في ذلك المساء أصيبت مرغريت بحمى شديدة وعسر تنفس كادا يذهبان بحياتها، ولم تعلم والدتها بذلك إلا في صباح الغد، فأسرعت هذه إلى حجرة ابنتها لتتفقدها وتعتني بتمريضها. وبعد أن عاهدت على نفسها أن تحمل أعباء ذلك، أظهرت لصهرها كدرها العظيم وقالت على مسمع منها: إنها لعنيدة جدا؛ هي تعرف حق المعرفة أنها ضعيفة وصحتها منحرفة، وأن مزاجها اللطيف لا يحتمل شدة البرد والحر، ومع هذا وذاك فلا تبالي، بل تخرج من المأوى زمن وقوع الثلوج والأمطار.
فقال روجر يعذرها: إن الزكام في هذا الفصل يحدث على رغم التحفظات والاحتياطات؛ لأن حال الجو رديئة تصب الزكام وباقي العلل صبا. - إني لا أعتقد صحة القول، فعليك أن تأمرها بأن لا تخرج في مثل هذه الأوقات، كما أن عليها الامتثال لأمرك. إنها توالي الخروج منذ أسبوع كامل! - الآن يجب أن نهتم بمعالجتها وتمريضها، لا لومها وتعنيفها. ثم دخلا معا حجرة المريضة التي لم تبتسم لهما ولم تعرهما جانب الالتفات، مع أنه خاطبها قليلا، فلم تجبه متظاهرة بأنها نائمة، فلم يبطئ أن خرج لعيادة مرضاه بعد أن أوصى أمها بالتعليمات الضرورية. أما هذه فسألته بعد أن رافقته إلى الباب: لا تكترث بنا، كأننا مسسنا إحساساتها بأمر ما! - لا بأس بذلك، فإن هذا من آثار الحمى، وأنا سأعود بعد قليل.
إن الدكتور روجر لم يضطرب من مرض زوجته؛ لأنها لم تزل في عنفوان صبائها، وهو - هو نفسه - يعالجها، ومع ذلك كان يشعر بغصة في صدره؛ فقد شعر بعدم اكتراث مرغريت به بعد كل ما أبداه لها من علامات الحب والاحترام، كما أنه لسلامة قلبه نسب هذا الفتور إلى شدة الحمى، مع أنه كان يشعر أثناء ذلك بغم داخلي ضاغط على قلبه وسائر أحشائه، وكان يخشى أن ترغب عنه وتقرع سن الندم على قبولها إياه بعلا. ولو لم تحرضه وترغبه أمها لما أقدم على طلب يدها؛ فإنه - مع فرط حبه لها - لم تكن مخلصة له حبها كل الإخلاص، وعندما كان يجالسها يشعر بنوع من الانقباض، كان فؤاده يتلهب حنينا إليها، لكنه لم يجسر قط أن يظهر لها جميع عواطفه، وكثيرا ما كاد يترجم عن إحساسات قلبه وما يكنه فؤاده من الولوع والوله بها، لكنه يلجم لسانه عن التفوه ولو بكلمة واحدة أمامها. نعم، إن كل ما يفعله المحب لسعادة وهناء زوجته فعله روجر، بل زاد عليه أضعافا، ومع ذلك لم يتمكن من التوصل إلى امتلاك قلبها.
نعم، طالما خطر على باله ألبير زوجها الأول، وكان يشعر بقرب وقوع الخطر، وسأل نفسه يوما عما إذا تلاقيا اتفاقا، ماذا يصنعان؟ هل يحول الواحد منهما وجهه عن الآخر غير مكترث بملاقاته، ولا ذاكر تلك الأيام التي تقضت؟
إن روجر - مع ما هو عليه من حدة الذكاء والفطنة - لم يقدر أن يجيب على هذا السؤال، لكنه من هذا وغيره علم بأن سعادته إن هي إلا وقتية سريعة الزوال، وأن بيته مبني على الرمل.
وإذ كان الدكتور روجر من ذوي الرزانة والعقل الراجح، رام أن يشغل أفكاره بغير ذلك، فذهب إلى عيادة مرضاه، وكان يصغي إلى وصف أعراض العلة من فم المريض بكل تأن وانتباه أكثر من العادة، قاصدا بذلك ملاشاة همومه وإبعاد غمومه باشتغاله بأمراض غيره، وكان في الساعة المعينة يرجع إلى مسكنه ماشيا بدلا من أن يركب حسب عادته؛ وذلك ليسرح نظره ببعض المناظر التي يصادفها في طريقه. وفي أحد الأيام رأى وهو سائر أمامه مركبة تجري بألبير، وكان وقوع نظر الواحد منهما على الآخر كوميض البرق، فتوقدت في قلب كل منهما نار محرقة دونها جمر الغضا. وإن هي إلا لحظة حتى قال روجر في نفسه: سأبذل نفسي في سبيل حفظها لي حتى آخر نسمة من الحياة.
أما ألبير وقد التهبت نار الغيرة في فؤاده، أقسم في نفسه قائلا: والله لأسترجعنها، ولو كلفني ذلك فقدان حياتي.
الفصل التاسع
عندما شفيت مرغريت، شرعت أمها تؤنبها على قلة مداراتها لصحتها وعدم الاعتناء بها، وكانت تكرر ذلك كثيرا على مسامعها، ومرغريت لا تصغي إليها شيئا. وفي بعض الأحيان كان روجر داخلا فسمع زوجته تقول: كفاني كفاني ما سمعت منك.
فبادرتها أمها بالدفاع عن نفسها مؤكدة لها أنها لا تقصد سوى خيرها؛ لأن الحب الوالدي يدفعها إلى ذلك حبا براحتها، إلخ. لكن روجر غير موضوع الحديث وقال: دعينا من هذا الجدال يا عمتي؛ فإن مرغريت لم تزل ضعيفة. قال هذا ودنا منها مستعلما عن أحوال صحتها، فلم تقابله بوجه باش، ومع ذلك جلس بالقرب منها معتنيا بأمرها غاية الاعتناء، وبعد أن جس نبضها قال مسرورا: لقد تعافيت وعادت صحتك إلى حالها الأولى، فالحمد لله على السلامة. فقالت أمها هامسة: قد حصل لها ضعف آخر. فقال: إن كان ذلك صحيحا فهو من آثار الزكام. ثم قالت الأم لروجر: بما أنك هنا، يمكنني أن أذهب لأغذي مكسيم. - عودي إلى هنا يا والدتي. - سأرجع بعد بضع دقائق. - ويلاه إلى متى يجب أن أحبس هنا، فقد ضاق صدري يا روجر. - إن خروجك يا مرغريت يتعلق بجودة أحوال الجو لا بإرادتي كما لا يخفى عليك، وهل تعلمين بماذا أفكر؟ - لا أعلم، قل لي إذا شئت. - مرادي أن أمضي بك إلى جهة الجنوب. - وماذا يا ترى أفعل في جهة الجنوب! لا لا، بل أفضل البقاء معك هنا. إن مرغريت لم تتملق بقولها هذا؛ إذ إنها كانت تعلم حق العلم أن روجر هو سندها الوحيد. - كوني على ثقة بأني ذاهب معك. - ولمن تترك المرضى الذين تعالجهم؟ - إني أوصي بهم أحد أصحابي الأطباء. - لا، بل أفضل البقاء في العاصمة باريس. - عليك أن تطيعيني يا مرغريت، بما أني أنا الآمر وصاحب البيت!
صفحه نامشخص