أنا مريم الشاعرة،
خرجت كالزرع من بطن الأرض،
لا أسرة ولا أم ولا أب،
لا وطن ولا عشيق ولا زوج،
إلا الشعر!
جالسة في كازينو النيل، تحس جسدها يرتفع فوق المقعد، ومعه روحها وعقلها، كأنما قوة مجهولة ترفعها فوق السفينة والنهر، فوق أسطح البيوت والعمارات العالية، فوق مدينة القاهرة وحقول الدلتا، تغمض عينيها كأنما في النوم، تحلق في الفضاء دون أجنحة، تطير فوق السحاب، فوق مياه البحر الأبيض المتوسط، ترسو على شاطئ جديد لا تعرف اسمه، كل شيء من حولها جديد حتى وجهها.
تنظر إلى وجهها في المرآة، ليس هو الحزين القديم، تهبط السلالم جريا تلتهم الباييلا الساخنة، تجتاز شارع كولومبس، تسير في الرامبلا بين الزهور وأسراب الشباب، تدخل من شارع إلى شارع، تتأمل المباني التي تشبه المتاحف، لا بيدريرا، بالوجويل، كازاميلا في شارع جراسيا، الفنان أنتونيو جاودي مات منذ سنين، لكنه يعيش في كل عمل تركه وراءه، حتى البناء الضخم الجديد، يسمونه «ساجرا فاميليا» مات قبل أن يكمله.
في المكتبة الكبيرة خلف ميدان كاتالونيا تقضي الساعات، تقرأ قصة دون كيشوت، أشعار كارلوس باربل ولوركا، تتأمل لوحات بيكاسو، وسلفادور دالي، وجون ميرو. قبل العودة إلى بيتها تسير إلى شاطئ الأولمبيك، تخلع ملابسها إلا المايوه الصغير، لا يخفي عن أشعة الشمس إلا شعر العانة الأسود، تأخذها أناجيل إلى شاطئ آخر لا يرتدي فيه الناس المايوه، تسري الأشعة الذهبية الدافئة إلى الجسد كله، نساء ورجال يسبحون في البحر كالأسماك، يتمددون تحت الشمس دون غطاء، لا أحد ينظر إلى أحد، يتحركون على نحو طبيعي، كما ولدتهم أمهاتهم، أقدامهم تترك على الرمال علامات متشابهة، لا فرق بين ذكر وأنثى وفقير وغني وملحد ومؤمن وأسود وأبيض.
تنهيدة طويلة تخرج من أعماقها، راقدة فوق ظهرها تتلقى شعاع الشمس، يتخلل ثنايا جسدها ويفتح المسام المسدودة، منذ آلاف السنين، منذ الفرعون الأول حتى الفرعون الأخير، يطاردها وجهه في النوم، تتسرب صورته في الجريدة من تحت عقب الباب، تلتقطها جمالات بأطراف أصابعها من فوق البلاط، كأنما تلتقط صرصارا ميتا، تمر بعينيها نصف المغلقتين على الصورة في الصفحة الأولى، تفتح فمها الواسع تتثاءب، تطقطق عظامها بصوت مسموع، وتقول: الطاغوت ربنا يأخذه ... يا رب!
ثم تلقي بالجريدة على الأرض، تدوس عليها بكعب شبشبها البلاستيك كما تدوس على الصرصار. كانت الشقة مليئة بالصراصير، مثل غيرها من الشقق في حي السيدة، تنتمي إلى فصيلة الحشرات الزاحفة، تطورت عبر الزمن وأصبح لها أجنحة مثل الفراشات، لونها أسود أو أصفر داكن كالحديد الصدئ، تتغذى بالبراغيث والنمل والجبن والزبدة، تدخل البالوعة وتسبح في الماء دون زعانف، شواربها مثل قرون الاستشعار، تعرف رائحة الطبيخ الحامض، تمر عليه دون أن تأكل، تجذبها رائحة المسك في وسادة جمالات، قبل أن تنام تخلع شبشبها البلاستيك، تنهال فوق الصراصير، تضربها واحدا وراء الآخر، وهي تصرخ: إلهي تأخذ الصراصير يا رب ... ومعاهم الطاغوت.
صفحه نامشخص