الإرث الخفي: روكامبول (الجزء الأول)
الإرث الخفي: روكامبول (الجزء الأول)
ژانرها
وبينما كانت هرمين وأمها سائرين الهوينا في تلك الطريق لملاقاة بيرابو، إذ رأتا جوادا كريما يرعى الكلأ، فدنتا منه فأبصرتا عليه سرجا مزركشا بالخيوط الذهبية على غاية من الدقة في الصناعة، مما يدل على أن صاحبه من أولي اليسار، ثم حومتا بنظرهما لتبحثا عن صاحب هذا الجواد، فرأتا على قمة عالية رجلا فاخر اللباس جالسا على صخر مرتفع، وهو واضع رأسه بين يديه ينظر إلى الأرض نظرا ساهيا وهو غارق في بحار تصوراته، فاختلج فؤاد الأم وقالت في نفسها: لا ريب بأن هذا الفارس هو السير فيليام.
أما هرمين فإنها أنكرت وجود هذا الشاب على مثل هذه الحالة من العزلة التي تدل على منتهى الكآبة، فقالت لأمها: ترى ما شأن هذا الرجل، وما علة انفراده في مثل هذا المكان؟ - ربما كان مصورا يمثل جمال هذه المناظر، فيرتزق منها. - ذلك محال؛ فإن مصورا يرتزق من عمل يديه لا يكون له مثل هذا الجواد، وفوق ذلك إني لا أرى أمامه معدات التصوير. - إذن فهو سائح، وقد استوقفته هذه المناظر البهجة. - لا هذا ولا ذاك يا أماه، بل هو رجل منكود، وقد التجأ إلى هذه البراري لترويح النفس، وللتأمل بعظمة الله.
فارتعشت أمها في البدء ثم اختلج فؤادها بعاطفة سرور وأمل؛ لأنها رأت أن هرمين قد نسيت مصابها، فاشتغلت عنه بمصاب الغير وقالت في نفسها: إذا كان هذا هو السير فيليام فإن مقابلة واحدة تكون كافية في مثل هذا المكان، ولا شيء يؤلف بين القلوب مثل الأحزان.
وقد عزمت أن تجعله أمام ابنتها مثالا للفضيلة كي يروق بعينيها.
وكانت الشمس قد ابتدأت تصفر مؤذنة بالمغيب وهي تلقي بأشعتها الباردة على ذلك العباب، فترقص أشعتها الذهبية على أمواجه الزاخرة، وتدبج الحقول الخضراء بأبهج الألوان. فنهض ذلك الشاب واتشح برداء طويل، ثم ذهب إلى جواده فامتطاه، وسار به إلى جهة سان مالو، ولم تستطع هرمين أن تتبين وجهه، ولكنها قدرت أن تعلم أنه في شرخ الشباب، وظهر لها من مشيته وسهيانه أنه منقبض الصدر شديد الحزن، وما زالت تشيعه بالنظر إلى أن غاب في أعماق الوادي.
وكانت قد اتفقت مع أمها لملاقاة بيرابو، فأوجست خيفة لطول غيابه إلى أن رأت عن بعد نقطة سوداء كانت تدنو منها وتتسع حتى تمثلت بهيئة مركبة، فعلمت أنها مركبة أبيها. ثم سمعتا صوت استغاثة من تلك المركبة، عقبه صوت بارود ارتج له الوادي، فنظرتا فإذا بالمركبة قد وقفت فأيقنتا أنها في خطر، وكانتا واثقتين من أنها تحمل بيرابو، فجعلتا تركضان إلى أن بلغتا إليها، فإذا بالجواد قد سقط ميتا، وبيرابو خارج المركبة يصافح السير فيليام ويشكره الشكر الجزيل، ولما رآهما تقدم منهما وقال: إني مديون لهذا النبيل بالحياة؛ فإن جواد المركبة قد جمح، ولو لم يطلق عليه الرصاص لكانت سقطت المركبة بي إلى الوادي.
وبينما كان بيرابو يقص على تريزا وهرمين ما كان من الجواد، كان أندريا مطرقا بنظره إلى الأرض، إلى أن انتهى من حديثه، فرفع عينيه ونظر إلى هرمين، وصاح صيحة كآبة وانذهال، ثم انحنى عليها مسلما، ووثب مسرعا إلى جواده، فسار به يقطع الأرض نهبا.
فأخذوا ينظرون إلى بعضهم، وكلهم يقول: من هذا الرجل الغريب الأطوار؟
ثم قال بيرابو: يخال لي أني نظرت هذا الشاب قبل الآن.
قالت تريز: وأنا كذلك، ولكني لا أذكر أين.
صفحه نامشخص