إلا واحدة منهن أكثر سذاجة، كانت في الخامسة عشرة من عمرها، طفلة بريئة من الريف، حين يزورها رستم في الليل تظن أنه الإله، وهي العذراء الطاهرة، تحمل نطفته المقدسة في رحمها، لم تفقد براءتها إلا بعد أن ولدت الطفل، حملته فوق صدرها وذهبت إلى سيدها تزف النبأ، طردها من القصر في جاردن سيتي هي وابنها، أصابتها الصدمة بهبوط في القلب، ماتت وتركت الطفل لرعاية الله، أصبح يقضي الليل والنهار فوق الرصيف، تحت قبة السماء بلا غطاء ولا طعام، مثل أطفال الشوارع، أصبح يسرق ليأكل، ويشم مع الشمامين من أجل النسيان، لم يبق بذاكرته إلا اسم أبيه والعنوان، كانت أمه قبل أن تموت قد اعترفت بالحقيقة، حين أدركه الوعي ذهب إلى أبيه يطلب الرعاية، منعه الحراس من الدخول، صفعه أحدهم على قفاه، ضربه الآخر في بطنه، فسقط على الأرض، حوطه البوابون والسفرجية والخدم، جاء رجال الآمن، وحملوه إلى القسم، كان يلعن الدنيا والدين، ويكيل السباب لأبيه وأم أبيه التي ولدته من ضلع أعوج، ضربه رجال البوليس ووضعوه في التخشيبة. - اسمك إيه يا ولد؟ - محمد إدريس ابن رستم باشا. - اخرس يا ابن الشرموطة. - أمي كريمة وأبويا هو الشرموط.
لم تكن كلمة «شرموط» مألوفة في اللغة، فهي في الأصل مؤنثة غير قابلة للتذكير، وانتشرت الحكاية في المدينة، تلقفها المنافسون لرستم في مجلس الشورى، كان موسم الانتخابات على الأبواب، تسبقه فضائح المرشحين والمرشحات، ظهرت منشورات مجهولة المصدر بعنوان القرموط (على وزن الشرموط)، وكان محمد إدريس قد خرج من السجن، أخذوه في حزب المنافسين لأبيه، يحملونه معهم في جولاتهم الانتخابية، كان نسخة طبق الأصل من أبيه: الوجه، الجبهة، العينان، الحاجبان، الأنف، الشفتان، القامة، الصوت بالبحة الذكورية الجذابة للنساء، وما إن يظهر محمد إدريس أمام الناخبين حتى يهللون: «رستم باشا» طبق الأصل، وأمه كريمة بنت الدايرة، كان مرشح الدائرة يضرب عصفورين بحجر واحد، غريمة الأول رستم، وغريمته الأخرى كريمة، إحدى الصحفيات من زميلات جمالات، يقولون عنها بنت الدايرة، تعني باللغة العامية ابن امرأة «دايرة على حل شعرها، أي عاهرة» وتعني باللغة الفصحى «ابنة الدائرة»، الانتخابية للمجلس الموقر. •••
وكانت كارمن تتابع الحملة من بعيد، لم تكن تعرف أن لزوجها ابنا غير شرعي، حكى لها عن مغامراته قبل الزواج، إلا حكاية كريمة التي أعطت الطفل اسم أبيها إدريس وأضافت إليه اسم محمد، بأمل أن يضفي اسم النبي على ابنها الشرف والشرعية، دون جدوى ... ظل محمد إدريس فاقدا الشرف والشرعية حتى مات، بعد انتهاء الانتخابات، صدمته سيارة وهو يجري في الشوارع يوزع الصحف والمجلات، سقط تحت العجلات، من حوله تناثرت الأوراق، غارقة في الدم والحبر، وصدى صوته يردد: أهرام أخبار جمهورية وخطبة الرئيس في العيد. •••
في الليل يدفن رستم رأسه في صدر كارمن، يحاول أن ينسى وجه ابنه، والمنشور الملزوق فوق الجدران على الورق المصقول: انتخبوا القرموط، السابح مع التيار في كل العصور، من الاشتراكية إلى الخصخصة إلى القصقصة وكتابة الروايات، الشديد الجاذبية للنساء، من ملعب الجولف إلى حرب الخليج وخريطة الطريق، من البورصة إلى إسرائيل إلى مكة، يمسح ذنوبه في موسم الحج، وفي شهر رمضان يزكي عن أمواله بموائد الرحمن.
تحوطه كارمن بذراعيها، تهدهده كالأم، لم تكن تؤنبه، ولم يكن يعتذر عن شيء. يقول لها، وهو في حضنها: الخيانة الزوجية ليست خيانة، فالرجل كما خلقه الله لا تكفيه امرأة واحدة، لا يذكر الله إلا في هذه الحالة حين تكتشف زوجته القصة الجديدة، وكانت كارمن تعرف متى تكون البداية، يبدو رستم مهموما مملوكا للشعور بالإثم، يتعمد أن يؤلمها حتى تغضب، لتنفجر بالغضب وتلعن اليوم الذي عرفته فيه، يتراخى جسده ويسقط في نوم عميق، يصحو خفيفا كأنما تخلص من العبء. تقول له كارمن: اسمع يا رستم، أنا سئمت هذه اللعبة، عليك أن تتحمل آثامك ولا تحملني أنا مسئولية تطهيرك منها. يحملق في وجهها كأنما يراها لأول مرة، يفزعه أن تكشف عن أعماقه الخفية، يدخل في حضنها كالأم، يدفع وجهه في صدرها ويجهش بصوته المتحشرج: اغضبي مني يا كارمن، طهريني من ذنوبي لأحبك أكثر، ثم يضيف بلا صوت، ولأكرهك أكثر.
تدفعه بيدها بعيدا عنها ثم تشده إليها، تنجذب إليه وتنفر منه في آن واحد، ينهض من الفراش ويجلس بجوارها ينفث الدخان إلى السقف، ثم يرتدي ملابسه ويخرج، كان يلتقي بالفتاة إن لم يجد امرأة سواها، إن غابت أو تمنعت يجول بالمرسيدس في شوارع المدينة، يلتقط واحدة من بنات الهوى، يحملها إلى الشاليه في صحاري سيتي، يفرغ فيها الغضب والهوان، يضغط بأسنانه على شفتيها حتى تنزف، يعضها في كتفها مثل كلب مسعور، إن تأوهت يضربها بقبضة يده، في صدرها وبطنها، تتوهج ذكورته بازدياد أنينها، يتحشرج صوته هامسا في أذنها، خديني يا لبوة، وتصعد الفتاة فوقه وتأخذه بالقوة كما يأخذ الرجل المرأة ... كانت جمالات تقول: لا يشعر الرجل باللذة إلا مع امرأة تؤلمه، يتلاشى الفاصل بين الألم واللذة. وتقول مريم الشاعرة: المرأة مثل الرجل تتأرجح بين الخضوع والاستبداد إلا النساء اللبؤات، الأكثر قوة من الأسد. •••
كان يوما من أيام الشتاء الممطرة، تتحول الأزقة في حي السيدة إلى برك صغيرة، تختفي الفئران والصراصير داخل الشقوق، ويأوي الناس في الشقق المغلقة منذ الغروب، كانت الساعة تجاوزت منتصف الليل، الظلمة كثيفة بلا قطرة ضوء، هبت الفتاة من نومها على الصرخة، رأت جمالات واقفة عند الباب بملابس الخروج، وجهها متهدل شاحب بلا مساحيق ولا حاجبين، تلطم خديها بيديها الاثنين: ليه يا رب؟ ليه يا رب؟! - حصل إيه يا جمالات؟!
لم يكن هناك وقت للإجابة، انطلق بهما التاكسي يشق الأزقة الغارقة في الوحل والظلمة، يلعن السائق الدنيا والدين، جمالات صامتة على غير عادتها، الفتاة جالسة إلى جوارها غارقة في أفكارها، توقف التاكسي داخل زقاق في مدينة الموتى أسفل جبل المقطم، لم تستطع السيارة التحرك إلى أكثر من ذلك، هبطت جمالات ومن خلفها الفتاة، غاصت أقدامهما في الطين من زقاق إلى زقاق، ثم توقفت جمالات أمام شق في الجدار، أخرجت من جيبها منديلا وضعته فوق أنفها، كانت الرائحة غير محتملة، تشبه اللحم المشوي مع العظام والشعر والأظافر والجلد، في المدخل كانت امرأة واقفة ترتدي خيمة سوداء، عيناها تطلان من الثقبين الغائرين في السواد، إلى جوارها رجل داخل جلباب أبيض طويل، وثلاثة رجال بملابس البوليس، تقدم أحدهم نحو جمالات، يسلط على وجهها كشاف النور: إنتي أمها يا مدام جمالات؟ - أيوه.
نطقت الكلمة أيوه كأنما تلفظ النفس الأخير، تساقط جسدها إلى الأرض، رفعوها لتنهض واقفة، بدأت تنقل القدم وراء القدم وهم يسندونها، تتوقف مترددة تلتقط أنفاسها، من خلفها الفتاة تتحرك كمن في النوم، الظلمة شديدة إلا من ضوء الكشاف الصغير على شكل دائرة صفراء، سقطت فوق كتلة متفحمة بحجم الطفل المولود، إلى جوارها كتلة أخرى أكثر تفحما أكبر حجما، شعر رأسها محروق، لم يبق من وجهها إلا العظام، احترقت بعض أجزائها وانطفأت داخل بركة من الماء والطين، إلا شيء واحد كالجمرة تحت الرماد، بلون الدم الأحمر، يلمع في الظلام، عين مفتوحة بلا رموش ولا جفون ترمقهم دون أن تطرف. •••
رقدت جمالات في الفراش ليل نهار، لا تخرج إلى مكتبها ولا تقابل الزوار، نشرت إحدى زميلاتها القصة باسم مستعار، وهي قصة شائعة متكررة، الابنة غير الشرعية تخلصت منها أمها، تركتها أمام باب الجامع، التقطها رجل من الزبالين عاشت البنت داخل القمامة كالجرذان، قفز عليها الذكور منهم قبل أن يدركها الوعي، أصبحت أما وهي طفلة، أفزعتها الحقيقية إلى حد الموت، بإرادة الله، أو بعود كبريت.
صفحه نامشخص