فأسرعت مدام فارز من داخل وقالت: أنت يا أبتي تزيد في كلامك، فتجعل الشيء الذي لا يذكر عظيما جسيما، وتتصور أن صحة الجميع ضعيفة نظير صحتك. - قولي مهما شئت وسترينه بعينك؛ لأنه ألح علي بأمر ذهابك لعيادته. - وهل تذهبين يا والدتي؟ - بكل رضا.
قال دسباس: كاد قلبي يتفتت إشفاقا عليه، وقد سألته بأن أعوده بتواتر إذا شاء، فرفض معتذرا بأن الزيارات تتعبه، إنما طلب مني بلجاجة كلية بأن تذهبي إليه.
لم يمض سوى زمن وجيز حتى ذهبت مدام فارز لعيادة ألبير، وعندما دخلت حجرته نبض قلبها سريعا حينما رأته ملقى على سريره شاحب اللون منحط القوى، فدنت منه ومسكت يده قائلة: كيف حالك أيها الصديق الصدوق؟ - إن حالي كما ترين أيتها السيدة النبيلة، قلبي ضعيف بطيء الحركة منذ سنين طويلة! - وكيف لا يكون ذلك وأنت تفتكر دائما في ما يؤلمك ويكدر صفاء معيشتك! لله ما أطيب رائحة هذا النسيم المنعش الداخل من هذه النافذة!
قالت هذا لأن النافذة التي تطل على البستان الصغير كانت مفتوحة، والنسيم العليل يتلاعب بغصون أشجاره المختلفة وأوراق أزهاره ورياحينه المتنوعة، ثم يهب في الفضاء حاملا روائحها العطرية فينشرها في غرفة المريض، الذي هو أليف الوحدة حليف الوحشة والانفراد في دنياه هذه!
نظر ألبير بعينين منخفضتين إلى الخارج، ثم حول نظره إلى رسم مرغريت وهو على القرب منه وقال: أريدها هي، ومن صميم القلب أبتغي مرآها.
وضعت مدام فارز يدها على يده بلطف متأملة تلك اليد النحيلة، فرفع بصره إليها قائلا: لا رجاء لي إلا بك أنت. - بي أنا؟ وماذا أستطيع أن أعمل؟
فسكت برهة وقال بحرقة لا مزيد عليها: اذهبي قولي لها بأني مائت لا محالة، وأروم أن أودعها الوداع الأخير. - ماذا تقول؟! تبصر بأمرك. - تبصرت كثيرا وتصبرت زمانا طويلا، وأمعنت النظر في أموري ساعات متتالية إلى أن عيل صبري وضاقت حيلتي، ففكري هو نديمي الوحي، ومرضي ناتج عن كثرة تفكري فيها، وقلبي يحدثني بأن أراها؛ لأنها زوجتي ومتى رأيتها شفيت لا محالة! ولا أقدر أن أكتب لها رأسا، بينما إن حضرتك صديقتها وتستطيعين مقابلتها في كل وقت، فاذهبي إذا وتوسلي إليها بأن تشفق على صبري الواهي وجسمي السقيم وروحي الذائبة. ألحي عليها بأن تشفق علي وترق لحالتي هذه، استحلفيها باسم إيڤون ابنتي. آه لو علمت إيڤون بحالتي لظهرت لها في الحلم مشددة عليها بالإسراع إلي. هل تفعلين معي هذا المعروف وترثين لحالتي هذه؟ أجيبي بالإيجاب أيتها الصديقة الفاضلة، وإني لأخالك فاعلة ذلك بالحال! - نعم، رأيتها وكلمتها أيضا! - هي زارتني منذ أيام، وظهر لي أنها سيدة قريرة العين ناعمة البال، فلماذا تريد أن تقلق راحتها؟ فإن كنت تحبها حقيقة فدعها وشأنها، وبعد هذا وذاك من يعلم، ربما تغير قلبها من جهتك، كانت تحبك في الماضي، أما الآن ... - كانت تحبني، ولم تزل حتى الآن، بل زاد حبها على الأول! - ومن أنبأك بهذا؟ - اسمعي. لا أشك في أمانتك على حفظ السر. - تكلم بحرية وكن على ثقة بكل أمورك. - لله ما أطيب قلبك وأحسن أخلاقك! يا ليت كل النساء نظيرك، نعم قد حدثت نفسي مرارا كثيرة بأن لو كان باستطاعتي أن أحبك لعاد الهناء مالئا حياتي سعادة وصفاء، غير أني لا أقدر أن أحكم على ذاتي، فأنا أحب مرغريت. - إن المرء لا يحب ويميل إلى من يشاء، ومع ذلك ثق بأمانتي، وأنا مستعدة لمساعدتك بأمورك الصعبة بقدر استطاعتي.
فأثنى عليها كثيرا وقبل يديها الواحدة بعد الأخرى، ثم قص على مسامعها تلك الاجتماعات التي جرت بينهما في البستان حيث كانا يتعاهدان بالملاقاة. - وهل تظنين أنها لا تأتي بعد أن أفهمتك كل هذا، وخصوصا إذا علمت بأني ملقى على سرير الموت؟ - أنت لا تموت الآن، بل بعد عمر طويل. - ربما إذا رأيتها تعود إلي الحياة، وإن لم يساعدني الحظ برؤيتها فإني أموت حزينا، آه حقا إنه ليصعب علي شرح ما بي من الآلام، إن أفكاري تعذبني جدا، إنها حية وتحبني وأحبها، وهي زوجتي، ومع ذلك نحن منفصلان الواحد عن الآخر. وقبل أن ينهي كلماته هذه ضاق صدره وتنفس الصعداء، ثم أغمض عينيه ملقيا رأسه إلى الوراء، فتناولت حينئذ زجاجة صغيرة فيها رائحة منعشة كانت بالقرب منها، وأخذت تنشقه منها حتى فتح مقلتيه، ثم قالت له: هأنذا ذاهبة، فكن مطمئنا. - لا شك أنها تأتي، وا فرحتاه! - خل عنك الانفعالات النفسانية؛ فإنها تضر بصتحك. - لا تذهبي الآن انتظري قليلا. - لا بأس؛ فإني لك مطيعة. تناولت مروحة وجعلت تروح بها وجهه إلى أن ابتسم وأبرقت أسرته وامتلأ وجهه من سرور الأمل، وظهرت عليه أمارات النشاط والعافية.
الفصل السابع والعشرون
انطلقت مدام فارز من عند ألبير حزينة النفس، قلقة البال، مضطربة البلبال، لا تعي على شيء، لا تعلم ولا تدري كيف تذهب إلى مرغريت ومتى تذهب إليها، ماذا تقول لها؟ وبأي عبارات تبلغ امرأة ذات زوج هذا الكلام؟ وكيف يسوغ لها أن تحرضها وتستقدمها إلى رجل كان زوجها في الماضي وانفصلت عنه برضاها؟ وفيما هي سائرة صادفت مركبة فركبتها وأفهمت السائق بأنها تقصد شارع بروني متظاهرة بنسيان عدد المحل، قالت ذلك حتى إذا عدلت عن النزول أمام بيت مرغريت تعود بسهولة دون أن يعلم السائق شيئا من تغيير عزمها. وفيما كانت كذلك نظرت إلى ساعتها وقالت في نفسها: الساعة الآن 5، وربما لا أجدها بالبيت في مثل هذه الساعة، مع ذلك يجب أن أتمم وعدي وأذهب دون تغيير، وكانت العربة تسرع بها حتى إذا بلغت إلى الشارع المعين منها أعلنت للسائق عدد المحل المقصود، وعندما انتهت إليه أعطت الخادم بطاقة زيارتها، فذهب وعاد بعد برهة يسيرة معتذرا عن سيدته من أنها تتهيأ للذهاب إلى فرساي ولا تستطيع مقابلة أحد في هذا الوقت.
صفحه نامشخص