فكل ما علينا - إذن - هو توليد النتائج التي تترتب على هذه الحقيقة الأولى: ومن أبرز ما يترتب عليها من نتائج، أن آدمية الآدمي تهدر بمقدار ما يخضع نفسه لنمط سلوكي مفروض عليه، دون أن يعلم لماذا يسلك ذلك السلوك النمطي ما دام هو سلوكا لم يكن وليد إرادة منه، ولا هو يشعر في ذات نفسه بأنه لو ترك ليريد حرا مختارا لإرادة، وهنا قد يقال: أيكون معنى ذلك ألا قواعد تتبع ولا قوانين تطاع؟ والجواب هو التأكيد بأن واحدية القاعدة أو القانون لا ينفي تعدد صور التطبيق بين الأفراد في العصر الواحد، ومن باب أولى أنها تتعدد بين الأفراد من أبناء العصور المتباعدة، إن واحدية القاعدة النحوية الموجبة لرفع الفاعل ونصب المفعول لا تعني أن جميع من يعملون بها يلتقون عند صورة واحدة من القول، والقواعد في لعبة كرة القدم واحدة، لكن لكل لاعب أسلوبه تحت تلك القواعد، وأسس البناء الموسيقي مشتركة، لكن كل شيء في التلحين الموسيقي ينفرد بطريقته ... ولنقف لحظة قصيرة عند كلمة «تلحين» هذه ... ألم يلفت نظرك معنى كلمة «لحن» وكيف أنها تعني معنيين يبدوان بعيدين كل البعد أحدهما عن الآخر، فالخطأ في نحو اللغة «لحن» وكذلك التشكيل الصوتي في الموسيقى «لحن»، والعلاقة بين هذين المعنيين، هي أن اللحن معناه خروج على النمط المألوف، فإذا كان النمط المألوف في اللغة هو أن يرفع الفاعل، كان نصبه لحنا، وكذلك يكون الخروج بالجملة المعنية عن الطريقة المألوفة في نطقها، وجعلها موسيقية لحنا ... وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأنه إذا كان هناك «نمط» سلوكي شائع في المجتمع أو موروث من السلف، جاز للفرد الواحد أن «يلحن» فيه بمعنى أن يحافظ على جوهر معناه، ولكن بطابعه الشخصي، أما الذي لا يجوز، فهو أن يلحن فرد في سلوكه على نمط معين، بمعنى أن ينحرف به نحو صورة تفسد معناه.
هذه الخصائص السلوكية التي تميز الفرد من أفراد الناس دون سائر الأفراد، هي في صميم الصميم من مكانة الإنسان وكرامته ومسئوليته؛ لأنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بحرية إرادته، نعم، إن هنالك في كل جماعة بشرية أنماطا سلوكية يجب على كل فرد من أفراد هذه الجماعة أن ينهج نهجها وإلا لانعدم انتماء الفرد إلى جماعته ... لكن حتى في هذه الحالة، لا يكون النمط السلوكي العام أكثر من «إطار» يجري سلوك الأفراد تحت مظلته، مع بقاء الهامش العريض الذي يسمح بالاختلافات الفردية، وفي هذا الهامش يجيء «اللحن» الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة ... فإذا جاء اللحن انحرافا عن النمط العام نحو الأعلى، كان صوابا أكثر من الصواب، وأما إذا جاء اللحن انحرافا بالنهج العام نحو الأسفل، كان هو اللحن الذي يعني الخطأ والضلال.
لقد أخذ «الإسلام» اسمه هذا، من وجوب أن «يسلم» المؤمن إرادته لإرادة الله، فهذا أمر واجب، لكن ما معناه؟ إنه يستحيل أن يكون المعنى هو أن يتجرد الإنسان من إرادته، وإلا لسقطت عنه المسئولية الخلقية، والمسئولية القضائية وكل مسئولية أخرى ... وهل يسأل النهر المتدفق من الجبل إلى بطن الوادي عن تدفقه؟ أو تسأل الريح العاصفة لماذا عصفت كما عصفت؟ فإذا كان ذلك كذلك فماذا يكون معنى أن يسلم المؤمن إرادته لمشيئة الله؟ لا بد أن يكون المعنى منصبا على المبادئ دون طرائق العمل في إطارها، فطرائق العمل في ظل مبدأ معين، متروكة لإرادات الأفراد، حتى تصح عليهم المسئولية الأخلاقية، وقد تضاف إليها أيضا مسئولية قضائية، وهذا لا يتناقض مع «علم» الله السابق لمجرى الأحداث كيف يسير، إنني إذا أردت السفر بسيارتي من القاهرة إلى الإسكندرية، وقلت للسائق عند بدء السير، اتجه بنا إلى الإسكندرية بالطريق الزراعي، كان ذلك بمثابة «المبدأ» الذي في إطاره يسلك السائق، لكن تفصيلات سلوكه بعد ذلك تترك لإرادته كيف يواجه مشكلات الطريق، ومتى يبطئ السرعة ومتى يزيدها، في أي الظروف يتجه بالسيارة إلى يمين الطريق، وفي أيها يسير بها إلى يساره، وهكذا، وبهذه الحرية يكون مسئولا عما يحدث من أخطاء.
وأتصور أن تكون الإرادة الإلهية العليا التي على الإنسان أن يلتزمها مع تفصيلات سلوكية تترك له الحرية فيها، وتقع عليه المسئولية فيما يترتب عليها، هي أن يسير الإنسان على النهج العام الذي يسير عليه الكون العظيم، كما خلقه الله وكما أراد له أن يسير ... فالأساس - إذن - هو: نظام لا فوضي، تعمير لا تخريب، بناء لا هدم، نماء لا ضمور، ازدهار لا ذبول، قوة لا ضعف ، تعاون لا تناحر، خير لا شر ... إلخ، على أن الله - سبحانه وتعالى - قد أنزل في رسالاته السماوية مجموعة من الأوامر والنواهي، تتجه كلها نحو أن تعين على إقامة ذلك الإطار المبدئي العام، فالكون تحكمه قوانين، وعظمة الله إنما تتجلى في أن القوانين مطردة لا خلل في اطرادها، وحتى إذا ظهرت ظاهرة قد يظن أنها قد شذت عن القانون، كانت حقيقة الأمر فيها هي إنما خضعت لقانون آخر أعم وأشمل.
ومدى ما يستطيعه الإنسان إزاء تلك القوانين إذا أراد معرفتها - ولا بد له أن يريد ذلك طاعة لأمر الله في كتابه الكريم - أقول: إن غاية ما يستطيعه الإنسان في هذا السبيل، هو أن يحاول قراءة الظواهر الكونية - أي فهمها - بالكشف عن قوانينها، فهنالك «ضوء» يراه، فما هي القوانين التي تنظم مسارات الضوء؟ وها هنا يمكن أن يكون للعلماء في كل عصر طريقة يختلفون بها عن علماء العصر الذي سبق عصرهم، وذلك حين يتكشف لهم أن فهم السابقين لظاهرة الضوء لا تغطي كل الحالات التي شهدها الإنسان في مجال تلك الظاهرة، فتبدأ محاولة جديدة نحو قراءة جديدة، لعلهم يقعون على ما يفسر جميع الحالات التي صادفتهم في ظاهرة الضوء، وهكذا يتقدم العلم، لكنه في كل خطوة من خطوات تقدمه، لا يستغني عن افتراض مبدئي ضروري، هو أن هنالك «نظاما» ما ... ونحن البشر نبحث عن ذلك النظام، ولا يعقل أن يجد الإنسان نفسه مدفوعا نحو البحث عن قوانين الكون، أي البحث عن «نظامه»، ثم يكون هذا الإنسان قد بنى على الفوضى بغير أهداف، وبغير وسائل يحقق بها ما استطاع من تلك الأهداف.
وهل تعرف يا صاحبي، ماذا كان الجديد الذي طرأ على قراءة العلماء لظواهر الكون إبان القرن الماضي، فقيل: إن الإنسان قد دخل من مراحل تاريخه «عصرا» جديدا، وذلك العصر الجديد هو عصرنا هذا الذي نحيا اليوم في رحابه؟ إنك إذا أردت الدقة في التمييز بين قولنا «الحديث» وقولنا «المعاصر» فيما اصطلح عليه مؤرخو الفكر بشتى نواحيه، فاعلم أنهم قد اتفقوا على أن يكون «الحديث» هو ما امتد من النهضة الأوروبية في نحو القرن السادس عشر، حتى أوائل القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك التاريخ الذي انتهى عنده «الحديث» بدأ «المعاصر»، ونحن نسأل: ما الذي حدث في حياة الإنسان العلمية، فجعل حدا فاصلا بين عصر ذهب وعصر جاء؟ فقبل ذلك الحد الفاصل، كان أساس الفهم لأي حدث يقع، هو مبدأ القصور الذاتي في الأشياء، بمعنى أن الشيء لا يحرك نفسه، فإذا تحرك وجب البحث عن عامل خارجي أدى إلى تحريكه؛ وعلى هذا الأساس بنيت الرؤية العلمية كلها ... فلما وجد أن مثل هذا الأساس لا يفسر كل الظواهر كما تبدو للإنسان، فالشجرة - مثلا - لا تنمو لمجرد أن حولها عوامل الضوء والهواء والتربة والماء، فالحجر تحيط به تلك العوامل ذاتها ولا ينمو، إذن يجيء نمو الشجرة نتيجة اعتمال حيوي ينبثق من صميم طبيعتها، وإذا صح هذا، كانت الرؤية المعاصرة بمثابة من يجعل للإرادة أولوية على سواها، في الكون وفي الإنسان ... ونسأل: وهل يا ترى يقتصر الأمر في تحول الرؤية على هذا النحو، على الكائنات الحية وحدها؟ ويسرع إلينا الجواب: كلا ... إنه يشمل الكون كله، من حيث هو منظومة كبرى متصلة أجزاؤه بعضها ببعض، في كيان عضوي واحد، كما يشمل كل ذرة صغيرة على حدة، وانظر إلى ما يقولونه عن داخل الذرة من كهارب لا تكتفي بأنها في حركة دائبة، بل هي كذلك تقفز في حركتها تلك قفزات لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها ... فما معنى هذا كله؟ معناه أنه لا بد من إعادة النظر في الطريقة التي نفهم بها قوانين الكون ونظامه، وليس الذي تغير هو هذا النظام أو تلك القوانين، بل الذي تغير هو طريقة الإنسان في النظر.
ولو كان الإنسان مقيدا في حياته بقوالب من حديد، ومقيدا في تفصيلات سلوكه بأنماط أرادها آخرون لأنفسهم وعاشوها، لما كان في وسع الإنسان أن يواجه مفاجآت الطريق بمثل ما يقابل سائق السيارة الماهر مفاجآت طريقه ... إنها إرادة في فطرة الإنسان كما فطره خالقه، وهي حرية لتلك الإرادة، يكون الإنسان بسببها مسئولا عما يفعل، وبمثل هذه الإرادة الحرة في طبيعة الإنسان، عرف الإمام أبو حامد الغزالي ربه ... وسبحان العلي العظيم ...
فالق الحب والنوى
إنك لتنظر إلى حبة القمح، أو نواة التمر، فتحسب أنك إنما تنظر إلى قطعتين من الجماد الأصم الأخرس، كأنهما حصاتان ألقت بهما الأحداث، ثم أهملتهما على أرض يباب، وقلما يطوف بذهنك أن ما أمامك خزانتان اختزنتا طاقة حيوية جبارة القوى، تنتظران الظروف المواتية، ومعها مشيئة الخالق جلت قدرته وتدبيره وحكمته، وإذا بحبة القمح تتفتح عن عود حي يغتذي من الأرض طعاما، ويرتوي من ماء المطر شرابا، ويستمد من الهواء ومن الضياء فاعلية ونماء، حتى ينتهي إلى حمل من سنابل، تحمل كل سنبلة منها حبات من القمح تعد بالعشرات، وكذلك تتفجر نواة التمر عن عملاقة من النخل، ترفع رأسها لتبلغ ما بلغته الأبراج العالية، لولا أن هذه الأبراج البشرية مصمتة الصخر لا فعل لها ولا تفاعل، وأما النخلة السامقة فمن عناصر الأرض طعامها، ومن غيث السماء سقياها، تحمل في جوفها سر الحياة لتطرحه كل عام عراجين مثقلة بثمارها حمراء أو صفراء، كأنها عناقيد الياقوت والذهب ساطعة في ضوء الشمس، اللهم سبحانك أمن التراب ألوان بهية وطعوم فيها حلاوة؟!
فانظر يا أخي إلى الفارق البعيد، بين ما رأته العين حبة ونواة، كانتا في رؤية العين كأنهما جماد لا يحس ولا يعي، فإذا هما - وقد شاء لهما خالق الكون أن تواتيهما عوامل الغذاء والماء والهواء والضياء - تبديان العجب وتخرجان العجاب، فماذا أنت قائل - إذن - في ذرية بشرية، لم يكن الفارق بينها ساعة ميلادها وكأنها الفراخ العارية من الزغب والريش - ثم إذا رأيتها بعد ذلك وقد خرج منها رجال ونساء، أقول: كم يكون الفارق بين أن تواتيها في نمائها ظروف تستخرج كل ما أودعها ربها من مواهب وقدرات، وبين أن تهمل لتنمو بأجسادها طامسة في أجوافها ودائع الله فيها من كنوز المواهب؟ أرأيت يا صاحبي كم يكون الفرق بين آلة الموسيقى وهي ملقاة على الأرض في صمت، وبينها حين تلتقطها يد العازف ليخرج منها حلو النغم؟ لقد كانت في الحالة الأولى «آلة»، ثم أصبحت في الحالة الثانية «موسيقى»، وهكذا الإنسان إبان طفولته ونشأته، يكون أقرب إلى آلة بدنية عجماء إذا أهمل شأنه، ثم يكون ومضة فكر ونبضة وجدان إذا عرف ذووه كيف ينشئونه.
صفحه نامشخص