أكرر القول بأن الفلسفة هي امتداد للعلم في كل عصر من العصور، فكلما انتقل العلم من رؤية معينة إلى رؤية جديدة انتقلت معه الفلسفة؛ لأنها متصلة به، فكما أن العلم يتغير مع العصور تغيرا يصحح به أخطاء نفسه ويزيد من قدراته على كشف حقائق الكون، فكذلك الفلسفة وبنفس المقدار تتغير كما يتغير هو وتزيد عمقا وتحليلا ليس فقط لحقائق الكون، بل هي تضيف إلى ذلك تحليلا لما قاله الفلاسفة السابقون لتبين أين وقع الخطأ وكيف جاء الصواب. •••
ذلك كان لقائي مع طلاب الآداب وطالباتها في جامعة القاهرة أول يوم من أيام هذا العام، وتلك كانت أسئلة الطلاب والطالبات أو قل إن تلك هي أمثلة مما وجهوه إلي من أسئلة، وواضح في تلك الأسئلة أن طلابنا ينطوون على قلق شديد انبعث في نفوسهم من الدراسة التي يدرسونها، فلا هم يجدون سبيلا إلى فهمها وهضمها، ولا هم يرون علاقة واضحة بينها وبين ما سوف يعملونه كسبا للعيش في حياتهم العملية، وليس في مثل هذا القلق غرابة، فقد سمعنا خلال الستينيات من هذا القرن، أي منذ نحو عشرين عاما، عن مثل ذلك القلق الشديد الذي استبد بطلاب الآداب بكل فروعها في فرنسا وفي إنجلترا وفي أمريكا وفي غيرها، إذ رأوا أن العلاقة مبتورة أو تكاد بين ما يدرسونه وما سوف يعملونه في مستقبلهم، لكن ذلك كله إذا انصب على الطالب ودراسته بالنسبة إلى الحياة العملية، فهو لا ينصب على الفكر الفلسفي في حد ذاته وهل هو ضرورة أو زائدة يستغنى عنها، وعن هذه النقطة أقول: إنه فضلا عن أن مثل ذلك الفكر هو جزء من فطرة الإنسان وتطلعه، ولن يكتمل تعبير الإنسان عن نفسه إلا إذا جاء ذلك التعبير مستوفيا لكل جوانب تلك الفطرة، فهو بفطرته يبحث في الأشياء ليعلم أسرارها وذلك هو العلم، ثم هو يتناول ذلك العلم نفسه ليبحث عما يوحده ليبين صلة أجزائه بعضها ببعض حتى يظل الإنسان كائنا موحدا، وإلى جانب العلم وفلسفته هنالك نواح أخرى للتعبير كالفن والأدب، وهما بدورهما يخضعان للفكر الفلسفي ليبين كيف أن الإنسان في أمة بعينها وخلال عصر بعينه هو أيضا إنسان موحد الكيان، فمن شأن الفلسفة أن تتناول نتاج الفن في عصرها ونتاج الأدب كذلك لتصب عليها تحليلاتها التي تكشف عن الوحدة الكامنة في نتاجها برغم تعدد أجزائه.
فإذا عرف طلابنا وطالباتنا الذين يدرسون الفلسفة في الجامعات أنهم هم المسئولون قبل غيرهم عن حراسة الحياة الثقافية في بلدهم أولا وفي العالم كله ثانيا، حراسة يستخدمون فيها ما قد دربوا عليه من تحليل للفكر وجوانبه من علوم وفنون وآداب ليروا مدى ما حققه للإنسان في العصر المعين من حياة اكتمل كيانها، فإذا رأوا شيئا من التمزق في تلك الحياة كانوا هم أول القادرين على الكشف عن موضع النقص ابتغاء الكمال.
من الجذور
لعلي قرأت في الفلسفة المعاصرة أكثر مما قرأت في أي مجال آخر من ميادين الفكر، وكان ذلك بحكم التخصص العلمي أولا، وبتوجيه دافع قوي عندي يدفعني إلى فهم البنيان الثقافي لعصرنا، وإنني في ذلك لعلى اعتقاد مرجح الصواب، وهو أنه لا يعدل الفكر الفلسفي فكر آخر، في الكشف عن روح العصر الذي قد تعين لنا أن نعرفه على حقيقته، ومن هنا كان لكل عصر فلسفته التي تتميز عما سبقها في عصر سبق، وعما لحقها في عصر لحق، وذلك لا ينفي أن يكون للفكر الفلسفي - على إطلاقه في كل عصوره - طابع ينفرد به دون سائر ضروب الفكر، والأمر في هذا مرهون بطبيعة المنهج الذي تسير على نهجه عملية التفكير في كل ميدان على حدة.
وأراني ملزما بتوضيح ذلك ما استطعت إلى الوضوح سبيلا؛ لأنني أستهدف غاية سيري القارئ مقدار أهميتها عندما نبلغها معا في نهاية المطاف، فلا بد لي من تمهيد الأرض؛ لنسير معا خطوة خطوة حتى نبلغ الهدف ونحن على تفاهم حسن، حتى ولو لم نكن على رأي واحد في كل تفصيلات الطريق، وأول ما أتناوله بالتوضيح، هو طبيعة الفكر الفلسفي وحقيقة منهجه، فأقول إنه فكر يبدأ طريق سيره مما هو واقع في حياة الناس، ففي حياة الناس الجارية بهم لحظة بعد لحظة، تفرقة بين الصواب والخطأ فيما يتبادلونه من أفكار، ولا نستثني من ذلك صغار الأطفال منذ تتحرك ألسنتهم بالكلام، فإذا قال الطفل عن الشباك إنه باب «صححناه» ليعرف الصواب ويتخلى عن الخطأ، وتستمر معنا التفرقة بعضنا لبعض بين ما هو صواب وما هو خطأ ما دام بيننا تعامل وتبادل ... وفي حياة الناس الجارية بهم لحظة بعد لحظة، تفرقة في أنماط السلوك بين ما يجوز فعله وما لا يجوز، فإذا أوفى أحدنا بوعوده وعهوده، أجزناه وأبدينا له علامات الرضا، وإذا نكث آخر استنكرناه، وفي حياة الناس الجارية بهم لحظة بعد لحظة مواقف يبدون فيها إعجابهم بشيء يعدونه جميلا، ونفورهم من شيء آخر يعدونه قبيحا، وفوق هذا وهذا وذلك، فإن في حياة الناس دينا يؤمنون به، وعلوما يقيمونها ويعلمونها في المدارس، كما أن في حياتهم الجارية كذلك ضروبا من الفن، وألوانا من الأدب ... إلى آخر ذلك العالم الطويل العريض العميق، المعقد بكثرة أجزائه وتفصيلاته، والذي قد يطيب للمتكلم أو الكاتب أحيانا، أن يلخصه في كلمة واحدة، هي كلمة «ثقافة»، وذلك حين يقول - مثلا: «ثقافة اليونان الأقدمين» أو «ثقافة العرب الأولين»، مشيرا بذلك إلى عصور بأسرها، أو حين يقول: «الثقافة الإنجليزية» أو «الثقافة الهندية» مشيرا بذلك إلى شعوب بأكملها.
لكن الإنسان العادي من جمهور الناس، إذا عرف في حياته الجارية كيف يصف قولا معينا بأنه صواب، وقولا معينا آخر بأنه خطأ، فإنه برغم ذلك يظل بعيدا أشد البعد عن العلم بمواضع هذه التفرقة في دقة كالتي يتطلبها «العلم»، ومن ثم وجدنا من يتصدى للتفكير في تلك التفرقة، حتى يصوغ مبادئها وشروطها وقواعدها، التي ينبغي لرجال البحوث العلمية أن يلتزموها؛ لكي يطمئنوا إلى صحة ما ينتهون إليه من نتائج، فإذا حدث أن اضطلع أحد بمثل هذه المهمة، كان ما ينتهي إليه جزءا من الفلسفة هو ما يسمونه «بالمنطق» حينا، أو «بفلسفة العلم» حينا ثانيا، وكذلك نقول عن الإنسان العادي من جمهور الناس، إذا عرف في حياته الجارية، كيف يفرق بين ما هو جميل وما هو قبيح فيما يحيط به من أشياء، فإنه مع معرفته تلك، يظل بعيدا أشد البعد عن القدرة على بيان الأسس التي إذا توافرت في شيء ما كان ذلك الشيء جميلا، وإذا غابت عن شيء ما، كان ذلك الشيء مسلوب الجمال بمقدار ما غاب عنه من تلك الأسس، وقد يحدث هنا أيضا، أن يتصدى للمشكلة مفكر موهوب في عمق التفكير ودقته فيتناول هذه التفرقة بين الجمال والقبح حتى يصوغ أسسها ومبادئها وشروطها، وعندئذ يقال عن مثل هذا المفكر إنه فيلسوف، كما يقال عما يكتبه في هذا الموضوع، إنه «فلسفة الجمال» - ولنلحظ هنا أن عملية «النقد» في مجال الفن والأدب إنما هي فرع يتفرع عن فلسفة الجمال؛ ولذلك فقد يختلف النقاد في الأساس الذي يقيمون عليه نقدهم باختلافهم في المذهب الفلسفي الذي يناصرونه، وعلى تلك الوتيرة نفسها، التي رأيناها في الحالتين السابقتين، وأعني الحالة التي رأينا فيها كيف جاء قسم من أقسام الفلسفة، وهو «المنطق» تطويرا وتدقيقا لما يمارسه الإنسان العادي من تفرقة بين الصواب والخطأ، والحالة التي رأينا فيها كيف جاء قسم آخر من أقسام الفلسفة وهو النظرية الجمالية تطويرا وتدقيقا لما يمارسه الإنسان العادي من تفرقة بين الجمال والقبح، أقول: إنه على الوتيرة نفسها ننتقل إلى حالة ثالثة، نرى فيها الإنسان العادي على معرفة واسعة بما يفرق بين ما هو فضيلة وخير من أفعال الناس، وما هو رذيلة وشر من تلك الأفعال، ولكن الإنسان العادي، برغم معرفته الواسعة تلك يظل بعيدا بعدا شديدا عن إدراك الأسس التي تكمن وراء ما هو فضيلة وخير، والتي إذا غابت عن فعل معين، كان ذلك الفعل رذيلة وشرا ، بمقدار ما غاب عنه من تلك الأسس، وها هنا أيضا - كما رأينا في الحالتين السابقتين - قد يتصدى للأمر مفكر موهوب في دقة التحليل ونفاذ البصيرة، فيصوغ تلك الأسس التي على وجودها تبنى الفضيلة، وعلى غيابها تبنى الرذيلة، فإذا تحقق لمثل ذلك المفكر ما أراده، عددناه فيلسوفا، وعددنا ما كتبه «فلسفة للأخلاق»، ويجمل بي في هذا الموضع من سياق الحديث، أن أوضح نقطة أراها عظيمة الأهمية في إقامة رؤية صحيحة عند «المثقف»، وهي أن شعوب الأرض جميعا، على اختلاف عصورها، واختلاف ثقافاتها وعقائدها، تكاد كلها تكون على اتفاق فيما يعد فضيلة وما يعد رذيلة، فليس في هذا يكون الاختلاف بين شعب وشعب، أو بين عصر وعصر، وإنما يكون موضع الاختلاف مضمرا يخفى على أعين الناس بصفة عامة، وينكشف عندما يكشف «فيلسوف الأخلاق» تلك الأسس التي يرى أنها كامنة في نيات الأفعال؛ وذلك لأن الشعوب المختلفة - وإن اتفقت جميعا على أفعال بعينها لتكون من الفضائل - فهي تختلف في أعماقها عن السبب الذي من أجله تكون الفضيلة المعينة فضيلة، فمثلا، هنالك إجماع بين أفراد البشر جميعا، على أن الوفاء بالعهد فضيلة واجبة، فإذا سألنا: لماذا؟ (ومثل هذا السؤال هو الذي يطرحه الفيلسوف في بحثه عن الأسس المضمرة) جاءتك إجابات تختلف باختلاف الشعوب والعصور والثقافات، فمنها إجابة تقول: إنها خبرة الإنسان في حياته العملية على امتداد الزمن، هي التي علمته أن الوفاء بالعهود من شأنه أن يصون كيان المجتمع، وإجابة ثانية تقول: بل إن الوفاء بالعهد إنما كان فضيلة بحكم العقل ومنطقه الفطري، الذي يرفض الفكرة إذا تبين أنها تنطوي على تناقض، والوفاء بالعهد فضيلة لأننا لو كنا اخترنا للفضيلة أن تكون نكثا للعهود لما استطاع إنسان أن يثق في إنسان، وبذلك يفنى المجتمع وتفنى البشرية كلها بفناء المجتمع، وإجابة ثالثة تقول: إن الوفاء بالعهد إنما هو فضيلة لأن الأمر به قد جاء توجيها من السماء فيما نزل من وحي على الرسل والأنبياء ... وهكذا تتعدد وجهات النظر إلى الأسس، برغم اتفاقها على وجوب صورة معينة في ظاهر العقل، على أن ذلك الاختلاف على الأسس هو الذي يكشف عن موضع التباين بين الشعوب في رؤيتها العامة - وتلك الرؤية العامة هي عماد الموقف الثقافي لشعب معين أو لفرد معين.
ونكتفي بالأقسام الثلاثة التي ذكرناها لنسوق بها أمثلة توضح طبيعة الفكر الفلسفي، وكيف أنه فكر يبدأ مما هو قائم ومتداول بين الناس في حياتهم اليومية العادية، أو في حياتهم العلمية، أو في حياتهم الأدبية والفنية، فمن هذا الواقع الفعلي يبدأ الفيلسوف راجعا بالفكرة التي يختارها، حتى يصل بها إلى المبدأ الأساسي، الذي هو مضمر فيها، ولا ينكشف لعين الإنسان المجردة إلا بعد تحليل يظهره ويخرجه من الخفاء إلى العلن، والأقسام الثلاثة التي ذكرناها، هي: علم المنطق الذي يستخرج أسس الصواب في عملية الفكر، وعلم الأخلاق الذي يرد الفضيلة إلى الأصل الذي انبثقت منه، وعلم الجمال الذي يوضح العوامل التي إذا توافرت في شيء أو في فن أو في أدب، صار جميلا، وإن تلك الأقسام الثلاثة التي نريد الاكتفاء بها في سياق حديثنا هذا، إنما هي المجالات التي تقابل القيم الكبرى الثلاث ... وهي قيمة الحق «متمثلة في علم المنطق»، وقيمة الخير «متمثلة في علم الأخلاق» وقيمة الجمال «متمثلة في علم الجمال»، وتحت مظلة الحق والخير والجمال تندرج القيم الإنسانية جميعا فروعا لها ...
ولقد ذكرنا هذا كله عن طبيعة الفكر الفلسفي لكي نسير معا - القارئ والكاتب - في خطوات نلتقي عند كل خطوة منها على فهم مشترك، حتى أصل بك إلى الغاية التي أنشدها، ولعلك تذكر ما زعمته لك عند فاتحة هذا الحديث من أنني أجد في قراءة الفلسفة - في أي عصر من عصورها - أفضل وسيلة للكشف عن حقيقة المناخ الثقافي الذي يسود عصرا بذاته، فقراءة الفلسفة اليونانية تكشف لنا بوضوح عن أهمية المعاني الأخلاقية في المجتمع اليوناني، وذلك حين نرى شطرا كبيرا من الموضوعات التي أدار سقراط حولها حواره كانت موضوعات أخلاقية، وحين نرى أن عددا كبيرا من محاورات أفلاطون كان المدار فيها مفهوما إنسانيا يتصل من قريب بسلوك الإنسان، حتى لقد جعل أفلاطون مثال «الخير» هو قمة المثل جميعا، تتجه نحوه كل المعاني على اختلاف ميادينها، وتنتقل إلى الفلاسفة المسلمين الأولين فتجد في قراءة فلسفتهم ما يدلك أقطع دلالة على أن الاهتمام الأكبر، الذي كان بمثابة قطب الرحى في حياة الناس الفكرية عندئذ، هو المعاني الأساسية التي وردت في غضون العقيدة الإسلامية، فانصب التحليل على المعاني الإسلامية الأساسية كالتوحيد، والخلق، والعدل وغيرها، فضلا عن النظرة الشاملة والعميقة إلى الإسلام ليجد فيه الفيلسوف المسلم أنه دين لا يتناقض مع «العقل»، إلى الحد الذي يمكن معه أن نرى الحقيقة الواحدة، قد وردت في فلسفة اليونان بلغة الفلسفة، وفي نصوص الإسلام بلغة الشريعة، مما يدل على أن خط الشريعة وخط العقل الخالص متوازيان، وإذا شئت فاقرأ في ذلك ابن رشد في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال» ...
إن صورة الحياة لأي شعب في أي عصر، تنعكس فيما تجري به الأقلام، وفيما تؤديه النظم والمؤسسات، على أن كل ميدان من ميادين التخصص يتكلم عن تلك الحياة بلغة تخصصه، فإذا كانت الحياة سوية ومتكاملة، جاءت صنوف الكتابة المختلفة باختلاف التخصص وكأنها فصول من كتاب واحد، وأما عندما تكون الحياة مضطربة متنافرة العناصر، فإن ميادين النشاط المختلفة تنعكس صورها بحيث يحسبها من يطالعها أنها إنما جاءت من عصور مختلفة أو من شعوب متباينة، ففي تلك الصورة التي تصور حياة الناس في شعب معين وتقدم الفلسفة نصيبها من تلك الصورة بلغة الأفكار، ويقدم الاقتصاد نصيبه بلغة المال والإنتاج، ويقدم التعليم نصيبه بلغة المناهج الدراسية ونظم التعليم، وتقدم السياسة نصيبها بلغة الأحزاب ومذاهبها وجودا وعدما ... وهكذا تتعدد لغات الميادين المختلفة، إلا أنها برغم تعددها هذا، يستطيع صاحب النظرة التحليلية أو صاحب البصيرة الثاقبة، أن يرى تلك الصورة وكأنها ترجمات مختلفة لأصل واحد، وأما حينما يقل الانسجام أو ينعدم في جماعة، إبان فترة معينة، تعذر أن تجد النقطة الواحدة التي تلتقي عندها جوانب النشاط في حياتها.
صفحه نامشخص