لا يقاس العمر بالأعوام والسنين، قد تساوي لحظة الحب في ضوء القمر، ألف عام.
يتسرب ضوء القمر إلى جسدها من تحت الثوب الخفيف، كانت راقدة فوق الرمال، عيناها شاخصتان إلى السماء، ترقب القمر يختفي وراء السحابة ومعه الرب، إلى جوارها يرقد جسد شخص لا تعرفه عن يقين، ربما هو رستم أو شخص آخر من الاثني عشر، عاريا كما ولدته أمه، قطرات العرق تلمع فوق ظهره تحت ضوء القمر، كأنما هي فصوص من اللؤلؤ. يعود إليها صوت مريم تتغنى: لحظة الحب في ضوء القمر تساوي ألف عام، أعذب الحب أكذبه مثل الشعر.
وكانت مريم تقول الحب مثل الشعر يعلو فوق الصدق والكذب، لا توجد فضيلة ولا رذيلة في الشعر والحب، ولا خير ولا شر، ولا إله أو شيطان، إن أراد الرب أن يهبط إلى الأرض فسوف يكون شاعرا غارقا في الحب مثل قيس مجنون ليلى، يعارضها سميح ويقول إن أراد الرب أن يهبط إلى الأرض فلا بد أن يهبط على شكل رغيف الخبز وإلا أعرض عنه الملايين، أما كارمن فكانت تقول، لو كان هناك رب في السماء فسوف لا يموت الأطفال من الجوع أو في الحروب ... يبتسم رستم في إعياء ويقول: أتمنى أن يهبط الرب على شكل النائب العام ليقبض على المسئولين وأعضاء مجلس الشورى.
في القاعة الفسيحة كانت مريم تنشد قصيدتها، آلاف العيون تتطلع إليها، تتغنى بالحب مثل كوكب الشرق، تخفق القلوب مع النبض في عروقها، تلتهب كفوفهم بالتصفيق، ترتج أجساد الرجال والنساء بالنشوة، ينزعون عن رءوسهم كل الأغطية، طرابيش وبرانيط وأحجبة وعقالات وطاقيات من أرض الحجاز، وعمائم بيضاء ملفوفة حول رءوس الشيوخ، وسوداء اللون مما يرتديها القس في الكنائس.
كانت مريم تتألق تحت الأضواء، مرتدية ثوبها الأخضر المزركش بزهور الياسمين البيضاء، حول شعرها الأسود الغزير عقد من اللؤلؤ، حول عنقها الطويل عقد من الفل الأبيض، يتنافس على حبها الرجال والنساء، كانت زاهدة في كل شيء إلا الشعر، محصنة ضد الإغراءات في أي حزب، رفضت دخول مجلس الشورى والمجلس الأعلى للشعراء، وجوائز الرئيس والتفوق، يتطلعون إليها كالنجم في السماء صعبة المنال، امتلاكها من المحال.
ترمقها جمالات بحسد، تقول عنها ملحدة مصيرها نار جهنم، تضحك مريم وتسألها: وانتي مصيرك إيه يا جمالات؟ تؤكد جمالات أن مصيرها جنة عدن خالدة فيها إلى الأبد، تمط الفتاة شفتيها حين تسمع كلمة إلى الأبد، كانت النساء الثلاث جالسات في كازينو السفينة على شاطئ النيل، ترشف مريم النبيذ مع حبات الفول السوداني، تكسو عينيها دموع حبيسة، تلمع تحت ضوء القمر، تعود إليها صورتها وهي طفلة، كانت في العاشرة من عمرها حين فتحت عينيها في ظلمة الليل، رأت أمها واقفة منتصبة داخل ثوبها الأسود، لم تكن ترتديه إلا في الكوارث.
وتسألها جمالات وهي منتشيه بعد الكأس الرابعة أو الخامسة. - كوارث زي إيه يا مريم في حياة الست والدتك؟ - مثلا موت أمها اللي كانت جدتي، أو انتحار أختها اللي كانت خالتي، أو دخول أبوها السجن اللي كان جدي، أو قيام الحرب، أو خناقة كبيرة بينها وبين جوزها. وتسألها جمالات بلسان ثقيل وعقل نصف غائب: وجوز أمك كان أبوك؟ - أيوه، وكان دايما يتخانق مع أمي على أقل حاجة، لو أنها بصت من الشباك، لو أنها اتنهدت أو نسيت ورسمت على صدرها الصليب ... أصلها كانت قبطية وهو مسلم، دبت بينهم خناقة كبيرة ليلة ميلادي، أبويا صمم يسميني «خديجة» على اسم السيدة خديجة أم المؤمنين، أمي صممت تسميني «مريم» على اسم العذراء الطاهرة، استمرت المعركة بينهم وأنا في اللفة ستة أيام، في اليوم السابع عملوا هدنة مؤقتة، ومعاهدة صلح، على أساس إن أبويا يسمي الأولاد، وأمي تسمى البنات، أبويا تصور إنه خرج منتصرا من المعركة، لأن الولد أهم من البنت عند الله بحسب الآية «وليس الذكر كالأنثى»، وأمي تصورت إنها انتصرت على أبويا، لأن مريم لها سورة كاملة في القرآن، هي الوحيدة من دون نساء العالمين ذكرها الله في القرآن باسمها، حتى السيدة خديجة أم المؤمنين ربنا ما جبش سيرتها في آية واحدة.
كان النصف الثاني من عقل جمالات قد غاب من الكأس التاسعة أو العاشرة، يصبح لضحكاتها رنين في الجو مثل الآنية الفضية المجلوة، ومريم تشاركها الضحك ورأسها مرفوع في ثقة بالنفس، إلى جوارهما تجلس الفتاة منكمشة حزينة، لم يكن لها أب وأم يتعاركان حول اسمها، لا أحد يذكر اسمها، وهي نفسها تنساه، حتى سمعت الطبيب في برشلونة يناديها نورية، رن اسمها في أذنها جميلا، نورية، اسم نادر مثل قطرات المطر في الصحراء، وسألها الطبيب عن اسم ابنتها، قالت ستحمل ابنتي اسم أمها نورية كما يحمل زباتيرو اسم أمه. •••
في برشلونة تتفتح الزهور في الربيع، يتغير الطقس في الفصول، في الخريف تتساقط الأوراق عن الأشجار، قبل أن تسقط تكتسب جميع الألوان، الأحمر والأصفر والأخضر والبرتقالي والذهبي والفضي والزمردي والياقوتي والمرجاني، يتغلب الأحمر متفجرا يملأ السماء بحمرة الدم، والأرض تصبح مفروشة بألوان الطيف.
تدوس الفتاة فوقها وتمشي، تتحرك الأوراق الملونة تحت قدميها مثل الكائنات الحية، تتلوى تنثني تنتصب يشتد لمعانها تحت أشعة الشمس، تعلوها قطرات الندى ورذاذ المطر الخفيف في الربيع.
صفحه نامشخص