Rulings of Funerals 1
أحكام الجنائز ١
ناشر
مطبعة سفير
محل انتشار
الرياض
ژانرها
٤٠
سلسلة مؤلفات سعيد بن علي بن وهف القحطاني
_
أحكام الجنائز
مفهوم، واغتنام، ومواعظ، وآداب، وحقوق وصبر،
واحتساب، وفضائل، وأحكام
في ضوء الكتاب والسنة
صفحه نامشخص
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه رسالة في «أحكام الجنائز» بيّنت فيها بتوفيق الله تعالى: مفهوم الجنائز، والأمور التي ينبغي للمسلم العناية بها عناية فائقة؛ لاغتنام الأوقات والأحوال بالأعمال الصالحة قبل فوات الأوان، وذكرت الأمور التي تعين على الاستعداد للآخرة بالأعمال الصالحة، والاجتهاد في حال الصحة والفراغ في الأعمال الصالحة؛ لتكتب للمسلم في حال العجز والسقم، وذكرت أسباب حسن الخاتمة، وبيّنت آداب المريض الواجبة والمستحبة، وآداب زيارة المريض، والآداب الواجبة والمستحبة لمن حضر وفاة المسلم، وذكرت الأمور التي تجوز للحاضرين وغيرهم، والأمور الواجبة على أقارب الميت، والأمور المحرَّمة على أقارب الميت وغيرهم، وبيّنت النعي الجائز، والمحرَّم، ثم ذكرت العلامات التي تدل على حسن الخاتمة، وبيّنت فضائل الصبر والاحتساب على المصائب، ثم بيّنت أحكام غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، وأحكام حمل الجنازة واتباعها وتشييعها، وأحكام الدفن وآدابه، وآداب الجلوس والمشي في
1 / 3
المقابر، ثم ذكرت أحكام التعزية، وفضلها، وبيّنت أن القُرَب المهداة إلى أموات المسلمين تصل إليهم حسب الدليل، ثم ذكرت أحكام زيارة القبور وآدابها، وختمت ذلك بذكر أحكام إحداد المرأة على زوجها، وذكرت أصناف المعتدات، وقد اجتهدت أن ألتزم في ذلك بالدليل من الكتاب والسنة أو من أحدهما ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
وقد استفدت كثيرًا من تقريرات شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ﵀ ومن كتب العلامة محمد ناصر الدين الألباني ﵀ والعلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى-.
وقد أفردت هذه الرسالة من كتابي «صلاة المؤمن» ليسهل الانتفاع بها.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي؛ فإنه خير مأمول، وأكرم مسؤول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله، وسلم، وبارك، على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أبو عبد الرحمن
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر بعد مغرب يوم الثلاثاء الموافق ١/ ١/١٤٢٤هـ
1 / 4
صلاة الجنائز
أولًا: مفهوم الجنائز: بفتح الجيم لا غير: جمع جِنَازة.
والجنازة: بكسر الجيم وفتحها لغتان، والكسر أفصح.
وقيل: «الجَنَازَةُ» بالفتح للميت، وبالكسر «الجِنازةُ» للنعش عليه ميت. وقيل: عكسه (١).
قال الإمام ابن الأثير: «والجنازة بالكسر والفتح: الميت بسريره، وقيل: بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت» (٢).
وقال الفيروزآبادي: «الجِنَازةُ: الميت، ويفتح، أو بالكسر: الميت وبالفتح: السرير، أو عكسه، أو بالكسر: السرير مع الميت» (٣)، والله تعالى أعلم (٤).
قال الإمام النووي ﵀: «الجنازة مشتقة من جنز إذا سُتِرَ» (٥).
ثانيًا: اغتنام الأوقات والأحوال بالأعمال الصالحة قبل فوات الأوان؛ لقول الله تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى
_________
(١) شرح النووي على صحيح مسلم،٦/ ٤٧٣،والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، ٤/ ٣٧٩.
(٢) النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، باب الجيم مع النون، ١/ ٣٠٦.
(٣) القاموس المحيط، باب الزاي فصل الجيم، ص٦٥٠.
(٤) قال العلامة محمد بن صالح العثيمين ﵀: «... فإذا قيل: جَنازة: أي ميت، وإذا قيل: جِنازة: أي نعش، وهذا تفريق دقيق؛ لأن الفتح يناسب الأعلى، والميت فوق النعش، والكسر يناسب الأسفل، والنعش تحت الميت» الشرح الممتع، ٥/ ٢٩٨.
(٥) شرح النووي على صحيح مسلم، ٦/ ٤٧٣.
1 / 5
مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (١).
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (٢).
وقال الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (٣).
فكل مفرِّط يندم عند الاحتضار يسأل طول المدة ولو شيئًا يسيرا؛ ليستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات كان ما كان، وأتى ما هو آتٍ، وكلٌّ بحسب تفريطه، أما الكفار فكما قال الله تعالى (٤): ﴿وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ﴾ (٥).
وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي
_________
(١) سورة الزمر، الآيات: ٥٤ - ٥٨.
(٢) سورة البقرة، الآية: ٢٥٤.
(٣) سورة المنافقون، الآيات: ٩ - ١١.
(٤) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص١٣٤٩.
(٥) سورة إبراهيم، الآية: ٤٤.
1 / 6
أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (١).
وعن ابن عباس ﵄ قال: قال النبي ﷺ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (٢). وهذا يدل على أن من لم يستعمل نعمة الصحة والفراغ فيما ينبغي فقد غُبِنَ؛ لكونه باعهما بثمنٍ بخسٍ، ولم يُحمد رأيه في ذلك، ولاشكَّ أن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكفيًا صحيح البدن، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يُغبَن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شُكْرِه امتثالُ أوامره واجتنابُ نواهيه، فمن فرَّط في ذلك فهو المغبون، والذي يوفَّق لذلك قليل من الناس، ومعلوم أن الإنسان قد يكون صحيحًا ولا يكون متفرِّغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك: أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:
يسر الفتى طولُ السلامة والبقا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل
يُرد الفتى بعد اعتدال وصحةٍ ... ينوء إذا رام القيامَ ويحملُ (٣)
_________
(١) سورة المؤمنون، الآيتان: ٩٩ - ١٠٠.
(٢) البخاري، كتاب الرقاق، باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة، برقم ٦٤١٢.
(٣) مقتبس من مجموع كلام ابن حجر، وابن بطال، وابن الجوزي، كما نقله ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري، ١١/ ٢٣٠.
1 / 7
وعن ابن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغِناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (١).
ورحم الله الإمام البخاري فقد أحسن حين قال:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت من غير سَقم ٍ ... ذهبت نفسه الصحيحة فلتة (٢)
وقد أحسن البستي – ﵀ – حين قال:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... أتطلب الربح فيما فيه خسران؟
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان (٣)
ولا ريب أنه ينبغي الاستعداد لما بعد الموت بالأعمال الصالحة، والتوبة من جميع الذنوب؛ لأن الموت قد يأتي بغتة، قال الإمام البخاري – ﵀ –: «بابُ موتِ الفُجاءة (٤): البغتة»، ثم ذكر حديث سعد بن عبادة
_________
(١) الحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ٤/ ٣٠٦، ورواه ابن المبارك في الزهد،
١/ ١٠٤، برقم ٢، من حديث عمرو بن ميمون مرسلًا، وقال ابن حجر في فتح الباري،
١١/ ٢٣٥: «بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون، فمرسل عمرو بن ميمون شاهد لرواية الحاكم»، وصحح الحديث الألباني في صحيح الجامع الصغير، ٢/ ٣٥٥، برقم ١٠٨٨.
(٢) ذكره ابن حجر في هدي الساري، ص٤٨١، وعزاه إلى الحاكم في تاريخه، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، ٢/ ٣٩٢.
(٣) النونية لشاعر زمانه: علي بن محمد بن الحسين البُسْتي، وهي مطبوعة ضمن الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، ص٦٢٣.
(٤) الفُجاءَة: يُقال: فجئَه الأمرُ، وفجأه فُجاءة: بالضم والمد، وفاجأه مفاجأة إذا جاءه بغتة من غير تقدم سبب، وقيّده بعضهم بفتح الفاء وسكون الجيم من غير مدٍّ على المرة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، ٣/ ٤١٢، والفجاءة: الهجوم على من لم يشعر به. فتح الباري لابن حجر، ٣/ ٢٥٤.
1 / 8
﵁ حين قال للنبي ﷺ: «إن أمي افتُلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدَّقتْ، فهل لها أجر إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: «نعم» (١).
وعن عبيد بن خالد السلمي ﵁ عن النبي ﷺ قال: «موت الفَجْأَةِ أخذةُ أسَفٍ (٢» (٣).
وكره بعض السلف موت الفجأة (٤)؛ لما في ذلك - والله أعلم - من خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة، وغيرها من الأعمال الصالحة، وقد نقلت كراهة موت الفجاءة عن الإمام أحمد، وبعض الشافعية، ونقل الإمام النووي: أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا موت الفجأة؛ قال الإمام النووي ﵀: «وهو محبوب للمراقبين» (٥).قال الحافظ ابن حجر ﵀: «وبذلك يجتمع
_________
(١) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب موت الفُجاءة، برقم ١٣٨٨، ومسلم، كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، برقم ١٠٠٤.
(٢) أسَفٍ: أي غضب، قال ابن حجر في الفتح، ٣/ ٢٥٤: «أسف: أي غضب، وزنًا ومعنى، وروي بوزن الفاعل: أي غضبان. قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث، ١/ ٤٨: «وفي حديث موت الفجأة: «راحة للمؤمن وأخذة أسفٍ للكافر» أي أخذة غضب أو غضبان، يقال: أسِفَ يأسفُ أسفًا فهو آسِفٌ، إذا غضب». فعلى هذا يكون بكسر السين غضبان، وفتحها غضب.
(٣) أبو داود، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة، برقم ٣١١٠، وأحمد في المسند، برقم ١٥٤٩٦، ١٥٤٩٧، ١٧٩٢٤، ١٧٩٢٥، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ٢/ ٢٧٧، وأصحاب موسوعة مسند الإمام أحمد، ٢٤/ ٢٥٣، ٢٩/ ٤٤٥.
(٤) انظر: فتح الباري، لابن حجر، ٣/ ٢٥٤، والسنن الكبرى للبيهقي، ٣/ ٣٧٨، ٣٧٩، ومصنف ابن أبي شيبة، ٣/ ٣٧٠، ومصنف عبد الرزاق، برقم ٦٧٧٩ موقوف على حذيفة ﵁.
(٥) فتح الباري لابن حجر، ٣/ ٢٤٥، ونقل ذلك في هذا الموضع عن النووي ﵀.
1 / 9
القولان» (١).
وورد ما يؤيد عدم كراهة موت الفجاءة للمؤمن، فعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: «موت الفجاءة تخفيف على المؤمن، وأسف على الكافر» هذا لفظ عبد الرزاق، والطبراني في المعجم الكبير، ولفظ ابن أبي شيبة: «موت الفجاءة راحة على المؤمنين، وأسف على الكفار» (٢).
ورُوي من حديث عن عائشة ﵂ قالت: «سألت رسول الله ﷺ عن موت الفجأة؟ فقال: «راحة للمؤمن وأخذة أسَفٍ للفاجر» (٣).
وعن عبد الله بن مسعود وعائشة ﵄ قالا: «موت الفجاءة رأفة بالمؤمن، وأسف على الفاجر» (٤).
وما أحسن ما استشهد به الإمام البيهقي – ﵀ – في كتاب الجنائز، باب موت الفجاءة (٥) من حديث أبي قتادة ﵁ أن رسول الله ﷺ
_________
(١) فتح الباري، لابن حجر، ٣/ ٢٥٥.
(٢) عبد الرزاق في المصنف، برقم ٦٧٧٦، وابن أبي شيبة في المصنف، عن بعض أصحاب عبد الله عنه، ٣/ ٣٦٩ - ٣٧٠، والطبراني في الكبير، ٩/ ١٧٥، برقم ٨٨٦٥، ولم أجد من حسّن حديث عبد الله بن مسعود ﵁،وتوقف عنه ابن باز في تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم ٣٨٨، وقال: «يُبحث عنه».
(٣) أحمد في المسند، ٤١/ ٤٩١، برقم ٢٥٠٤٢، والبيهقي، ٣/ ٣٧٩، وفي شعب الإيمان، برقم ١٠٢١٨، وعبد الرزاق، برقم ٦٧٨١، وضعفه أصحاب موسوعة المسند في ٢٤/ ٢٥٤،
و٤١/ ٤٩١، برقم ٢٥٠٤٢، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، ٢/ ٢١٨: «رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه قصة، وفيه عبد الله بن الوليد الرصافي وهو متروك».
(٤) ابن أبي شيبة في المصنف، ٣/ ٣٧٠، وهو هنا موقوف، والبيهقي في الكبرى، ٣/ ٣٧٩ موقوف أيضًا، ويراجع كلام أهل موسوعة مسند الإمام أحمد، ٤١/ ٤٩١ - ٤٩٢.
(٥) السنن الكبرى، ٣/ ٣٧٩.
1 / 10
مُرَّ عليه بجنازة فقال: «مستريح ومستراح منه» قالوا: يا رسول الله! ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: «العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب» (١).
وثبت في الحديث: «ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد؛ لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى» (٢).
فينبغي الاستعداد، قال شيخنا الإمام ابن باز ﵀: «فينبغي الاستعداد؛ ولهذا كان من دعاء رسول الله ﷺ: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءَةِ نقمتك، وجميع سخطك (٣» (٤).
وما أجمل ما قاله محمود الوراق:
مضى أمسُك الماضي شهيدًا مُعدَّلًا ... وأعقبه يوم عليك جديدُ
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً ... فثنِّ بإحسانٍ وأنت حميدُ
فيومك إن أعتَبتَه عاد نَفعُهُ ... عليك وماضي الأمس ليس يعودُ
ولا تُرجِ فِعلَ الخير يومًا إلى غدٍ ... لعلَّ غدًا يأتي وأنت فقيدُ (٥)
وقال آخر:
_________
(١) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما جاء في مستريح ومستراح منه، برقم ٩٥٠.
(٢) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد، باب الحور العين وصفتهن، برقم ٢٧٩٥، ومسلم، كتاب الإمارة باب فضل الشهادة في سبيل الله، برقم ١٨٧٧، وفي لفظ للبخاري: «يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة» البخاري، برقم ٢٨١٧.
(٣) مسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، برقم ٢٧٣٩.
(٤) سمعته أثناء تقريره على باب موت الفجاءة في صحيح البخاري، الحديث رقم ١٣٨٨.
(٥) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، ٢/ ٣٩٢.
1 / 11
نسير إلى الآجال في كل لحظةٍ ... وأيامنا تطوى وهُنَّ مراحل
ولم أرَ مثل الموتِ حقًّا كأنه ... إذا ما تخطته الأماني باطلُ
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شاملُ
ترحَّلْ من الدنيا بزادٍ من التقى ... فعُمْرُك أيامٌ وهنّ قلائلُ (١)
وما أحسن ما قاله الشاعر الحكيم:
من فاته الزرع في وقت البذار فما ... تراه يحصد إلا الهمّ والندما
وقال آخر:
نتوب من الذنوب إذا مرضنا ... ونرجع للذنوب إذا برينا
وكم عاهدت ثم نقضت عهدًا ... وأنت لكل معروف نسيتا
ثالثًا: الاجتهاد في حالة الصحة في الأعمال الصالحة؛ لتكتب للمسلم في حال عجزه عن العمل؛ لحديث أبي موسى الأشعري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» (٢).
رابعًا: الأمور التي تعين على الاستعداد للآخرة بالأعمال الصالحة كثيرة منها:
١ - الإكثار من ذكر الموت والاستعداد للقاء الله تعالى: ينبغي للمسلم أن يكثر من ذكر الموت، ويبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يأتيه الموت بغتة فيندم حين لا ينفع الندم؛ لحديث أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «أكثروا ذِكْرَ هاذِم اللذَّات» (٣) يعني الموت، وفي لفظ لابن حبان: «أكثروا
_________
(١) ذكره ابن رجب في المرجع السابق، ٢/ ٣٨٤.
(٢) البخاري، برقم ٩٩٦، وتقدم تخريجه في صلاة المريض، وفي الاجتهاد في الصحة.
(٣) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في ذكر الموت، برقم ٢٣٠٧، والنسائي، كتاب الجنائز، باب كثرة ذكر الموت، برقم ١٨٢٣، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، رقم ٤٢٥٨، وابن حبان، بلفظ «أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت» برقم ٢٩٩٢.وقال الألباني في صحيح سنن النسائي وغيره، ٢/ ٦: «حسن صحيح».
1 / 12
ذكر هاذِم اللذات، فما ذكره عبد قط وهو في ضيقٍ إلا وسَّعه عليه، ولا ذكره وهو في سعةٍ إلا ضيقه عليه» (١)، وفي لفظ لابن حبان أيضًا: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول: «أكثروا من ذكر هاذِم اللذات» (٢)، فالموت يقطع اللذات ويزيلها، والحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن ذكر أعظم المواعظ وهو الموت، قال الإمام الصنعاني: «وقد ذكر في آخر الحديث فائدة الذكر بقوله: «فإنكم لا تذكرونه في كثير إلا قلَّلهُ، وقليل إلا كثَّره» (٣).
وعن ابن عمر ﵄ قال: كنت مع رسول الله ﷺ فجاءه رجل من الأنصار فسلم على النبي ﷺ ثم قال: يا رسول الله! أي المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خُلُقًا» قال: فأي المؤمنين أكيس (٤)؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس» (٥).
_________
(١) صحيح ابن حبان، برقم ٢٩٩٣، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، ٣/ ١٤٥.
(٢) صحيح ابن حبان، برقم ٢٩٩٥ وحسنه شعيب الأرنؤوط.
(٣) سبل السلام للصنعاني، ٣/ ٣٠٢، وهذا الخبر أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: «أكثروا ذكر هاذم اللذات – يعني الموت – فإنه ما كان في كثير إلا قلله، ولا قليل إلا جزأه» [مجمع البحرين، ٨/ ٢٠٦، برقم ٥٠٧٦]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، ١٠/ ٣٠٩: «إسناده حسن»، وذكر الصنعاني هنا آثارًا منها: «أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيا الله قلبه وهوَّن عليه الموت» [ذكره الديلمي في مسند الفردوس، ١/ ٧٤، برقم ٢١٨].
(٤) أكيس: أعقل. ومثله: الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت: أي العاقل. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، ٤/ ٢١٧.
(٥) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم ٤٢٥٩، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم ١٣٨٤.
1 / 13
قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (١).
وقال جلَّ وعلا: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ (٢).
وقال ﷾: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ (٣).
وقال الله ﷿: ﴿فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ*وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ*وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ*تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (٤).
وقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (٥).
وقال تعالى: ﴿كَلا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ (٦).
وقال الله ﷿: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ
_________
(١) سورة آل عمران، الآية: ١٨٥.
(٢) سورة النساء، الآية: ٧٨.
(٣) سورة ق، الآية: ١٩.
(٤) سورة الواقعة، الآيات: ٨٣ - ٨٧.
(٥) سورة الجمعة، الآية: ٨.
(٦) سورة القيامة، الآيات: ٣٠ - ٣٦.
1 / 14
الْغَفُورُ﴾ (١).
وقال الله ﷿: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (٢).
وقال سبحانه: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ (٣).
قال زُهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم (٤)
وقال آخر:
الموت باب كل الناس داخله ... فليت شعري بعد الباب ما الدار
الدار جنة خلدٍ إن عملت بما يرضي ... الإله، وإن فرطت فالنارُ
وعن سهل بن سعد ﵁ قال: جاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال: «يا محمد عِشْ ما شئتَ فإنك ميتٌ، وأحببْ من شئتَ فإنك مفارقُه، واعملْ ما شئتَ فإنك مَجزيٌّ به»، ثم قال: «يا محمد شرف المؤمن قيام الليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس» (٥).
_________
(١) سورة الملك، الآيتان: ١، ٢.
(٢) سورة السجدة، الآية: ١١.
(٣) سورة الأنعام، الآيتان: ٦١، ٦٢.
(٤) تفسير ابن كثير، ص٣٤٣.
(٥) أخرجه الحاكم، ٤/ ٣٢٥، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم ٨٣١، وتقدم تخريجه في فضل قيام الليل.
1 / 15
وما أحسن ما قال الشاعر الحكيم:
وما هذه الأيام إلا مراحل ... يحثُّ بها داعٍ إلى الموت قاصدًا
وأعجب شيء لو تأملت أنها ... منازل تطوع والمسافر قاعد (١)
وقال آخر:
أيا ويح نفسي من نهار يقودها ... إلى عسكر الموت وليلٍ يذودُها (٢)
٢ – ذكر القبر والبلى؛ لحديث هانئ مولى عثمان ﵁ قال: كان عثمان إذا وقف على قبرٍ بكى حتى يَبُلَّ لحيته، فقيل له: تُذكرُ الجنة والنارُ فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله ﷺ قال: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه» قال: وقال رسول الله ﷺ: «ما رأيت منظرًا قطُّ إلا والقبرُ أفظعُ (٣) منه» (٤).
والقبر أقرب شيء للإنسان، وشدته أمارة للشدائد كلها، وهو أشد وأشنع المناظر في الدنيا، وحيث خُصَّ بمناظر الدنيا اندفع ما يتوهم أن هذا ينافي قوله: «فما بعده أشدُّ منه» على أنه يمكن الجواب إذا عمم بأنه أفظع من جهة الوحشة، والوحدة، وغيره أشد عذابًا منه فلا إشكال (٥).
_________
(١) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، ٢/ ٣٨٣، وذكره أيضًا ابن القيم في مدارج السالكين، ٣/ ٢٠١.
(٢) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، ٢/ ٣٨٣.
(٣) أفظع: أي أشدُّ وأشنع. شرح السندي على سنن ابن ماجه، ٤/ ٥٠٠.
(٤) الترمذي، كتاب الزهد، باب: حدثنا هناد، برقم ٢٣٠٨، وابن ماجه، واللفظ له، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، برقم ٤٢٦٧، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ٢/ ٥٢٧ وغيره.
(٥) انظر: شرح السندي على سنن ابن ماجه، ٤/ ٥٠٠.
1 / 16
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس شيء من الإنسان إلا يبلى إلا عظمًا واحدًا وهو عَجْبُ الذَّنب، ومنه يُركَّبُ الخلق يوم القيامة» (١).
٣ – قصر الأمل والاستعداد للموت بالأعمال الصالحة، قال الله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (٢).
قال علي بن أبي طالب ﵁: «ارتحلت الدنيا مدبرةً، وارتحلت الآخرة مقبلةً، ولكل واحدةٍ منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل» (٣).
وعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: خطَّ النبي ﷺ خطًّا مربعًا، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخطَّ خُطَطًا صغارًا إلى الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: «هذا الإنسان وهذا أجَلُهُ محيطٌ به – أو قد أحاط به – وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخُطَطُ الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا» (٤).
وعن أنس ﵁ قال: خطَّ النبي ﷺ خطوطًا فقال: «هذا الأمل وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب» (٥).
_________
(١) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، برقم ٤٢٦٦، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، ٢/ ٤٢١، وغيره.
(٢) سورة الحجر، الآية: ٣.
(٣) البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله، قبل الحديث رقم ٦٤١٧، وذكر الحافظ في فتح الباري ١١/ ٢٣٦: زيادة في أوله عند ابن أبي شيبة وابن المبارك في الزهد: «قال علي: إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ...» الحديث كالذي في الأصل سواء.
(٤) البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله، برقم ٦٤١٧، ومعنى نهشه: أصابه.
(٥) البخاري، كتاب الرقاق، باب الأمل وطوله، برقم ٦٤١٨.
1 / 17
وعن عبد الله بن عمر ﵄ قال: أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».
وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» (١).
وقال بعض السلف:
سبيلك في الدنيا سبيل مسافرٍ ... ولابد من زادٍ لكل مسافر
ولابد للإنسان من حملِ عُدَّةٍ ... ولاسيما إن خاف صولة قاهرِ (٢)
وقال الألبيري – رحمه الله تعالى –:
فليست هذه الدنيا بشيء ... تسؤك حِقبة وتسرُّك وقتَا
وغايتُها إذا فكرت فيها ... كفيِّك أو كحلمك إذا حلمتا
سُجنت بها وأنت لها محبُّ ... فكيف تُحبُّ ما فيه سُجنتا
وتُطعمكَ الطعام وعن قريبٍ ... ستطعم منك ما فيها طعِمتا
وتشفق للمصرِّ على المعاصي ... وترحمه ونفسك ما رحمتا (٣)
وعن أبي هريرة ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يزال قلب الكبير شابًّا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل» (٤).
وعن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «يَكْبرُ ابنُ آدم ويكبَرُ معه
_________
(١) البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي ﷺ «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، برقم ٦٤١٦.
(٢) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، ٢/ ٣٨٢.
(٣) تائية الشاعر الزاهد إبراهيم بن مسعود الغرناطي الألبيري، وهي مطبوعة في الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، ص٦٣٣.
(٤) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، برقم ٦٤٢٠ واللفظ له، ومسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة الحرص على الدنيا، برقم ١٠٤٦.
1 / 18
اثنتان: حب المال وطول العمر» ولفظ مسلم: «يهرمُ ابن آدم وتشبُّ منه اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر» (١). ومعناه أن قلب الشيخ كامل الحب للمال متحكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه، وسماه شابًّا إشارة إلى استحكام حبه للمال أو هو من باب المشاكلة والمطابقة (٢). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز – ﵀ – يقول: «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان» أي يقوى معه اثنان، هذه طبيعة الإنسان: حب الدنيا وطول الأمل إلا من رحم الله، فالواجب على المؤمن أن يحذر، وأن يعتبر هذه الدار مزرعة، فيجتهد في الزرع للآخرة، حتى يحصد يوم القيامة ما ينفعه» (٣).
وما أحسن قول بعض السلف الصالح:
إنّا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يومٍ مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا ... فإن الربح والخسران في العمل (٤)
وقال آخر:
تزوّد للذي لابد منه ... فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد وأنت بغير زاد
وقال آخر:
تزود من التقى فإنك لا تدري ... إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
_________
(١) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، برقم ٦٤٢١، ومسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة الحرص على الدنيا، برقم ١٠٤٧.
(٢) انظر: فتح الباري، لابن حجر، ١١/ ٢٤٠، ٢٤١.
(٣) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم ٦٤٢١.
(٤) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، ٢/ ٣٨٧.
1 / 19
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ ... وكم من عليل عاش حينًا من الدهر
وقال أبو العتاهية:
وما أدري وإن أمَّلت عُمرًا ... لعلي حين أصبح لست أُمسي
ألم تر أن كلَّ صباح يوم ... وعمرك فيه أقصر منه أمسِ (١)
وقال آخر:
يا من بدنياه اشتغل ... وغرَّه طولُ الأمل
الموت يأتي فجأةً ... والقبر صندوقُ العمل
عن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالصَّرمة بالنار» (٢).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة أو الخوصة» (٣).
وتقارب الزمان بقلّة البركة فيه، قال الحافظ ابن حجر – ﵀ –: «قد وُجد في زماننا هذا من سرعة الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا» (٤). وقيل: سرعة الزمان بسبب وسائل الاتصالات السريعة.
_________
(١) ذكره ابن رجب في المرجع السابق، ٢/ ٣٨٦، وهو في ديوان أبي العتاهية ص١١١.
(٢) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في تقارب الزمان وقصر الأمل، برقم ٢٣٣٢، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، ٢/ ٥٣٧.
(٣) ابن حبان في صحيحه، برقم ٤٨٤٢، وقال شعيب الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرط الصحيح».
(٤) فتح الباري لابن حجر، ١٣/ ٨١، وانظر هناك: الحديث رقم ٧١٢١.
1 / 20
٤ – القناعة وغنى النفس والتوكل على الله ﷿؛لحديث عبد الله بن مسعود ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقتُهُ، ومن نزلت به فاقةٌ فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجلٍ أو آجلٍ» (١).ولفظ أبي داود: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى: إما بموتٍ عاجلٍ أو غِنىً عاجلٍ» (٢).
وعن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «ليس الغنى عن كثرة العَرَضِ ولكن الغنى غنى النفس» (٣).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: «قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» (٤).
وعن أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي ﷺ قال: «إن هذا المال خَضِرةٌ حُلوةٌ فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنِعْمَ المعونةُ هُوَ، ومن أخذه بغير حقِّه كان كالذي يأكل ولا يشبع» (٥).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلِّم من يعمل بهنَّ؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا
_________
(١) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الهمِّ بالدنيا وحبِّها، برقم ٢٣٢٦، وصححه الألباني بلفظ: «بموت عاجل أو غنى عاجل» في صحيح سنن الترمذي، ٢/ ٥٣٥.
(٢) أبو داود، كتاب الزكاة، باب في الاستعفاف، برقم ١٦٤٥، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ٤٥٨، وفي الأحاديث الصحيحة، برقم ٢٧٨٧.
(٣) مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل القناعة والحث عليها، برقم ١٠٥١.
(٤) مسلم، كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة، برقم ١٠٥٤.
(٥) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم ٦٤٢٧، ومسلم، كتاب الزكاة، باب التحذير من الاغترار بزينة الدنيا وما يبسط منها، برقم ١٢٢ - (١٠٥٢).
1 / 21