إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
والعالم الإسلامي اليوم تنقصه تلك الإرادة، مع أن أولويتها هي من صميم الإسلام.
ولعل أهم ما يلفت النظر في موقف الأمة الإسلامية بجميع أقطارها اليوم، هو دعوة تسري في جماهيرها، بأن توصد أبوابها، وتصم آذانها عن حضارة العصر وثقافته، باعتبارها «غزوا ثقافيا»، في الوقت الذي نجد أنفسنا فيه مرغمين إرغاما، بضرورة الحياة نفسها، أن نأخذ عن العصر علومه وما ينتج عن تلك العلوم، ولكنه أخذ المتسول - كما ذكرت - يطلب الصدقة ممن يملك القوة والعلم معا، لا أخذ المشارك بجهده وبذهنه، مما يدل دلالة قاطعة على أن أحدا لا يستطيع أن يتمرد على عصره تمردا كاملا، إلا إذا أراد لنفسه الموت؛ لأن العصر الواحد - أيا كان موقعه من مسيرة التاريخ - إنما يكون له هدف واحد، فمن استهدفه مؤمنا به، كان له كيانه في عصره، ومن أدبر عنه، خرج من الحساب، حتى ولو استباح لنفسه أن يستخدم في حياته العملية ثمرات ذلك العصر الذي أدبر عنه، إذن تخرج لنا نتيجة واضحة من هذا الذي ذكرناه، وهي وجوب أن نأخذ - أعني العالم الإسلامي - بكل ما يمكن أخذه من مشاركة فعالة في بناء عصرنا، ولما كان الاحتمال قليلا بأن نستطيع إثبات وجودنا بما تستحقه أمتنا من وزن في دنيا العلوم والتقنيات، فهنالك جانب هو موضع رسالتنا في حياة العصر، وأعني جانب النقص الملحوظ في الحياة العصرية، إذ حصرت نفسها في «الواقع» وغضت النظر عما بعد هذا الواقع، فحدث ما حدث من علل أفقدت الإنسان المعاصر توازنه، وها هنا تأتي رسالة الإسلام لتضيف إلى حياة عصرنا ما قد نقص فيها، من إضافة حياة الجلد إلى حياة الدنيا العابرة، وهذا كله يعني أن حملة الأقلام من أبناء الأمة الإسلامية، ومنها الوطن العربي الكبير، وفيه الوطن الإقليمي، أقول: إن حملة الأقلام منا تقع عليهم التبعة الأولى، في أن يغيروا من المناخ الفكري السائد بيننا اليوم تجاه عصرنا، عسانا نخرج إلى العالم بما يجيز لنا أن نقول في عزة وشموخ: ها نحن أولاء ...
وينتقل القارئ بعد هذا إلى القسم الثالث من هذا الكتاب، ليجد نفسه في غرفة أخرى من مسكن واحد، وإن يكن لكل غرفة فيه ما يميزها، إلا أن الروح الشائعة فيها جميعا روح واحدة، ففي القسم الثالث إبراز أشد وضوحا لجوانب الضعف واليأس والخمول وضيق الأفق، التي لا يخطئها بصر في حياتنا الثقافية الراهنة، وعقيدتي هي أن إدراك مواضع العلة هو أول خطوة على طريق العلاج والشفاء.
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، نعم، ولكننا نحتاج إلى تحليل هذا الذي ما بأنفسنا لنغير فيه ما ينبغي له أن يتغير؛ حتى يتاح لنا بعد ذلك أن نضع بيئة جديدة يعاش فيها، دون أن تكون عقبة في سبيل ارتقائنا، وسيجد القارئ مقالة في هذا القسم الثالث حاولت مثل هذا التحليل.
وربما كان من أهم ما يجب أن يتغير في نفوسنا - ذلك «التطرف» في العقيدة تطرفا لا يسمح لصاحبه برؤية ما قد يكون عند أصحاب الاتجاهات الأخرى من حق ... ولقد كانت آخر مقالات القسم الثاني من هذا الكتاب عرضا لوجهة النظر التي أبداها الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «الاقتصاد في الاعتقاد»، وفيه يبين الغزالي كيف يجب على المسلم أن يكون على شيء من الاعتدال في إيمانه بعقيدته؛ لأنه إذا تطرف فيها، بمعنى أن يسيء الظن بكل من خالفه بغير بحث ولا إمعان للنظر، كان بمثابة من ضيع على نفسه نعمة الرؤية المتروية المتزنة المنصفة، وفي موضع آخر من مقالات القسم الثالث، عرضت فكرة تساعد على الحد من طغيان النظرة المتطرفة عند أصحابها، وهي أن الحياة الثقافية للإنسان، لا تتجمع كلها في طريق واحد، فلا هي كلها «فن»، ولا هي كلها «علم»، ولا هي كلها «عقيدة إيمانية»، وهكذا تتعدد المجالات، ولكل مجال مقاييس الصواب والخطأ الخاصة به، مقاييس الجودة والرداءة، فلا يجوز - إذن أن أحكم به على قصيدة الشعر بما أحكم به على قانون علمي في مجال الكيمياء أو الفيزياء، كما لا يجوز أن أحكم على صواب حقيقة معينة في تلك العلوم أو على خطئها، بشيء مما يقع في دائرة الإيمان بالعقيدة، فلو أننا عرفنا كيف نجعل كل تلك الفروع بمثابة «النظائر» التي تلتقي كلها في الإفصاح عن الحق المطلق إفصاحا يجيء عند كل نظير من تلك النظائر بلغته الخاصة، لتوحدت حياتنا الفكرية وتخلصت من عوامل الصراع التي تمزق بنيانها.
إنه مما يلاحظ بنظرة سريع إلى حياتنا اليوم - إهمال كل فرد منا لما يقوله الآخرون، لا، بل إن الأمر أشد من ذلك سوءا، وهو أن كلا منا يكاد يجعله واجبا عليه أن يحطم هؤلاء الآخرين ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن هنا صغرت منا نفوس كثيرة، وفقدنا روح الكرامة والكبرياء.
صفحه نامشخص