فجأة أخرجت المرأة من حقيبة يدها منديلا كبيرا أسود، اندفعت بحركة سريعة نحو كارمن لتغطي شعرها وعنقها وهي تصيح: الحجاب مثل الصلاة واجب عليك! انتفضت كارمن واقفة، خلعت عن رأسها المنديل وقذفت به المرأة، نشب العراك بينهما، نزعت كارمن عن المرأة حجابها، فانكشف رأسها الأصلع أمام الناس.
ضحك رستم حين سمع الحكاية. ظل سميح صامتا واجما، ثم قال: اللعب بالدين في السياسة كاللعب بالنار. القاهرة تعيش فوق بركان مكتوم.
عناوين الصحف ترمقها كارمن بطرف عين: بعض أعضاء مجلس الشورى يؤيدون عقوبات الرجم والجلد وقطع يد السارق وتحريم شرب الخمر، أربعة عشر من الشباب المهاجرين يغرقون في البحر قرب شاطئ برشلونة، الفتاة الشابة تقدم للمحاكمة بتهمة القتل والحمل السفاح وانعدام مشاعر الأمومة ... انهيار الأخلاق في عصر الديمقراطية والإصلاح.
يرمقها زوجها رستم بطرف عين، يتبادلان النظرات من تحت الجفون نصف المغلقة، يتبادلان الاتهامات دون صوت، في الليل يتبادلان العناق في صمت، أصبح للزوجة حاسة شم أقوى من الكلاب، تعرف رائحة المرأة الأخرى، خاصة رائحة الفتاة، عطر الصابون الرخيص في الأسواق، وغسول الشعر الشامبوه من أرخص الأنواع، مع قطرات العرق والتعب، وذرات الشراب في الزقاق المسدود بحي السيدة. •••
يتألق سطح البحر عند شاطئ برشلونة، تتمدد الأجسام تحت أشعة الشمس الذهبية، ترتدي الفتاة المايوه الأبيض من قطعتين، تسبح تحت الماء كالسمكة الفضية، مياه البحر دافئة في الربيع، نسيت الفتاة حياتها الماضية، تلاشت الوجوه من ذاكرتها، إلا وجه القاضي الجالس فوق المنصة في المحكمة، يدق بالمطرقة فوق المنضدة.
كل شيء في برشلونة يتفتح في شهر الربيع والزهور، عيون القطط المغمضة، عذراوات الشرق والطيور المهاجرة، السماء زرقتها شفافة، سحابة واحدة داكنة تخفي وراءها العين الساهرة التي لا تنام، تراقب سلوك البنات، لا ينافسها في يقظتها إلا عين إبليس، تتخفى أيضا وراء السحابة.
تراقب الفتاة السحابة وهي تزحف، تقترب بحذر من رأس كريستوفر كولومبس، من ورائه الجبل اليهودي، لا يرتفع إلى رأس التمثال الشامخ، في شارع الرامبلا، تتمشى الفتاة بين أكشاك الزهور، تحرك ذراعيها وترقص على لحن تعزفه مجموعة من الشباب تقوم بأعمال بهلوانية، تطير في الهواء مثل عصفورة، تنثني على الأرض مثل قطعة من العجين، في المقاهي يجلس الرجال والنساء، يرشفون النبيذ والبيرة المثلجة، تلمع عيونهم تحت ضوء الشمس، يأكلون على مهل من صحون تتصاعد منها رائحة السمك المشوي وقواقع البحر.
ترتدي الفتاة قميصا ربيعيا خفيفا وبنطلونا أسود واسعا، تنتعل حذاء كاوتش، تجري تسابق الريح، من ميدان كاتالونيا حتى شاطئ الأولمبيك، رائحة العشب واليود تعيدها إلى شاطئ سيدي بشر، كانت تسبح بجوار سميح، يسبقها إلى صخرة ميامي، تحبه داخل البحر أكثر مما تحبه وهو يمشي فوق الأرض. أما هي! لم تعرف البحر في طفولتها، ولدتها أمها بين الجدران السوداء، مسقط رأسها قطعة من الأسفلت.
بعد العشاء يسيرون هم الأربعة في شارع النيل - رستم وكارمن وسميح وهي - مروا بواحدة من بنات الليل، واقفة تستند بجسمها الناحل إلى عمود النور، عيناها المكحلتان تتسعان لحزن الكون، رمقها رستم وسميح بنظرة طويلة من الساقين إلى النهدين، مزيج من الشهوة والإشفاق.
قالت كارمن: ينجذب الرجال إلى بنات الهوى، من الإله آمون حتى سيدنا موسى وعيسى ومحمد.
صفحه نامشخص