متجها لوجهة نحو مستقبل نقيمه نحن على قواعد نرضاها، ولن يتحقق لنا مثل هذا الأمل، إلا والماضي مصدر إلهامنا، لا عصا لتأديبنا ...
صفحه نامشخص