إن إعادة ذكر روسو للتمييز بين الطبيعة والأخلاق في «العقد الاجتماعي» أيضا جعلته ينكر أن الروابط الأسرية عملت كنموذج للعلاقات بين المواطنين في الدولة. وقبل ذلك بألفي عام، وفي الكتاب الأول لمؤلفه «السياسة»، علق أرسطو بالفعل على الفرق بين الصلات غير المنصفة التي تربط بين أفراد الأسرة والمساواة الأساسية بين الرعايا والحكام في سياق الاجتماع السياسي - ومن ثم الطوعي - وأقر روسو، في كل من «العقد الاجتماعي»، وخاصة في الصفحات الأولى من «خطاب عن الاقتصاد السياسي»، بأنه يدين بشدة إلى أرسطو بخصوص هذا الموضوع، وبأنه يعيد صياغة ما قاله أرسطو بالفعل إلى حد بعيد. والواقع أن مقابلته بين النطاقين العام والخاص في «خطاب عن الاقتصاد السياسي» تتبع أيضا تمييز لوك الذي أورده في «الأطروحة الثانية عن الحكومة» بين السلطة السياسية والسلطة الأبوية؛ فشأنه شأن لوك، وضع روسو في بادئ الأمر تمييزه الخاص هذا من أجل تفنيد ما وصفه ب «النظام المضاد للصواب» الذي أورده السير روبرت فيلمر في كتابه «السلطة الطبيعية للملوك» الذي زعم روسو أن أرسطو إذا اطلع عليه لكان سيرفضه أيضا (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). لقد شارك روسو كلا من أرسطو ولوك اعتقادهما بأن الحكومة الشرعية بين أشخاص متساوين أخلاقيا تأسست بالاتفاق فيما بينهم ولم تكتسب بشكل طبيعي، وفي «العقد الاجتماعي»، وبقدر لا يقل عن كتاباته السياسية السابقة، كان روسو مصرا على أن سلطة الإنسان على أخيه الإنسان في المجتمع المدني - سواء بالخير أو بالشر - تأسست، وحري بها أن تتأسس، بالاختيار لا بالضرورة.
في الفصلين الثاني والثالث من مؤلفه، عبر روسو عن هذه الأفكار الجليلة بأسلوب جديد مميز، ومن ثم فقد خلع عليها زخما جديدا عبر محاولته الثورية تفنيد منطق تقليد العقد الاجتماعي بأكمله السابق عليه، كما استوعبه هو. وأثارت فلسفة جروشيوس تحديدا هنا ثائرته، كما فعلت من قبل فلسفة هوبز وبوفندورف ولوك في «الخطاب» الثاني. فبينما أشار جروشيوس إلى أن موافقة الرعايا هي التي أدت إلى التأسيس الصحيح للسلطة السياسية، فقد حاج، سائرا على نهج شيشرون وغيره من الكتاب القدماء، في مؤلفه «عن قانونية الحرب والسلام» (الباب الأول) الذي ظهر في عام 1625، أن موافقة شعب بأكمله على طاعة أحد الملوك تشبه بالضبط جعل الفرد من نفسه عبدا لغيره طواعية؛ أي بواسطة التنازل عن حريته أو نقلها إلى الأبد إلى سيد يرتضيه. ولم يكن جروشيوس وحده، بل هوبز وبوفندورف أيضا، في طرح الأطروحة التي مفادها أن خضوع الأفراد أو الجموع الطوعي لحاكمهم أدى إلى التأسيس الشرعي للدولة، من خلال إجازة أو تخويل طاعة الرعايا إلى سلطة مطلقة بواسطة نقل للحقوق لا رجعة فيه. وأصر جروشيوس على أنه يمكن للمقاتلين المهزومين التنازل عن سلطتهم على أنفسهم للغزاة المنتصرين عليهم، متجاهلين بذلك حقيقة أن الحرب في واقع الأمر علاقة بين دول لا بين أشخاص؛ ولذا رفض روسو الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه تقليد العقد الاجتماعي قبله، الذي لم يكن هناك فارق جوهري فيه بحسبه - وبتعبير هوبز - بين السيادة التي تكتسب بموافقة الناس والسيادة التي تكتسب عن طريق الاستحواذ أو الغزو. زعم هوبز أنه رغم أن سلطة الدولة كانت غير محدودة، فقد كانت هي أو الحاكم مجرد وكيل أو قائم مقام أو ممثل لإرادة الشعب، مجرد ممثل يمثل رعاياه الذين هم بالتبعية المؤلفون الحقيقيون لكل عرض يقدمه باسمهم (ليفايثن، الفصل السادس عشر).
اعتبر روسو فكرة الخضوع الطوعي هذه حجر الأساس للتشريع القانوني الحديث، وإذ شجب عواقبها الجائرة وأفكارها المغلوطة بشأن الطبيعة البشرية في «خطاب عن اللامساواة»، نراه الآن، في «العقد الاجتماعي»، يطعن في شرعيتها، ويقترح رواية مختلفة تماما لتدعيم سلطة الدولة عبر الاختيار الجمعي لمواطنيها. لقد اقترف جروشيوس وأتباعه من المؤمنين بفكرة العقد الاجتماعي خطأين أساسيين في فلسفاتهم الخاصة بالخضوع الطوعي، بحسب ظن روسو. الخطأ الأول هو: الخلط بين العقد الاجتماعي الخاص بالدولة وعقد الخضوع، على فرض أن تأسيس السيادة وتأسيس الحكومة، اللتين أساءوا فهم أساسهما ومسئولياتهما، لا يختلف أحدهما عن الآخر. وكما حاج في الفصل السادس عشر من الكتاب الثالث في «العقد الاجتماعي»، لا تتشكل الحكومة وفقا لعقد، ولا يجوز قط تمرير السيادة التي لا تتجزأ التي للشعب إلى الملك. وعندما اختار جروشيوس إهداء أعظم إبداعاته للملك لويس الثالث عشر، لم يبد أي تأنيب للضمير عندما سلب الناس جميع حقوقهم، بحسب زعم روسو في إضافة ناقمة له في نهاية الفصل الثاني بالكتاب الثاني، الأمر الذي يرسم مقابلة بشكل واضح بين تاريخه الفكري وتاريخ سلفه الخادم لمصلحته بوضوح. قال روسو إن الحقيقة لا تؤدي إلى الثروة، والناس لا يجعلون من أحد سفيرا أو يعطونه كرسي أستاذية في الجامعة، ولا يعطون أحدا معاشا تقاعديا. وبدلا من تحديد دور التأسيس الشرعي للدولة في العملية التي بموجبها يسلم الناس مقاليدهم للملك، كان من الأفضل لو حدد جروشيوس العملية التي يصبح بموجبها الشعب شعبا؛ وذلك لأن في هذا، بحسب تصريح روسو، يكمن «الأساس الحقيقي للمجتمع» (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل الخامس).
كان الخطأ الثاني الذي وقع فيه جروشيوس وأشار إليه روسو، وارتكبه بدوره هوبز وبوفندورف بالمثل ، هو افتراضه أن الأشخاص ربما تنازلوا فرادى أو جماعات عن حريتهم بخضوعهم بإرادتهم لإرادة حاكمهم. على العكس، فإن التخلي عن الحرية تخل عن بشريتنا، بحسب تصريح روسو، وبالتالي نزع للأخلاق من سلوكنا. إن العقد الذي يرسخ، من ناحية، للسلطة المطلقة، ومن ناحية أخرى للطاعة العمياء واه وباطل؛ وذلك لأنه يستقي العبودية من الحرية، ويضع المشارك فيه في تعارض مع نفسه في الأداء المفترض لإرادته الخاصة (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل الرابع). في هذا النقد للعبودية الطوعية، والموجه تحديدا ضد آراء جروشيوس، وافق روسو على الحجة الواردة في الفصل الرابع من «الأطروحة الثانية عن الحكومة» للوك التي مفادها أن الإنسان لا يمكن أن يجعل من نفسه عبدا لأي أحد بمحض إرادته. لكن مصدره الأساسي في هذا الشأن لم يكن لوك نفسه بقدر ما كان جون باربيراك، المشرع الهوجونوتي الفرنسي المعروف ومحرر الكتابات السياسية الأساسية لكل من جروشيوس وبوفندورف، الذي وبخه روسو أيضا في «العقد الاجتماعي» لإهدائه عمله (ترجمته لعمل جروشيوس «عن قانونية الحرب والسلام») لأحد الملوك (جورج الأول ملك إنجلترا)، لكنه تردد ووارب في التعبير عن ذلك تفاديا لإثارة حفيظة سيده. ومن بين الملاحظات الضخمة التي أرفقها باربيراك في نسخته الفرنسية المحكمة لمؤلف بوفندورف «قانون الطبيعة والأمم» المنشور لأول مرة عام 1706، الملاحظة المضافة إلى الفصل الثامن بالباب السابع، التي ألمحت إلى زعم لوك السابق بأنه «ما من إنسان يمكن أن يتنازل عن حريته بحيث يخضع نفسه بالكلية لسلطة تعسفية؛ لأن ذلك سيكون بمثابة تخلصه من حياته التي لا سلطان لنفسه عليها.» في تأملاته النقدية في كل من «خطاب عن اللامساواة» و«العقد الاجتماعي»، كان يدين روسو بالكثير لتعليقات باربيراك على أعمال كل من جروشيوس وبوفندورف، ومن الواضح أن معرفته الأولى على الأقل بلوك تمت في بادئ الأمر عبر تعليقات باربيراك على بوفندورف. وفي «العقد الاجتماعي» تحديدا، قام روسو بتطوير نسخة باربيراك لنقد لوك الشخصي للعبودية الطوعية؛ بغية تحدي أسس الفلسفة السياسية الحديثة التي تم وضعها في القرن السابع عشر، موظفا اصطلاحاتها هنا لكي يضمن الإدراك الجمعي للناس لحريتهم، لا القرار المتعمد لهم بإخضاع أنفسهم للملك. ولقد بنى روسو الكثير من أفكار الحرية والمساواة والسيادة في «العقد الاجتماعي» على خلافه مع جروشيوس وبوفندورف وهوبز.
في قلب هذا التقليد التخميني الطوعي، كما تصوره روسو، استقر الاعتقاد بأن البشر الذين لا سيد لهم كانوا بطبيعة الحال بحاجة إلى دولة لحمايتهم. وكانت ممارسة الحرية غير المقيدة تعرض الأمان الشخصي للأفراد للخطر، بحيث إنه حتى يحصل هؤلاء الأفراد على الأمان الذي اعتبروه - عن حق - أهم من حريتهم، كان يتعين عليهم التنازل عن حقوقهم لسلطة مخولة بموجب القانون وقوة السلاح لحفظ السلام فيما بينهم، علاوة على إبعاد خطر الأعداء. ولم تتطلب المواطنة في الدولة وحسب التنازل الإرادي من جانب كل شخص عن حريته، ولكن لتأسيس التفوق الظاهري للحاكم على الجميع، حولت تلك المواطنة المساواة الطبيعية بين كل البشر إلى تسلط وخضوع سياسيين. في الفصلين الثامن والتاسع من الكتاب الأول ل «العقد الاجتماعي»، حاول روسو أن يقلب كل هذه الافتراضات رأسا على عقب. إن انتقالنا الملائم من الحالة الطبيعية إلى حالة التحضر يجب ألا يكبت حريتنا الحقيقية، بحسب زعم روسو، بل يتعين عليه تحقيقها بتحويل الغرائز لدينا إلى خضوع لقانون نوجبه على أنفسنا. ولا ينبغي أن يؤسس هذا الانتقال مبادئ هرمية للخضوع في تجاوزه لمساواتنا الطبيعية المزعومة. على العكس، فهو يحل المساواة الأخلاقية والقانونية محل لامساواتنا الطبيعية المستندة إلى القوة أو الذكاء وحسب. والصلات التي يشترطها روسو بين هذين المبدأين - الحرية والمساواة - هي التي تمثل أغلب الأفكار المحورية في عمله «العقد الاجتماعي».
وكما أوضح في الفصل الثامن من الكتاب الأول والفصل السابع من الكتاب الثاني من «العقد الاجتماعي»، فإن تأسيس الدولة بالاتفاق المشترك لرعاياها ينتج عنه تغير ملحوظ في الإنسان؛ وهو التحول الذي يوصف هنا فيما يتعلق بأهمية التنازل عن الاستقلال الطبيعي لكل شخص الذي نتج عن هذا التحول، والذي صوره روسو في «خطاب عن اللامساواة» باعتباره خطوة مدمرة أدت إلى الفساد الأخلاقي والرذيلة. وبالزعم أن سوء استغلال الحالة الجديدة للبشر كثيرا ما يفضي إلى أزمة أسوأ من حالتهم الأصلية، ألمح روسو إلى جوهر حجته السابقة، لكنه هنا بدلا من ذلك شدد على الروح المشرفة والسامية لهذا التغيير، عندما يبرم العقد الاجتماعي، ومن ثم يتأسس المجتمع المدني، على النحو السليم. وعوضا عن الحرية الطبيعية التي ربما امتلكها البشر في غياب المجتمع المدني، يكتسب البشر حرية مدنية وأخلاقية؛ ويمكن وصف الأولى بأنها مقيدة بفعل الإرادة العامة، بينما تجعلهم الثانية، بإلزامهم بطاعة القوانين التي شاركوا جميعا في وضعها، أسياد أنفسهم حقا. وبعد أن وصف الحرية الأصلية للبشرية في «خطاب عن اللامساواة» فيما يتعلق بالإرادة الحرة وغياب السيطرة علينا بفعل غرائزنا الحيوانية، كان من الممكن وحسب أن يربك روسو قراءه المتابعين لأعماله بتعريفه الجديد للحرية الطبيعية التي يصورها الآن على أنها عبودية لمثل هذه الغرائز. وعلى النقيض من «الخطاب» الثاني، لا يأتي «العقد الاجتماعي» مطلقا على ذكر الحالة الطبيعية للبشر، وتعليقاته عن الحيوانات على وجه الخصوص قليلة، ولم يذكر الكثير عن خصالها الحميدة كما فعل في مناقشته السابقة.
لكن الغرض من حجة روسو أصبح الآن مختلفا. فقد كان يأمل في إثبات أن المشاركة الجمعية للبشر في الحكم الذاتي من الممكن أن تزيد من حريتهم بشكل كبير يتجاوز ما يكفله الاستقلال الطبيعي للهمج في حالتهم الأصلية، الموصوفة هنا بالمقيدة داخليا بغرائزهم، إن لم تكن مقيدة أيضا خارجيا باعتمادهم على الآخرين، بينما في «خطاب عن اللامساواة» زعم روسو أن البشر البدائيين لم تحكمهم غرائزهم. بخلاف المفكرين المؤمنين بفكرة العقد الاجتماعي قبله، صور روسو عقد الاجتماع الأساسي بين البشر في سياق تحقيقهم طموحات لم تكن لتخطر لهم على بال في غياب هذا العقد، بحيث إن حرية العيش دون الخضوع لسيطرة بعضهم على بعض، التي يستنكرونها بطبيعة الحال، تجلب بعدا إيجابيا آخر عند فقدانها، حيث يكتسب المواطنون شخصيات أخلاقية ومصالح تعاونية لا يمكن أن يتخيلها الهمج المنعزلون. وعلى النقيض من زعم هوبز بأن الحرية في الدولة تتمثل في «صمت» القوانين، التي يقيد إصدار الحاكم لها بالتبعية حرية الأشخاص من خلال إلزامهم بطاعتها، اعتقد روسو أن القوانين والحرية من الممكن أن تمضيا قدما معا شريطة أن يشارك في وضعها أيضا الخاضعون لها، فلا يعلو بذلك الحاكم أو ينفصم عن عموم المواطنين. وبينما الحرية بالنسبة إلى هوبز تستبدل بها السلطة من خلال إحالة البشر حقوقهم الطبيعية إلى حاكمهم، فإن الحرية بالنسبة إلى روسو، شريطة أن يحكم المواطنون أنفسهم، تكتسب داخل الدولة بدلا من أن تصان منها. وبهذا اللجوء للمثل الجمهورية القديمة التي تلزم بقوانينها الإنسان الحر في المدن المتحررة، سعى روسو إلى إعادة تعريف النظرية الحديثة للسيادة بما يناقضها بحيث يتم استحضار ألفاظها لاستعادة ما وضعت من أجل هدمه تحديدا.
إذا كانت الحرية محورية لمفهوم روسو عن الدولة الشرعية، فالمساواة لا غنى عنها لتحصيل الحرية، بحسب زعمه، ولا سيما في الفصل التاسع من الكتاب الأول والفصل الحادي عشر من الكتاب الثاني. وكما شجب الآثار السلبية للتوزيع غير المتكافئ للملكية في «الخطاب» الثاني، فقد عارض بشدة في «العقد الاجتماعي» فرط الثراء وفرط الفقر اللذين يرى كلا منهما «مدمرا للصالح العام» حيث تعرض الحرية في المزاد، فيزيد مشتروها من سلطات الطغاة، ويتخلى بائعوها عن حريتهم طلبا لرفقة الطغاة. ولعل أكثر الأفكار تواترا بإصرار في جميع كتابات روسو السياسية، وبالطبع في حياته الشخصية أيضا، تجلت في رغبته في إنهاء علاقات التبعية والخضوع بين البشر، تلك العلاقات التي تسيطر على الأشخاص وتجعلهم لا يبرحون مكانهم في الحياة، وتدمر حريتهم. إن الاعتماد على البشر، بحسب زعم روسو في الكتاب الثاني من كتابه «إميل» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية)، تمييزا له عن الاعتماد على الأشياء، يتسبب في كل الرذائل، فيفسد السيد والعبد على حد سواء. وعلى الرغم من أن روسو كان على قناعة بأن المساواة لا غنى عنها للحرية، فقد ظل مصرا على أنه يتعين السعي وراءها لذاتها. ورغم حدة نقده للملكية الخاصة، لم يسع قط إلى إلغائها، كما ستحاول أجيال من علماء الاجتماع من بعده؛ وكان سببه في ذلك أنه تصور أن العالم المنزوع منه الملكية الخاصة من الممكن أن يجعل مبدأ المساواة يدخل في صراع مع مبدأ الحرية. فإذا منع الأفراد من حيازة الممتلكات من خلال عملهم وسعيهم، فإن خضوعهم سينتقل وحسب من الأثرياء إلى الدولة، ولن تكبت حريتهم بأقل من ذي قبل. ولأنه اعتبر أن الملكيات المحدودة من الأراضي دليل على اعتماد البشر على أنفسهم، فقد أقر بوجود الجمهوريات الزراعية. وفي «خطاب عن الاقتصاد السياسي» لاحظ أن «الملكية هي أساس العقد الاجتماعي»، مع الإشارة إلى أن الشرط الأول لذلك أن «يكفل لكل شخص حق التمتع تمتعا هادئا بكل ما هو خاص به» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). في الفصل الحادي عشر من الكتاب الثاني من «العقد الاجتماعي» زعم روسو أن فرط الثراء والفقر يجب أن يخضع للسيطرة السياسية، بحيث لا يكون أي مواطن ثريا جدا بشكل يمكنه من شراء مواطن آخر، ولا يعاني أي مواطن فقرا مدقعا فيبيع نفسه. وبما أن «قوة الظروف تميل دوما للقضاء على المساواة»، بحسب ما انتهى إليه روسو، «فإن قوة التشريع عليها دوما أن تميل إلى صونها.»
وشدد روسو هنا على البعد السياسي للمساواة أكثر مما يتعلق بعلاقاتنا الاجتماعية والاقتصادية، فقد زعم أن كل قانون يكون ملزما للمواطنين جميعا دون تمييز؛ حيث لا تميز الدولة بين الأشخاص المشمولين به (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصلان الرابع والسادس). وزعم أيضا من قبل في «خطاب عن الاقتصاد السياسي» أن «أول القوانين هو أن تحترم القوانين» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، مضيفا في «العقد الاجتماعي» أن كل المواطنين يخضعون لتلك القوانين سواء بسواء؛ لأن القوانين بهذا الشكل تتجاهل كل الاعتبارات والاختلافات الفردية التي تهتم بها الحكومة عند تنفيذ تلك القوانين، لكنها لا تسترعي اهتمام المجتمع ككل لها. ولعل استبعاد روسو لأي مزايا أو أضرار فردية ممكنة من تشريعات الدولة هو الذي حدا به أن يعلق على هذا الأمر، في الفصل السابع من الكتاب الأول من كتاب «العقد الاجتماعي» قائلا: «إن الحاكم، بموجب ماهيته، دائما ما يكون ما ينبغي عليه أن يكون»، ولو أن المعنى الذي يرمي إليه في هذا الجزء الذي كثيرا ما يستشهد به ملتبس. لكن اهتمامه بالمساواة المدنية يتضح بجلاء شديد في تأكيده الحماسي على المسئولية المتساوية للمواطنين المتعلقة بالمشاركة الفعالة في المجلس التشريعي الذي له السيادة في كل دولة (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول - الفصل السادس، والكتاب الثاني - الفصل الثالث، والكتاب الثالث - الفصل الخامس عشر). وافترض روسو، شأنه شأن غيره من المؤيدين المعاصرين للديمقراطية التشاركية الذين كثيرا ما يرجعون لمؤلفاته لاستلهام الأفكار، أن سلطة أي حاكم - التي زعم، شأنه شأن جروشيوس وهوبز وبوفندورف، أنها لا بد أن تكون مطلقة - تكتسب صفة الشرعية فقط إذا لعب كل المواطنين دورا نشطا بالكامل في إطارها. وهنا يكمن لب فكرته عن السيادة الشعبية التي تشكل علاقاتها، خاصة بنموذجه المثالي عن الحرية في الدولة، حجر الأساس للمذهب السياسي الذي اشتهر به روسو منذ الاحتفاء به، وكذلك تشويهه، خلال مسار الثورة الفرنسية.
يعد ربط روسو بين كل من الحرية والمساواة والسيادة عنصرا أصيلا بشكل مدهش في كتاباته، الأمر الذي يميز فلسفته عن فلسفة أفلاطون ومكيافيللي ومونتسكيو وغيرهم ممن انشغلوا مثله بالحرية السياسية لا الشخصية وحسب. وقبل رؤية روسو لمفهوم السيادة في «العقد الاجتماعي»، ارتبط هذا المفهوم من قبل مفسريه بفكرة القوة أو السلطة أو الإمبراطورية، وكان يرتبط بصفة عامة بسيادة الملوك على رعاياهم، أيا كانت الطريقة التي اكتسب بها الملوك تلك السيادة، لا بحرية المواطنين. وبالنسبة إلى بودين وهوبز تحديدا - وهما أشهر أنصار السيادة المطلقة قبل روسو - كان مقابل كلمة سيادة، سواء الفرنسي
صفحه نامشخص