فأطرقت مدام موستل ولم تجب بكلمة. ولم يكن إلا القليل حتى نهضا وذهبا إلى حجرة مرغريت، ثم دنت منها والدتها وودعتها بقبلة في جبينها قبل أن تذهب إلى سريرها، أما مرغريت فأشارت عليها بالبقاء ففعلت. ثم سألها روجر قائلا: كيف أنت الآن يا عزيزتي مرغريت؟ - أحسن قليلا، وإني أشكرك شكرا جزيلا، ولم أزل أحس ببعض التعب. - لا بأس عليك، فالزمي سريرك وخففي عنك قلق الفكر واضطراب البال؛ فإنهما يضنيان الجسم كما لا يخفى عليك.
ثم جلس واشتغل بمطالعة الجرائد، وكان حينا بعد حين يخالسها النظر، وأما هي فكانت تتناوم وليست بنائمة.
الفصل الثالث
عند انبلاج صباح اليوم الثاني نهضت مرغريت من فراشها، وسألت عن زوجها، فأجيبت بأنه خرج منذ ساعتين، فذهبت إلى غرفة طفلها وحملته على ذراعيها، وأخذت تكثر من تقبيله وملاعبته وضمه إلى صدرها، كأنها لم تره منذ أشهر طويلة. وكان وجود صغيرها مكسيم بين ذراعيها أحسن واسطة لأن تنسى ألبير وتسلوه، وبينما هي تناغي صغيرها وتلثمه، أقسمت له بأنها قد محت من فكرها اسم ألبير، فهي مزمعة أن لا تعود إلى تذكره في حال من الأحوال، ولا يصعب عليها ذلك بل يكون سهلا لديها بوجود طفلها المحبوب الذي تبذل دونه النفس والنفيس، فهي مصممة أن لا تحب سوى طفلها هذا ووالده الدكتور روجر. وكان ذلك الطفل كحمامة وديعة حين تمس شفتاه ثغرها تشعر بلذة خارقة العادة، وتحن إليه حنانا لا غاية بعده، وهو يلغو تارة ويصرخ أخرى، وحينا يصفق وحينا يبش في وجه أمه ثم يقرع أديم الأرض برجليه فرحا.
ثم أتى الدكتور روجر فوجد زوجته وابنه على هذه الحالة من الانشراح والسرور، فوقف هنيهة عند باب الحجرة مراقبا متأملا حركاتهما اللطيفة، مصغيا إلى حديثهما الذي حسن وقعه في أذنيه، ولم يكن قد شعر من قبل بمثل هذه اللذة. وكانت عيناه ترمقانهما بحنو لا يوصف، وفؤاده يرقص من هزة الطرب على رخيم صوتهما، وما عتم أن رمى بنفسه عليهما، وتناول الطفل بذراعه وضم أمه بالأخرى سائلا عن صحتها الغالية باهتمام عظيم، ثم قال: أريد أن أريك شيئا جديدا أيتها العزيزة، فأوجه إليه حسن التفاتك. وعلى أثر قوله هذا ضرب جرس الاستدعاء، فدخل أحد الخدام فأشار إليه الدكتور بأن يأخذ الطفل مكسيم إلى مرضعه، ثم خرج إلى صحن الدار وأتى بباقة أزهار بيضاء كبيرة ووضعها بين يدي مرغريت قائلا: عزيزتي، قد آليت على نفسي أن أزور مدفن إيڤون في هذا اليوم لأضع عليه هذه الأزهار النقية، وقد خطر لي هذا أمس، وأرغب في أن تصحبيني في هذه الزيارة، فماذا ترين؟
فرمقته مرغريت بنظرة طويلة كانت تبدو في خلالها على صفحات محياها عبارات الشكر والامتنان؛ لأن فكر روجر هذا قد سرها سرورا لا يوصف، ووقع من نفسها أعذب موقع، ثم أطرقت وعلامات الابتهاج وانشراح الصدر بادية على وجهها. - ماذا ترين يا مهجتي، ألم يحل ذلك في عينيك؟ دعي عنك التأثر، واتركي الانفعالات النفسانية الشديدة الأضرار بالصحة، ولا شيء يحل محل الصحة كما لا يغرب عنك.
سارا في الشارع الموصل إلى المقبرة ويد مرغريت بيد زوجها، ولم ينبسا ببنت شفة في أثناء سيرهما هذا، وعندما قربا من المدفن أسرعت في مشيتها اشتياقا وحنينا للراقدة فيه، وما وقع نظرها عليه حتى هرولت بسرعة شديدة وجثت على ركبتيها خائرة القوى، منكسرة القلب، حزينة النفس، دامعة العين، غارقة في بحر من الأحزان.
وبعد ذلك حانت التفاتة من روجر إلى ضريح إيڤون فرآه مكسوا بأنواع الزهر المختلفة الألوان والأشكال، فوضع باقته فوقها بوافر الاحترام، ولحظ بين تلك الورود الذابلة إكليلا وباقات منها خضراء حديثة الوضع، فتأكد أن مرغريت هي التي أتت بها بالأمس، فقال لها: لماذا لا تخبرينني حينما تأتين إلى هنا؟ نعم، الآن فهمت جليا سبب دموعك وقلق أفكارك مساء أمس!
أما مرغريت فكانت غائبة عن رشدها، لا تسمع ولا تفهم ما يقال لها، وهي ذارفة الدموع، باكية نائحة راثية فلذة كبدها إيڤون بألفاظ تفتت الأكباد وتلين الصخر الأصم، مخاطبة إيڤون كأنها في عالم الأحياء بين يديها، ثم تنظر حينا إلى الأزهار التي على المدفن وتلمسها بأناملها، ثم تقبل بحرقة شديدة تلك التي أتى بها ألبير كأنها ذخيرة منه.
فعلى هذا الضريح تذكرت مرغريت في ذلك الوقت حبيبين لها تفديهما بروحها: ألبير وإيڤون. نعم، إنها لم تحب أحدا في ماضي حياتها كما أحبتهما، وقد بدا لها أن موت ألبير - ولو كانت منفصلة عنه - أشد عليها من موت إيڤون.
صفحه نامشخص