وكانت هي ليلة المولد، يعود إليه صوت أبيه يشبه صوت جمالات وهو طفل صغير، كرم الله الرسول محمد في بطن أمه، رأت أمه في المنام كأنما خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وقيل لها إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد. وقال أبوه إنه رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في الأرض، وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور.
وتتسع عيناه الكبيرتان كعينيه وهو طفل، مع دوائر النور الساقطة من السقف، ورائحة البخور والصندل المحروق والند، وظلال الأشباح المنكسة على الجدران، والتمتمة الهامسة بالآيات المقدسة، والإحساس الطاغي بالإثم، يضم ركبتيه وهو جالس فوق الشلتة، كما كان يفعل وهو طفل في الفراش، يتكور كالقنفذ حول نفسه، يستشعر اللذة والخوف من الله، والحنين إلى أمه، تتجسد أمامه على شكل أختها التوأم، يعود جنينا في بطنها، تهمس في أذنه، أعوذ بالواحد من شر حاسد، رأيت في المنام كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهري، لها طرف في السماء، وطرف في الأرض، ثم أصبحت شجرة على ورقة منها نور، ستكون يا رستم سيد هذه البلاد تنقذها من الطغيان والفساد.
وتذكر رستم حلم طفولته، كان يرى نفسه نبيا حملت به أمه تنفيذا لأمر الله، من أجل إنقاذ العالم، أراد أن يدخل الجيش ويتدرب على السلاح، لم يكن يحب القتل ومنظر الدماء، كان عقله مرتبا يميل إلى التفكير العميق، وقراءة كتب الفلسفة والروايات، لم يستطع إنقاذ العالم عن طريقة الفلسفة ولا كتابة القصص ... وقال سميح: لا يمكن إنقاذ العالم إلا عن طريق مجلس الشورى أو النواب. •••
لم تدخل مريم الشاعرة هذه المجموعة، لم تكن تبحث عن الروح، تجمعها بجمالات صداقة قديمة منذ الطفولة، عرفت جمالات الحرمان والشقاء والاغتصاب، كانت طفلة في الحادية عشرة حين أصبحت أما لطفلة غير شرعية، لم تنظر في وجهها بعد أن ولدتها إلا لحظة خاطفة، انحرفت فيها عيناها إلى الأبد، تراهما وهي في غيبوبة النوم، وتراهما وهي تمشي في الشارع، أي شارع وأي زقاق، حين تلتقي عيناها بأي طفل أو طفلة. لم تلجأ إلى الله أو الصلاة من أجل الغفران، بل بهدف النسيان، من دون جدوى، بقيت العينان في عينيها ثابتتين، قاطعتين كحد السكين، وإن أغرقت عقلها بالنبيذ، وأحرقت صدرها بالدخان، وداست على قلبها بالحذاء، ونامت مع النساء والرجال، وضحكت وقهقهت وتهتكت وتعرت وتحجبت وفعلت الخير أو الموبقات، تظل العينان في عينيها كأنما أصبحت جزءا منهما أو كأنما هما عيناها.
وتبتلع مريم الشاعرة دمعة كبيرة حبيسة، تخفي بيدها عينيها لحظة طويلة كأنما نامت، تتحرك يدها قليلا من شدة الإعياء، تظهر عين واحدة، واسعة وحمراء، شاخصة إلى السماء ثابتة لا يطرف لها جفن، كأنما بلا جفون ولا رموش، كأنما احترقت جفونها ورموشها من البكاء، تكاد تشبه عين الفتاة المحروقة بالكبريت والجاز.
تنحدر الدمعة الحبيسة فوق وجه مريم الجالسة مثل تمثال، لا شيء يتحرك فيها إلا شفتاها ... جمالات صديقة عمري، أحبها بجنونها، وهي مشعوذة مثل قارئات الكف والفنجان، وضاربات الودع والكوتشينة، قرأت في المدرسة وهي طفلة شيئا في علم النفس، تدربت على أن تلمس في الناس نقطة الضعف، تعزف عليها مثل الوتر المشدود في العود، تحاول من خلال المجموعة أن تكسر قوقعة الحزن، أن تحطم جدران الخوف، أن تطلق سراح ذاكرتها الطفولية، أو روحها الحبيسة.
رنت كلمة «روحها» في أذن الفتاة، اتسعت عيناها بذهول كأنما تصحو من نوم طويل عميق، ترددت الكلمة في رأسها: روحها، روحها. أتؤمن مريم الشاعرة بوجود الروح؟ ترى السؤال في عينيها، تواصل كلامها كأنما سمعتها. - الروح هي الحرية، نحن ننشد الحرية منذ الولادة حتى الموت، نحن ننشد الحرية في الحب وفي الكره، حتى يصل الجسد إلى قمة اللذة أو قمة الألم، تنطلق المعرفة الحبيسة في العقل على شكل الصرخة الممدودة إلى الأبد، لا تختلف صرخة اللذة عن صرخة الألم، فالهدف واحد، الانطلاق من القيود والأغلال المزمنة منذ الأزل.
وتنهدت مريم الشاعرة تنهيدة عميقة، وأنشدت بصوت الحالمة في النوم، قدماها ممدودتان على حافة السور الخشبي للسفينة على شاطئ النيل:
الحرية هي المعرفة،
والهدف من كل شيء،
صفحه نامشخص