جلست الفتاة في المقعد الأمامي إلى جواره، تحركت المرسيدس في نعومة مثل سفينة بيضاء تنزلق على الماء، موسيقى خافتة تنبعث من مكان ما، استرخى جسمها المرهق داخل المقعد المريح، زجاج النافذة عن يمينها مزدوج متين، يحجب عنها الضجيج، تبدو القاهرة في الخارج كالبحر المتلاطم الأمواج، زحام البشر والسيارات والدراجات والموتوسكلات، تموج المدينة بالحركة تراها دون أن تسمعها، كالصور المتحركة في فيلم قديم، قبل أن تصبح السينما ناطقة. عن يسارها ترى وجهه من الجانب، «البروفيل»، جبهته عريضة ملوحة بالشمس، عظمة الأنف قوية مملوءة بالثقة، شفتاه مطبقتان في استغراق، عيناه شاخصتان إلى الطريق فيما يشبه الشرود، جذور الشعر في وجهه نابتة لم يحلق منذ أيام.
يتبادلان الكلمات القليلة من حين إلى حين، يتابع أدب أمريكا اللاتينية، الرجال منهم والنساء يعتبر إيزابيل أليندي في مستوى جابرييل جارسيا ماركيز، تستحق جائزة نوبل، لو أن هناك عدالة.
فجأة رأتها تمشي في الشارع، جمالات، قبل أن تنحرف السيارة يمينا في شارع قصر العيني إلى جاردن سيتي، كانت خارجة من محل البقالة على الناصية، يتدلى من يديها كيسان كبيران من البلاستيك الأسود، رأسها ملفوف بطرحة بيضاء، ظهرت صورتها أمامها فجأة كأنما تخرج من بطن الأرض حيث كانت تعيش معها في الماضي السحيق.
توقفت السيارة أمام فيلا بيضاء اللون تطل على كورنيش النيل، باب الحديقة الحديدي تتدلى فوقه فروع شجرة البوجانفيليا الحمراء دم الغزال، رائحة الياسمين والفل، والممر الطويل حتى باب البيت، في المدخل بهو له أعمدة حجرية منقوشة، تتدلى من السقف نجفة كبيرة لمباتها الصغيرة كثيرة كالنجوم، فوق الجدران لوحات وصور داخل براويز ذهبية، صالة صغيرة تقود إلى صالة كبيرة، ثم صالة أخرى بها المائدة، الشموع فوقها مضاءة، سفرجي أسود الوجه بلون الليل، ثوبه أبيض كالثلج، حزامه أحمر من القطيفة، يرص الكئوس البلورية والملاعق والشوك والسكاكين الفضية.
كانت كارمن، في غرفة المكتبة، ممدودة فوق الأريكة الجلدية تقرأ، من حولها صفوف الكتب تطل من وراء الزجاج تتصاعد حتى السقف، سجادة عجمية مزركشة من الصفوف الناعم تلين تحت حذائها.
نهضت كارمن بحركة بطيئة تتمطى، بدت طويلة القامة ممشوقة أنيقة نضرة مستريحة، الفتاة منكمشة داخل ثوبها القديم وحذائها المعفر بالتراب وحقيبتها الباهتة تفوح منها رائحة الزيتون المخلل وساندويتش الجبنة.
غمرها شعور بالخزي، كارمن صافحتها على نحو طبيعي، فتح رستم زجاجة النبيذ، تصاعدت رائحة الشواء من غرفة الطعام، أصابها حزن يشبه الحنين إلى جو الأسرة الحميمة داخل بيت من الطمأنينة.
جلست كارمن على رأس المائدة، عن يمينها جلس رستم، والفتاة عن يسارها، بدت كارمن رب البيت، بدا رستم إلى جوارها منطفئا، وأكثر شرودا.
دار الحديث حول الندوة ورواية إيزابيل أليندي، والناقد المعروف. ضحكت كارمن، وقالت مالوش في الأدب، ثم سألتها، هل أنت من الكاتبات الشابات الجديدات؟ هزت رأسها علامة النفي. - أنا مش كاتبة يا أستاذة. - أرجوك بلاش أستاذة دي. - أنا مش كاتبة. - ناقدة؟ - ولا ناقدة. - أمال إيه؟ - ولا حاجة.
تأملتها كارمن طويلا بعينيها الكبيرتين، من القدمين إلى الرأس، نظرتها تكاد تشبه جمالات، حين تفتش بعينيها في جسمها عن شيء يجذب العين، لم تجد شيئا ذا بال، فانسحبت نظرتها إلى زوجها، كأنما تراه لأول مرة، تفحصه جيدا بعينيها البراقتين، توقفت نظرتها عند ربطة العنق الزاهية الألوان، مربوطة بعناية شديدة، لا يربطها بهذا الاهتمام إلا في مناسبات معينة، في موسم الانتخابات وموسم الربيع حين تتفتح الزهور ويخفق الشيء تحت الضلوع.
صفحه نامشخص