جيوب مثقلة بالحجارة
فرجينيا وولف: النشأة والمأساة
رواية لم تكتب بعد1 (1921م)
حوار لم يتم مع فرجينيا وولف
المصادر والمراجع
جيوب مثقلة بالحجارة
فرجينيا وولف: النشأة والمأساة
رواية لم تكتب بعد1 (1921م)
حوار لم يتم مع فرجينيا وولف
المصادر والمراجع
فرجينيا وولف ... رواية لم تكتب بعد
فرجينيا وولف ... رواية لم تكتب بعد
تأليف
فرجينيا وولف
ترجمة
فاطمة ناعوت
يلزم أن تحددي خانة بيضاء
على مسافة معقولة
من حصوات رابضة في قاع النهر،
حصوات
ترقب الواقفة على الشاطئ،
مشجوجة الرأس،
تسمي الأشياء بأسماء جديدة
لأن معجمها - الذي جلبته من التبت -
لا يناسب سكان المدينة.
ف. ناعوت
من قصيدة «جلباب أزرق»
تصدير المراجع
بقلم د. ماهر شفيق فريد
يلتقي القارئ - على الصفحات التالية - بثلاثة نصوص: «رواية لم تكتب بعد»، وهي رواية قصيرة - أو نوفيللا - للروائية الإنجليزية فرجينيا وولف،
1
ومحاورة تخيلية مع المؤلفة، وتقدمة بقلم المترجمة تحمل عنوان «جيوب مثقلة بالحجارة» في إشارة إلى انتحار فرجينيا وولف المأساوي قبل خمسة وستين عاما.
الرواية مروية بضمير المتكلم، ومسرح أحداثها - إن صح أن فيها أحداثا - عربة قطار يمر بالجزء الجنوبي الشرقي من الريف الإنجليزي، منطلقا من لندن. والراوية (الأغلب أنها امرأة) تشترك في العربة مع خمسة مسافرين لا يلبثون أن يهبطوا - واحدا في إثر آخر - في محطاتهم، فلا يتبقى معها سوى امرأة تختار الراوية أن تدعوها «ميني مارش». وتتخيل الراوية مواجهة كبرى بين هذه العانس الفقيرة؛ ميني مارش، وزوجة أخيها المدعوة «هيلدا». وثمة لمحات عن ميني مارش بأعين الآخرين، إلى جانب عيني الراوية؛ فالعاملون في المستشفى يتعجبون من نظافة ثيابها الداخلية؛ مما يدل على أنها (وإن تكن رقيقة الحال) سيدة حسنة التربية. ولا تلبث تخيلات الراوية الصامتة أن تقاطع وتنزل إلى الأرض من سبحاتها في الفضاء عندما تروح «ميني مارش» - إذ تستعد لأكل وجبتها الخفيفة؛ بيضة مسلوقة - تعلق بصوت عال: «البيض أرخص!» وعلى طريقة تداعي الأفكار، التي شهر بها جويس وفرجينيا وولف ووردورثي رتشاردسن، يستثير الفتات الأصفر والأبيض المتساقط من البيضة سلسلة من الصور.
الرواية عميقة الجذور في زمانها ومكانها. فهناك، مكانيا، إشارات إلى إيستبورن؛ وهي منتجع على شاطئ البحر، ولويس؛ وهي بلدة في شرقي مقاطعة سسيكس، وكاتدرائية القديس بولس في لندن (المقابل الإنجليزي لكاتدرائية القديس بطرس في روما) وغيرها.
وهناك ذكر لجريدة «التايمز»؛ كبرى الجرائد اليومية البريطانية، ول «الحقيقة» وهي مجلة أسبوعية كانت ذات رواج شعبي في يومها. وهناك ابتعاث لشخصيات من الماضي القريب والبعيد: مثل بول كروجر (1825-1904م)؛ وهو سياسي من الترنسفال، كان معارضا للنفوذ البريطاني في جنوب أفريقيا، ثم صار رئيسا لجمهورية البوير لمدة عشرين عاما، وتبينه صوره في معطف رسمي بوجه ملتح صارم، ومثل الأمير ألبرت (1819-1861م) زوج الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا، ومثل السير فرنسيس وريك (1540-1596م) وكان مستكشفا إنجليزيا وقبطانا بحريا يأسر السفن الإسبانية، عند عودتها من أمريكا الجنوبية محملة بالذهب والفضة المسروقين من الهند (من صور الرواية الشعرية: صورة للهنود على شكل كتل متدحرجة من الرخام على جبال «الأنديز» لسحق الغزاة الأوروبيين). ومن الشخصيات التخيلية في الرواية: مندوب مبيعات مسافر، تختار له الراوية اسم «جيمس مجردج»، وتتخيله يبيع أزرارا، ثم تردف ذلك بوصف وجيز لبضائعه.
هذه - باختصار - قصة إنجليزية مغروسة في تربتها المحلية، ولا سبيل لتذوقها تذوقا كاملا - فثمة مستويات عدة للتذوق - إلا إذا كنت قد ركبت قطارا إنجليزيا يخترق بك الريف الإنجليزي، وخالطت ركابه، وعرفت كيف يعيش هؤلاء القوم وكيف يفكرون ويشعرون ويسلكون.
لكن الرواية - وهنا مكمن تشويقها وفرادتها - ثمرة حساسية حداثية تخترق طرائق السرد التقليدي والوصف الخارجي (على طريقة آرنولد بنيت وجولز ورذي وه. ج. ولز، ممن اشتدت المؤلفة في نقدهم)، وتحطم قواعد المنظور (أستعير العبارة من يوسف الشاروني)، لكي تنفذ من قشرة المظاهر الخارجية إلى اللب الروحي العميق، إلى مركز الأرض الباطني الموار بالحرارة والجيشان والانفعال. هذه بمعنى من المعاني، «ميتا-رقصة»، بمعنى أنها انكفاء على الذات الداخلية، وتأمل من جانب الراوية لطريقة كتابة رواية. وأزعم أنها تردنا إلى مقالة مؤرخة في عام 1925م لفرجينيا وولف، أعيد طبعها بعد وفاتها في كتابها المسمى «فراش موت الربان » 1950م، وعنوانها «السيد بنيت والسيدة براون»، وفيها تروي الكاتبة لقاء بينها - في عربة قطار متجه من رتشموند إلى وترلو - وبين سيدة ستطلق عليها اسم السيدة براون، وهي نسخة مبكرة من ميني مارش. تعاني الفقر، ويبتزها رجل يدعى السيد سميث لأسباب لا تفصح عنها الكاتبة تماما، ولكنها تظل في قلب تعاستها، محتفظة بكبريائها الإنساني وروحها النبيل.
2
والحوار التخيلي الذي يعقب الرواية، نقلته فاطمة ناعوت عن شبكة الإنترنت ثم قامت بترجمته. وهو يلقي أضواء على جوانب من حياة فرجينيا وولف وفكرها وفنها: صورة الحياة في بريطانيا في أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية، ونزعة الكاتبة النسوية في كتابيها: «غرفة خاصة»،
3
و«ثلاثة جنيهات»، وطفولتها وخلفيتها العائلية، وعلاقتها بزوجها ليونارد وولف، ومقالاتها وقصصها القصيرة، وطريقتها في التأليف الروائي، وانتحارها غرقا في نهر أوز القريب من بيتها، ومذكراتها التي دأبت على كتابتها منذ سن الخامسة عشرة. وكلها أمور ضرورية لفهم رواياتها الكبرى التي أحلتها مكانا رفيعا بين روائيي النصف الأول من القرن العشرين. «رواية لم تكتب بعد»
4
مثل أغلب أعمال فرجينيا وولف، قصيدة نثر متطاولة، وجوهرة محكمة الصنع أحسن الصائغ نحتها، ولكنها، إلى جانب إنجازها التقني،
5
بل قبل ذلك، رحلة في أعماق النفس، تصطنع منهج المونولوج الداخلي وتتوسل بتدفق تيار الشعور والصورة الشعرية المحلقة والأسلوب الانطباعي إلى الغوص في أعماق الشخصية، وما تموج به من صفاء وكدر، وما يعتريها من تقلبات متصلة.
هذه روائية مرهفة الحس، حادة الذكاء (كان عارفوها يخشون سخريتها اللاذعة)، مصقولة الأسلوب، مدربة الحساسية، تستحق أن يذكر اسمها - في نفس واحد - مع عمالقة الرواية السيكولوجية من أمثال هنري جميز، وكونراد، وجويس، ولورنس، وبروست.
هذا - في تصوري - كتاب يقدم للقارئ متعة ثلاثية:
فهناك أولا فن فرجينيا وولف القصصي الذي يمتاز بتقمصه دخائل النفس وقصده في التعبير وخلوه من الزوائد والحواشي.
وهناك ثانيا تقدمة فاطمة ناعوت الجامعة بين سعة المعرفة بموضوعها والقدرة على تقمص خبرة الكاتبة على نحو يجعل من التقدمة أثرا فنيا، بحقه الخاص، ليس فيه دوجماطية النقاد الأكاديميين، ولا سطحية النقاد الانطباعيين .
وهناك ثالثا قصة فرجينيا وولف في ثوبها العربي الراهن ، حيث جاورت المترجمة فيه بين أمانة النقل مع طلاقة الأداء.
في مؤتمر «الترجمة وتفاعل الثقافات»، الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة على امتداد أربعة أيام من 29 مايو إلى 1 يونيو 2004م، ألقت فاطمة ناعوت بحثا بعنوان «ترجمة الشعر: فعل إبداع». وأحسب أن دعواها في هذا البحث يمكن أن تنسحب على كافة ألوان الترجمة الأدبية سواء كان النص المترجم قصيدة أو رواية أو قصة قصيرة أو مسرحية أو مقالة. ولأن قصة فرجينيا وولف - كما أسلفت - تدخل، بمعنى من المعاني، في باب الشعر المنثور، فقد حرصت المترجمة على أن تمتص جزءا من الطاقة الشعرية للنص، وسعت إلى أن تخرج بإبداع مواز، لا مجرد تابع ذي درجة أدنى. وسيجد القارئ - الذي يتجشم جهد معارضة ترجمتها على الأصل - أنها قد وفقت في مسعاها وأضافت إلى اللغة العربية - شأن الصانع البارع - جوهرة صغيرة محكمة الصنع.
جيوب مثقلة بالحجارة
(تقدمة المترجمة)
فرجينيا وولف، «الثورة الهادئة»، بتعبير مايكل بننجام وكما وصفها بعض أصدقائها المقربين. وهي إحدى أهم القامات في الأدب الإنجليزي ورواده في حركة التحديث الروائي. صنعت إسهاما مهما في تغيير شكل الرواية الإنجليزية؛ إذ نجح حسها التجريبي في تطوير الأسلوب الشعري خلال السرد القصصي والروائي عبر اعتمادها التقنيات التجريبية مثل: المونولوج الداخلي،
1
الانطباعية الشعرية،
2
السرد غير المباشر،
3
المنظور التعددي،
4
إضافة إلى ما يعرف نقديا ب «تيار الوعي».
5
يعتمد منهجها الكتابي على استشفاف حيوات شخوصها من خلال الغور داخل أفكارهم واستدعاء خواطرهم وهو ما يسمى «استثارة حالات الذهن الإدراكية»، حسيا ونفسيا، والذي يشكل نموذجا لطرائق تداعيات الوعي البشري. تفعل وولف ذلك من خلال رصد وتسجيل لحظات الوعي المتناثرة داخل الذات وداخل المخ البشري لتعيد ترتيبها وفق صورة تشكيلية ترسمها وولف بحنكتها الروائية.
تلتقي تقنياتها تلك مع تقنيات كل من «بروست» و«جويس»،
6
متجاوزة بذلك التقنية التقليدية في القص والرواية، التي انتهجت الوصف الخطي المتنامي زمنيا والرصد الموضوعي للحدث، والتي ميزت رواية القرن التاسع عشر.
عمد أسلوبها إلى تصاعد الوعي الذهني لشخوص روايتها في تزامن مع التصاعد السردي للحدث. الكتل الزمنية تتراص متوازية في الذاكرة وبالتالي في الرؤية الدرامية. المشاهد غير المكتملة تتقاطع وتشتبك لتخلق لوحة أرحب وأشد تعقيدا. التنوع الأسلوبي للقص داخل الرواية الواحدة يذكر القارئ دائما أن خطا شعريا أو خياليا متورط في العمل.
إن تبني تيار الوعي في السرد القصصي، والذي يتراوح بين التفاصيل الدنيوية اليومية العادية وبين الإسهاب الغنائي، إضافة إلى الخبرة العالية بطرائق تشكل المشهد، هما من أهم أدوات وولف الكتابية، التي أظهرت لقارئها مدى أهمية استغلال وتنمية قدرات الخيال التشكيلي في حياتنا اليومية، كما هو لدى المبدع، في بناء النص.
اشتهرت وولف باستدعاءاتها الشعرية التي تستخلصها من ميكانيزم التفكير والشعور البشري. كانت، مثل بروست وجويس، قادرة بامتياز على استحضار كافة التفاصيل الواقعية والحسية من الحياة اليومية، غير أنها دأبت على انتقاد أسلوب مجايليها «آرنولد بينيت» و«جون جولز وورثي» بشأن اهتمامهما البالغ برسم واقعية ميكروسكوبية وثائقية مفرغة من الفن، وهو ما انسحب عليهما من روائيي القرن ال 19. كانت ترى أن الواقعيين المعاصرين الذين يزعمون الموضوعية العلمية الحيادية هم زائفون بالضرورة، ما داموا لا يعترفون بحقيقة أنه لا حياد تاما في الرؤية، لأن «الواقعية» يتم رصدها على نحو مختلف باختلاف راصديها. الأسوأ من ذلك، من وجهة نظرها، أن محاولتهم الوصول للموضوعية العلمية الدقيقة تلك؛ غالبا ما ينتج عنها محض تراكم زمني للتفاصيل.
كانت وولف تطمح إلى الوصول إلى طريقة أكثر شخصانية وأكثر دقة كذلك في التعامل مع الواقع روائيا. لم تكن بؤرة اهتمامها «الشيء» موضوع الرصد، ولكن «الطريقة التي يرصد بها الشيء» من قبل «الراصد». وقالت في هذا الأمر: «دعونا نرصد الذرات أثناء سقوطها فوق العقل بترتيب سقوطها نفسه، دعونا نتتبع التشكيل مهما كان مفككا وغير مترابط التكوين، سنجد أن كل مشهد وكل حدث سوف يصيب رمية في منطقة الوعي.»
قارن النقاد بين كتابات وولف وبين ما أنتجه فنانو المدرسة ما بعد الانطباعية
post-impressionism
في الفن التشكيلي من حيث التأكيد على التنظيم التجريدي لمنظور الرؤية من أجل اقتراح شبكة أوسع للدلالات والرؤى.
تعتبر وولف، إلى مدى أبعد من أي روائي آخر باستثناء جويس، أول من أنتج الرواية الإنجليزية الحديثة، التي نأت بشدة عن الشكل التقليدي المطمئن آنذاك منذ القرن التاسع عشر، بكل ما تحمله تلك الرواية من ملحمية البطولة، وفرط العاطفة، والإعلاء الأخلاقي المتزمت، وكذا رؤاها الجامدة المتجمدة الدوجمائية، ثم الهيكل الكلاسيكي الثابت؛ استهلال مباشر واضح، متن وذروة، ثم نهاية ختامية تبشيرية أو إصلاحية.
أضحت الرواية في يد وولف أكثر بريقا والتباسا وتوترا، موشاة بخيط رهيف من الفوضوية والتحرر والشعرية أيضا، كما أنها اهتمت بالأساس بالبشر المهمشين أو الذين يعانون من مشاكل نفسية ما. لم تحفل كثيرا بكتابة رواية تبشيرية أو إصلاحية، لكنها عمدت إلى إظهار كيف تنصهر الحياة في ألوانها الخاصة بكل ما فيها من تقاطعات اليومي البسيط والعميق الفلسفي. وبطبيعة الحال استمرت الرواية التقليدية تكتب منذ وبعد عصر فرجينيا وولف، لكنها بعد وولف لم تعد مطلقا كما كانت.
آمنت وولف بأن الرواية التي كتبت في عصرها وما قبله، ببنائها المحكم وزخم العاطفة والحماس بها، كانت تتصل بالعالم وبالبشر على نحو عبثي. وشبهت ذلك بقارب مليء بالمستعمرين والمبشرين الذين يغامرون باقتحام دغل متشابك وكثيف بقصد غزوه وإخضاعه. وتقول وولف عبر رواياتها إن العالم أشد ضخامة وتعقيدا وغير قابل للاختراق والإخضاع على أي نحو، وإن القيمة الجمالية الفنية هي الهدف الأوحد للقص؛ ولذا فإن أي كاتب يحاول أن يطهر الدغل من أشجار كرمه أو من نباتاته الشيطانية المتسلقة سوف يثير ذعر الضواري والوحوش ولن يسلم من غضبتها. كأنما يحاول أن يفرد طاولة للشاي أمام تلك الكواسر ثم يذهب في شرح البروتوكولات والتقاليد حول ما يجب وما لا يجب فعله من تقاليد المائدة. هذا ما يفعله الكاتب حين يكتب تلك النهايات السليمة والنافعة الطوباوية ذات الطابع الإصلاحي.
قدمت وولف شهادة للعالم، عبر كتاباتها، رصدت وسجلت فيها طرزه ونماذجه، لكنها لم تسع مطلقا إلى تقويمه أو إخضاعه ضمن أية منظومة خاصة، لأنها آمنت أن الكون ينتج نظامه الخاص بنفسه . من أجل هذه الرؤية الحداثية، اتهمت وولف دائما، من قبل الإصلاحيين، بأنها تكتب من أجل لا شيء.
الملمح الأساسي لعبقرية وولف، الظاهرة منذ بداية مشروعها الأدبي هو إصرارها على تأكيد مراوغة العالم بوصفه أوسع وأكثر تعقيدا من أن نضع اشتباكاته تحت بؤرة النقد من خلال أية حياة فردية. «جرب أن تدخل «وعي» إنسان؛ أي إنسان، وسوف تجد نفسك فورا منقادا إلى حيوات العشرات من البشر الآخرين الذين يكملون، ويتقاطعون مع، حياة هذا الإنسان، كل على نحو مختلف.»
فهمت وولف أن أية «شخصية» كتبت عنها، حتى الشخصيات الهامشية، كانت «تزور» روايتها من خلال «رواية» ذاتية تخص تلك الشخصية، وأن تلك الرواية غير المكتوبة تضم، إلى جانب مشروعها الرئيس، آلام وأقدار تلك الشخصية؛ هذه الأرملة، أو ذاك الطفل، أو تلك العجوز المسنة، أو حتى المرأة الشابة التي لم تظهر في رواية «الخروج في رحلة بحرية»
7
إلا في مشهد عبورها الحديقة العامة فقط.
بعد روايتين تقليديتين نسبيا، بدأت وولف في تطويع مداخلها التي مهدت لها اللعب على بنية مخيالية أكثر رحابة حيث:
التطور المشهدي المتصاعد حل محله التشكيل عن طريق التراص الرؤيوي.
الاشتباك المباشر مع الواقع والتراكم الزمني استبدل بهما التراوح الملتبس للعقل بين الذاكرة وبين الوعي.
ومن ناحية أخرى يربط المشهد المركب للتيمة الرمزية بين شخوص ليس من علاقة واضحة بينهم في القصة ذاتها.
كل تلك التقنيات ألقت على عاتق القارئ متطلبات جديدة في فن التلقي، من مقدرة على تخليق وإعادة بناء الصورة الكلية من جزئيات متناثرة ليست بادية الصلة. من هنا كانت صعوبة قراءة فرجينيا وولف.
في رواية «غرفة يعقوب»
8
1922م نجد أن صورة البطل الكلية تتركب من سلسلة من وجهات النظر الجزئية المختبئة داخل النص والتي ترسم بورتريها إنسانيا وسيكولوجيا له من خلال شخوص العمل. وفي رواية «الأمواج»
9
1931م، ثمة منظور - متعدد الرؤى لشخوص الرواية في حواراتهم الذاتية مع أنفسهم خلال علاقة كل منهم بالشخص الميت - في الرواية - «بيرسيفال» - يتم تكسيره على عشرة فصول، تلك الفصول بدورها تكون منظورا إضافيا يصف رحلة يوم واحد من الفجر إلى وقت الغسق.
الرواية الأخرى التي تلعب فيها وولف لعبة الزمن أيضا؛ أي رواية اليوم الواحد، هي «مسز دالواي»،
10
عملها الأشهر، حيث ترتب البطلة، السيدة دالواي، لحفل المساء وفي أثناء ذلك تستدعي - ذهنيا - كامل حياتها مثل شريط سينمائي منذ الطفولة حتى عمرها الراهن في الخمسين.
مشكلات الهوية ومدى التحقق والإخفاق لدى شخوص سردها هي الهم الثابت لدى وولف والمحرك الأول وراء تلك الإزاحات المنظورية في أعمالها. ولذا غالبا ما تلجأ وولف إلى تجسيد الشخصيات غير المتحققة وغير المكتملة؛ ومن ثم إلى البحث عن الشيء الذي سوف يحقق اكتمالها.
ترتكز كتابة وولف على لحظات الوعي العليا، وبالمقارنة ببعض أعمال جويس التي تتناول البصيرة كنوع من القوى الأسطورية، نجد أن وولف تعالج الأمر كملكة ذهنية حين يفعل العقل أقصى طاقاته ليعتمد الخيال.
لا أحد يقرأ وولف بغير أن يؤخذ بالاهتمام الفائق الذي تعطيه للمخيلة الإبداعية. فشخوصها الرئيسيون يفعلون حواسهم فيما وراء المنطق العقلي، كما أن أسلوبها السردي يحتفي بالدوافع الجمالية التي تنظم الأبعاد المتنافرة في كل متناغم متسق. ترى وولف أن الكائن البشري لا يكون مكتملا إذا لم يشحذ طاقاته الحدسية والتخيلية في أقصى درجاتها. ومثل كل كتاب الحداثة، نجد وولف مفتونة بالعملية الإبداعية ولحظات الكتابة، وغالبا ما تضع إشارة لها في أعمالها، فنجدها حينا تصف كفاح الرسام من أجل بناء لوحته في «صوب المنارة»،
11
وفي حين آخر تجسد حال الكاتب وذوبانه من أجل بناء روايته، كما في «رواية لم تكتب بعد»
12
التي تناولناها بالترجمة ضمن هذا الكتاب.
إذن تحاول وولف في هذين العملين استكشاف طرائق تخلق العمل الإبداعي في مخيلة العقل البشري. فقد لاحظت وولف أنه لا يمكن لقارئ الرواية (المكتملة) أو لمشاهد اللوحة التشكيلية (المكتملة) أن يستقرئ خطوات ميكانيزم هذا التخلق الإبداعي المعقد: الملاحظة، الغربلة، التنظيم الإحداثي والحدثي (من إحداثيات وحدث)، رسم خريطة العلاقات والتأويلات ... إلخ، ثم الصياغة وإعادة الصياغة حتى يكتمل العمل فنا سويا. فالعقل البشري يقوم بأشد العمليات تعقيدا لتنظيم الوعي والإدراك مع الملموسات، الأمر الذي لا يمكن رصده أو نقله بشكل كلي وتام داخل إطار وصفي محدد مهما بلغت دقته. ومن هنا جاءت فكرة هذه الرواية التي لم تكتب بعد.
في «رواية لم تكتب بعد» ترصد وولف حالات التخلق الذهني لجنين رواية في طريقها إلى التخلق عن طريق أخذ القارئ عبر بدايات رواية لم تكتمل بعد، راصدة كيف يمكن أن تكتمل على أنحاء متباينة. تتحرك القصة أماما وخلفا بين حائطين من الخيال والواقع، كل يسهم في احتماليات الرواية ليحفر نهرا من الاقتراحات والاقتراحات البديلة، كل ذلك يتم داخل ذهن الراوية التي تختبر وتعالج كل الرؤى الممكنة اتكاء على مراقبتها شخصية امرأة معينة تجلس أمامها في إحدى كبائن القطار عبر رحلة إلى جنوب لندن. على الجانب الآخر، ترصد الراوية كل الكلمات الفعلية والإيماءات التي يأتي بها راكبو نفس الكابينة؛ ومن ثم ترسم - ذهنيا - اقتراحات متخيلة لكل منهم عبر خلق روائي تم من خلال الملاحظة، التقمص العاطفي، وتجسيد ما تشاهده خلال الرحلة ليتفق وتصورها المبدئي. يظهر هذا في آلية استدعاء التداعيات الذهنية للمحيطين من خلال قراءة أفكارهم وسلوكهم ثم التعامل ذهنيا ونفسيا مع تلك التداعيات.
ترسم وولف عملية الخلق الإبداعي كتجربة كاملة: بدايات خاطئة يتم استبدالها، ثم تصحيح النغمة ودرجة التماسك الدرامي، فمثلا، لا بد أن يجد الراوية جريمة متخيلة ارتكبتها البطلة «ميني مارش» لتتفق الحال مع ملامح الأسى المرسومة على وجهها، كذلك استبدال نبات السرخس بنبات الخلنج ليكون أكثر مناسبة مع المشهد المرسوم (بمعرفة الراوية) فيكتمل على نحو أفضل، إضافة أو طرح شخوص للرواية. ولا تغفل وولف حساب «الراوية» ذاتها كقوة دافعة في العمل، بالرغم من سعيه عادة في معظم الروايات، أعني الراوية، إلى التعالي فوق الحدث والشخوص، حيث يبدأ من أرض الرصد الصلبة، بعين العليم غير المتورط. لكن روح الفنان داخل وولف أجبرتها على الضلوع في الدراما طوال الوقت كراو غير عليم ومشارك ومتورط في الحدث.
ومثلما فعل بودلير في قصيدة «النوافذ»،
13
حين اعتمد الخيال كحيلة ذهنية من أجل انتزاع الأمن من الحياة وخلق شيء من الثقة بالنفس، أكدت وولف في تلك الرواية على حتمية انتصار روح الخلق الإبداعي داخل الفنان على روح العدمية والقنوط التي تصيب المبدع أحيانا. فكلما أثبتت حكايتها الأولى فشلها وتراءى لها كم أن حبكتها تبدو مضحكة سرعان ما تستجيب لروح المبدع داخلها وتشرع في نسج حبكة جديدة.
في هذه النوفيللا الثرية غزيرة التفاصيل، التي هي مشروع رواية لم تكتمل، وفي ذات الوقت عمل مكتمل البنية على نقصانه المتعمد، نلمس اشتجار الأبعاد الكثيفة للواقع الموضوعي، مع الراوية والناقد في آن، مع المحلل الذاتي داخل الراصد، بما لا يعطي مجالا للنهاية أن تكتمل. يتنامى الهاجس الإلهامي داخل المبدعة التي تنشد «عالما رائعا، مشاهد ملونة، وشخصيات أسطورية تنتظر أن تخلق»، لتقف الرواية على الحافة الحرجة بين النقص والاكتمال.
فرجينيا وولف: النشأة والمأساة
ولدت فرجينيا ستيفن في 25 يناير 1882م، لأسرة شديدة المحافظة أو ما كان يطلق عليها أسرة فيكتورية (نسبة إلى العصر الفيكتوري).
الأب هو «ليزلي ستيفن»،
1
وكان مؤرخا بارزا، وناقدا أدبيا ويعد أحد أفراد الطبقة «الأرستقراطية الفكرية»
2
في بريطانيا آنذاك. عرف كأحد رواد المدرسة الفلسفية الأجنوستيكية أو ما تعرف ب «اللاأدري».
3
وله إصدارات في مجالات الفلسفة والشعر والأدب والنقد الاجتماعي. كما أصدر «المعجم القومي للسير الذاتية».
4
كان له أثر هائل على تكون ذهنية فرجينيا ومنظومتها العقائدية.
الأم هي «جوليا جاكسون داكوورث»
5
من نسل عائلة «داكوورث» التي اشتهرت بريادتها عالم الطباعة والنشر. كان لأسرة فرجينيا اهتمام بالتيارات الفكرية والفنية السائدة آنذاك حتى إن بعض أشهر الفنانين - ما قبل الرافائليين - وقتها أعجبوا بجوليا (الأم) ورسموا بورتريهات عديدة لها.
كان أبوها صديقا لكل من «هنري جيمس»، «تينيسون»، «ماثيو آرنولد»، و«جورج إليوت». على أنه، برغم ثقافته الواسعة، وفق عادة تلك الأيام، قد دفع فقط بشقيقيها، «أدريان وثوبي»، إلى التعليم النظامي في المدارس والجامعات، في حين تلقت «فرجينيا» وشقيقتها «ڤينيسا» (التي ستغدو الرسامة فينيسيا بيل فيما بعد) تعليمهما في المنزل بحي هايد بارك جيت،
6
واعتمدتا على مكتبة أبيهما الضخمة لتحصيل الثقافة والعلوم.
علقت المرارة بروح فرجينيا، على نحو ذاتي، استياء من عدم ذهابها إلى المدرسة، وعلى نحو موضوعي أعم، استياء من عدم المساواة في معاملة الولد والبنت؛ احتجاجا على ما تنطوي عليه تلك التفرقة من دلالة تشي بصغر قيمة المرأة في نظر المجتمع، ومن ثم انحطاط نظرته إلى فكرها وشكه في جدارتها الذهنية للتعلم. وكذلك ساءها استكانة المرأة ذاتها، وقبولها الأمر على ذلك النحو السلبي غير المقاوم، وانصياعها لذلك التمايز وكأنه مسلمة لا جدال فيها. وقد عبرت عن تلك الفكرة في كثير من مقالاتها المؤيدة للحركات النسوية التحررية. ثمة صدمات عنيفة في طفولة وولف وشبابها ظللت حياتها بمسحة حزن لازمتها حتى لحظة انتحارها في النهر عام 1941م. أولا التحرش الجسدي من قبل أخيها غير الشقيق «جيرالد داكوورث»، ثم موت أمها في فجر مراهقتها (تلك الحادثة كانت الإرهاصة المباشرة التي سببت انهيارها العقلي الأول). أخذت أختها غير الشقيقة «ستيللا داكوورث» مكان الأم لها، لكنها لم تلبث أن ماتت أيضا بعد أقل من عامين، كما عايش «ليزلي ستيفن»، الأب، موتا بطيئا مؤجلا منذ داهمه السرطان. وفي الأخير تزامن موت شقيقها «ثوبي» عام 1906م مع توغل الانهيار النفسي والعقلي المزمن بها، فرافق حياتها ولم يفرقهما غير الموت.
إثر موت أبيها عام 1904م، ضرب المرض العقلي فرجينيا للمرة الثانية وحاولت الانتحار. ثم انتقلت مع شقيقتها «ڤينيسا» وشقيقها «آدريان» إلى منزل في مجاورة «بلوومز بيري»
7
جوار المتحف البريطاني وسط لندن؛ البيت الذي سيصبح فيما بعد مركزا لنشاط «جماعة بلوومز بيري» الأدبية
Bloomsbury group .
في 10 أغسطس عام 1912م تزوجت فرجينيا من المنظر السياسي والناقد «ليونارد وولف»
8
الذي كان عائدا من الخدمة كمدير إدارة في «سيلان» (سريلانكا الآن). وكان لزوجها دور إيجابي مهم في تشجيع فرجينيا على الكتابة والنشر. وكانا قررا أن يتعيشا من الكتابة والصحافة. وفي عام 1917م اشتريا آلة طباعة صغيرة جدا (قالت إن بوسعها وضعها على طاولة مطبخ) على سبيل الهواية، غير أن تلك المطبعة كانت نواة لدار نشر «هوجارث»
9
التي تحولت إلى مشروع مهم عام 1922م. وقد نشرت فرجينيا كل أعمالها تقريبا عن تلك الدار. كما نشرت تلك الدار أعمالا مهمة لأدباء آخرين مثل «ت. إس. إليوت» في قصيدة «الأرض الخراب»، وأيضا بعض أعمال كل من «ماكسيم جوركي»، «إي إم فورستر»، «كاترين مانسفيلد» وغيرهم.
10
كما أصدرت ترجمة للأعمال الكاملة لسيجموند فرويد في 24 مجلدا. وبالرغم من أن وولف لم تتوقف عن الكتابة والنشر خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، إلا أن الحزن بسبب موت الكثير من أصدقائها في الحرب، وأيضا التوتر من حال الحرب ذاتها والترويع الدائم الذي عايشوه بسبب التهديد النازي، كل تلك الأمور قد أثرت بالسلب عليها وعلى كتابتها كما يقول الخبراء.
بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) ظن الناس استحالة نشوب حرب بهذا الحجم مجددا بعد كل الهول الذي رأوه وعظم حجم الخسائر التي تكبدها العالم بأسره من جراء الحرب الأولى؛ لهذا سببت الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) صدمة مروعة وانهيارا للكثيرين. شهدت وولف انفجار بيتها بقنبلة عام 1840م. وكانت مرتعبة من فكرة فقد أصدقاء جدد في الحرب بعدما فقدت الكثير منهم في الحرب الأولى، هذا إضافة إلى خوفها من غزو النازيين لإنجلترا، فعقدت العزم وزوجها على الانتحار سويا بالغاز حال حدوث ذلك.
واستكمالا للتأثير السلبي للحروب على نفسية فرجينيا وولف وجهازها العصبي، يلزم أن نشير أيضا إلى الحرب الأهلية الإسبانية التي وقعت بين عامي 1936م و1939م. تلك الحرب التي اشتعلت إثر صراع نشب بين حزب المحافظين الفاشستي وبين الحكومة الديمقراطية الإسبانية. كانت إيطاليا وألمانيا تنظران إلى إسبانيا باعتبارها أرض اختبار خصبة للأسلحة والتكتيكات القتالية؛ ولذا تحالفتا مع حزب المحافظين الإسباني ضد الحكومة. وعبثا حاولت عصبة الأمم تفعيل سياسة عدم الانحياز؛ أقامت حاجزا بشريا من خفر الحدود في محاولة منها لمنع وصول المؤن إلى كلا الجانبين المتصارعين؛ لكن في الأخير هزم المحافظون الحكومة الشرعية للبلاد وفرضوا على إسبانيا النظام الفاشستي الديكتاتوري.
في تلك الحرب قتل «جوليان بيل»؛ ابن شقيق فرجينيا، أثناء مشاركته كأحد أفراد الحائط البشري. ربما نفهم من تلك الأحداث لماذا كرهت وولف الحرب دائما، ولم كانت في كثير من مقالاتها داعية للسلام. (1) جماعة «بلوومز بيري»
11
الأدبية
بدأت فكرة جماعة «بلوومز بيري» في التكون عام 1906م، حين بدأ «ثوبي» شقيق فرجينيا في عقد اجتماعات أسبوعية للأصدقاء الأدباء من زملاء كامبريدج. أسموها «أمسيات الثلاثاء». تلك الأمسيات التي ستشكل إسهاماتها النواة الأولى لجماعة «بلوومز بيري» فيما بعد. واختاروا مكان اللقيا ذات الحي الذي كانت تسكنه فرجينيا وشقيقتها فينيسا؛ أي ميدان جوردون. كان المحرك في توحيد المفاهيم والاهتمامات الجمالية والفكرية لدى أعضاء الجماعة نابعا في الأساس من تأثير الفيلسوف ج. إ. موور (1873-1958م) وكتابه العمدة «مبدأ الأخلاق».
12
ضمت الجماعة، ضمن آخرين: إ. إم. فورستر، ليتون ستراتشي، كليف بيل، فينيسا بيل (شقيقة وولف)، دانكين جرانت، وليونارد وولف (زوجها). ومع مطلع الثلاثينيات توقفت الجماعة عن الظهور المنتظم مثلما كانت في صورتها الأولى.
من كلمات وولف عن لقاءات تلك الجماعة كما جاء في كتاب «لحظات الوجود»
13
ل «جيني سكالكيند»: «... ومن أسباب سحر وجمال أمسيات الثلاثاء تلك، اصطباغها بروح التجريد والذهنية على نحو مدهش. لم يكن فقط الكتاب الشهير «مبادئ الأخلاق» للفيلسوف موور هو الذي أغرقنا في مناقشات وحوارات حول الفلسفة والفن والدين والوجود؛ لكنه الجو العام أيضا، الذي يمكنني وصفه ب «المثالية في أقصى طاقاتها». الشباب، الذين وصفتهم ذات مرة في هايد بارك بأنهم «عديمو الأخلاق»، كانوا يناقشون وينتقدون حواراتنا بنفس الحماس والحدة كما يفعلون فيما بينهم، لم يكادوا يلحظون ما نرتدي من ثياب أو كيف كان مظهرنا الأنثوي، لم يشعرونا أننا نساء، هذا شيء رائع!» (2) بدايات الكتابة
مع نهاية عام 1904م شرعت فرجينيا في كتابة مقالات وتحقيقات لجريدة «الجارديان»،
14
ثم انتقلت مع عام 1905م إلى الكتابة في ملحق «التايمز» الأدبي،
15
واستمرت في الكتابة بها لعدة سنوات. وكانت في تلك الآونة تقوم بالتدريس في جامعة مسائية للعمال من الرجال والنساء.
نشرت أولى رواياتها «الخروج في رحلة بحرية»
16
عام 1915م؛ أولى أعمال وولف التي خطتها حين كان عمرها 24 عاما. استغرقت كتابتها تسع سنوات، بدأتها عام 1908م وانتهت منها عام 1913م، لكنها لم تنشر إلا بعد ذلك التاريخ بعامين بواسطة أخيها نصف الشقيق «جيرالد دوكوورث»، تزامنا مع بداية إصابتها بالمرض العقلي آنذاك.
في عام 1919م ظهرت روايتها الواقعية «الليل والنهار»
17
التي تدور أحداثها في لندن وترصد التناقض بين حياتي صديقتين ، كاترين وماري، وطرائق تعامل كل منهما مع مدينة الضباب. وتعد رواية تقليدية إصلاحية كتبتها وولف ربما لتثبت لنفسها وللآخرين أن بوسعها كتابة نمط روائي كلاسيكي.
عام 1921م أصدرت أولى مجموعاتها القصصية بعنوان «الإثنين أو الثلاثاء»
18
وتتكون من ثماني قصص، من بينها «رواية لم تكتب بعد»، التي نحن بصدد ترجمتها.
أما «غرفة يعقوب»
19
عام 1922م، فكانت مستوحاة من حياة وموت شقيقها «ثوبي»، وتعد روايتها التجريبية الأولى.
على أنها برواياتها الثلاث: «مسز دالواي»
20
1925م، «صوب المنارة»
21
1927م، ثم «الأمواج»
22
1931م، استطاعت وولف ترسيخ اسمها كأحد رواد الحداثة في الأدب الإنجليزي.
تعد «الأمواج» من أعقد رواياتها، إذ تتتبع فيها حيوات ستة أشخاص منذ الطفولة الأولى وحتى مراحل الشيخوخة عبر حوار ذاتي أحادي (مونولوج) يناجي كل واحد فيه نفسه.
كتب الناقد «كرونيبيرجر» في نيويورك تايمز: «إن وولف لم تكن حقا مهتمة بالبشر، لكن اهتمامها الأكبر كان بالإشارات الشعرية في الحياة، مثل لحظات التحول بين الفصول، بين الليل والنهار، الخبز والنبيذ، النار والصقيع، الزمن والفضاء، الميلاد والموت؛ أي التحول والتناقض بوجه عام.» «أورلاندو»
23
1928م، رواية استوحت خيوطها من خلال ارتباطها الحميم بالروائية والشاعرة الأرستقراطية فيتا ساكفيل-ويست. ويعدها النقاد بمثابة سيرة ذاتية.
رواية «السنوات»
24
عام 1937م التي أجمع النقاد تقريبا على جمالها، ثم المجموعة القصصية الثانية التي نشرت بعد موتها «بيت مسكون بالأشباح»
25
التي صدرت عام 1943م.
وفي أثناء الحرب العالمية، كانت وولف قد أصبحت في بؤرة المشهد الأدبي تماما، سواء في لندن أو في بلدتها الأم «رومديل» بالقرب من ليويز وسسيكس. عاشت وولف في «ريتش موند» في الفترة ما بين عامي1915م و1924م، ثم في «بلوومز بيري» من عام 1924م وحتى عام 1939م. لكنها ظلت مداومة على زيارتها لمنزلها في «رومديل» منذ 1919م حتى لحظة مصرعها انتحارا عام 1941م.
عملت وولف على تطوير تقنياتها الأدبية فكرست قلما نسائيا رفيعا يناقش وينتقد هموم المرأة وحياتها في مقابل الهيمنة الذكورية وسيادة وجهة نظر الرجل في الواقع والوجود والكتابة.
في مقالها «السيد بينيت والسيدة براون»، ساجلت وولف بعض الروائيين الواقعيين الإنجليز مثل جون جولز وورثي، ه. ج. ويلز وغيرهما، حيث اتهمتهم بمعالجة القشور واللعب فوق منطقة السطح، بينما ينبغي، من أجل اختراق العمق، تقليص المساحة المحظورة في تناول الحياة، والاستفادة من أدوات الكتابة المتاحة مثل تفعيل تيار الوعي، والحوارات الذاتية للشخوص، وكذا الانصراف عن السرد الخطي والبناء الهندسي للحدث والزمن. (3) الملمح النقدي لأهم رواياتها «الخروج في رحلة بحرية» رواية توظف أكثر التيمات الروائية قدما وقداسة؛ الرحلة. تدور حول قدر «راشيل فينريز» التي ماتت أمها النشطة المتسلطة وهي بعد طفلة في الحادية عشرة، لتتركها تشب مع أبيها الخامل وعمتيها العانسين. لم تتواءم راشيل عضويا كما ينبغي حتى غدا عمرها 24 عاما. لدرجة أنها لم تكن تعرف شيئا عن الجنس اللهم عدا الشذرات السطحية المستقاة من المدرسة. مع هذا كانت عازفة بيانو بارعة. أسرها الفن والبيانو فتلخص حلمها ومثالها الأعلى في كلمة «فنانة»، حد أن غدت غير متوائمة مع كل مفردات الحياة باستثناء «الفن».
تبدأ الرواية برحلة بحرية في المحيط على سطح باخرة متواضعة تدعى «إفروزين».
26
الباخرة تبحر من إنجلترا صوب جنوب أمريكا ثم إلى أعلى حيث الأمازون. كانت راشيل في رفقة عمتها هيلين آمبرووز، وهي امرأة في بدايات الأربعين حاسمة وغير عاطفية، وهي إحدى الشخصيات المحورية في الرواية إلى جانب راشيل.
هبطت المرأتان في سانتا مارينا؛ إحدى قرى الساحل الجنوب الأمريكي، أخذتا مقامهما في فيلا بدائية ذات حديقة مهملة وتورطتا في التعامل مع مرتادي الفندق الوحيد في القرية، الذين كان من بينهم شابان هما: القديس جون هيريست، الذي يشبه إلى حد بعيد ليتون ستراتشي وسيقع في حب هيلين، والآخر هو تيرينس هيوات، وهو روائي طموح (الشخصية التي من خلالها ستعبر وولف عن معظم آرائها حول فن الكتابة عبر الكثير من الجدل والحوارات التي سيقيمها ذلك الشخص )، وهو سوف يحب راشيل.
أخيرا يقوم بعض أعضاء الفوج بعمل الرحلة الثانية في النهر صوب الغابة، وهنا تأخذ الأحداث مسارات أخرى ويتبدل كل شيء. «الخروج في رحلة بحرية» تحكي قصة العشاق التعسين المنهزمين ويتم رصدهم ضمن أصداء كورال من قصص أخرى ووجهات نظر مغايرة، أي عبر منهج التعدد المنظوري. «السيدة دالواي» 1925م (الرواية التي نسجت حولها رواية «الساعات» للروائي «مايكل كاننجام»
27
الصادرة عام 2002م - والفائزة بجائزة بارتليز)، عبارة عن شبكة شديدة الاشتباك والتعقيد مجدولة من أفكار مجموعة من البشر خلال يوم واحد من حياتهم. ثمة حدث واحد بسيط، وراءه حركة شديدة التسارع والديناميكية من الحاضر إلى الماضي ثم إلى الحاضر ثانية من خلال ذاكرة الشخوص. البطلة المحورية «كلاريسا دالواي» مضيفة لندنية ثرية، تقضي نهار أحد الأيام منهمكة في الإعداد لحفل المساء، تستدعي حياتها قبل الحرب العالمية الأولى؛ ذكرياتها قبل زواجها من «سبتيمس دالواي» وقبل صداقتها للمرأة غريبة الأطوار «سالي سيتون» التي ستعود بلقبها الجديد «السيدة روستر»، ثم تستدعي علاقتها ب «بيتر ويلش» الذي ما زال متيما بها. وأثناء الحفل، الذي لم يحضره المجند الإنجليزي «ريتشارد سبتيمس» (صديقها القديم الشاعر، الذي أقيم الحفل على شرفه من أجل تكريمه لفوزه بجائزة في الأدب، وكان قد آثر العزلة في منزله البسيط إثر أصابته في الحرب العالمية بصدمة نفسية تسمى «صدمة القذيفة».
28
وكان أحد أول المتطوعين في الحرب). يقع الحدث الأكبر.
عند وصول رئيس الوزراء بالضبط إلى مكان الحفل في بيت كلاريسا، يقوم «سبتيمس» بإلقاء نفسه من شرفة منزله المنعزل على مرأى من «مسز دالواي» التي راحت إليه لتصطحبه إلى الحفل فباغتها وانتحر بعد حوار قصير معها فحواه أنه يفضل الذهاب إلى الموت عوضا عن انتظاره. من المقاطع الشهيرة في الرواية: «كان أول ما تبدى لها، تلك الممارسات الطائشة التي تخرق الآداب الاجتماعية وتقاليد اللياقة، لكن تلك الممارسات في جانب آخر تحولت إلى رمية سهم في السؤال الوجودي الأكبر الذي يلازم حياتنا. بينما تغادر مسز دالواي الحفل خلسة لتتجه نحو شرفتها، تتأمل القضبان الحديدية الرأسية التي تشكل سور الحديقة وتفكر: ثمة قضبان مماثلة تسور جسد «سبتيمس» التعس، وتسأل عما إذا كان هناك هدف وخطة وراء حياتنا؟ لماذا نستمر في الحياة في وجه الألم والمأساة؟» «صوب المنارة»: رواية ذات بناء ثلاثي الأبعاد: الجزء الأول، يتعرض لحياة أسرة فيكتورية (كلاسيكية محافظة)، الثاني، يرصد حقبة زمنية مدتها أعوام عشرة، بينما يتناول الجزء الثالث أحد الصباحات التي تخلد الأشباح فيها للنوم. الشخصية المحورية في الرواية، مسز رامساي، مستوحاة من شخصية والدة وولف، وكذا بقية الشخصيات في الدراما كلها متكئة، بشكل أو بآخر، على ذكريات وولف مع عائلتها. «أورلاندو» 1928م رواية خيالية فانتازية. يتتبع السرد فيها مصير البطل الذي تحول من هوية ذكورية، داخل بلاط المحكمة الإليزابيثية، إلى الهوية المؤنثة. الكتاب مزود بصور لصديقة وولف «فيتا ساكفيل ويست» في ثياب أورلاندو الرجل. وعن العلاقة الملتبسة بين وولف وفيتا، حسب «نيجل نيكلسون»، فإن المبادرة كانت من جانب وولف الخجول رغم اتساع خبرة فيتا. وقد تزامنت تلك العلاقة مع أعلى ما أبدعته وولف أدبيا. في عام 1994م استثمرت «إليين أتكينس» خطابات وولف وفيتا في خلق إبداع درامي خلال مسرحية «فيتا وفرجينيا» بطولة «أتكينس» و«فانيسا ريدجريف». (4) النسوية في كتابات وولف
في رسالة لصديقتها «فيتا ساكفيل»
29
تكلمت فرجينيا عن تلك المرحلة المبكرة من حياتها قائلة: «هل تتخيلين في أي بيئة نشأت؟ لا مدرسة أقصد إليها؛ أقضي يومي مستغرقة في التأمل وسط تلال من كتب أبي؛ لا فرصة على الإطلاق لالتقاط ما يحدث هناك خلف أسوار المدارس؛ اللعب بالكرة، المشاحنات الصغيرة، تبادل الشتائم، التحدث بالسوقية، الأنشطة المدرسية، وأيضا الشعور بالغيرة!»
عبر مشروعها الأدبي؛ ظهرت ملامح الرفض والثورة في مقالات كثيرة رصدت وولف خلالها تباين التوجهات الاجتماعية نحو كل من المرأة والرجل. رافضة أن تكون الحتمية البيولوجية أساسا للتمايز الحقوقي بين الجنسين. أهمها تلك المقالات المجموعة بعنوان «غرفة تخص المرء»،
30
ناقشت فيها موضوعة كتابة النساء، أو النساء وفعل الكتابة. ورصدت صمت النساء اللواتي «خدمن طيلة قرون باعتبارهن مرايا تمتلك قوة سحرية بوسعها أن تعكس صورة الرجل بضعفه الحقيقي». تحدثت عن النساء اللواتي تم إقصاؤهن خلال قرون طويلة مضت ومنعهن من الدخول إلى المكتبات، أو السير على عشب الجامعة «المقدس». غير أنه فيما أقصي جسد المرأة (الحقيقي) عن المؤسسة الثقافية، ظلت المرأة، ك «جسد»، دوما موضوع المجاز الأدبي والتعبير الفني لدى الكاتب الرجل، وكذلك مادة استقراء لدى مختلف الدراسات السيكولوجية والسوسيولوجية، واعتمد الرجال على النساء ليكن الشاخص الجاهز لتصويب السهام، والشاشة التي تعرض عليها النظريات والإخفاقات الذكورية. ف «الرجل لا يرى المرأة سوى في أحمر العاطفة لا في أبيض الحقيقة»، حسب تعبير وولف.
وربما تذكرنا تلك الفكرة - الحقيقية إلى حد بعيد - عن المرأة من خلال منظور الرجل ومنظور المجتمع بكتاب «الجنس الآخر» للكاتبة سيمون دو بوفوار حين قالت ما معناه إن المرأة لا تولد أنثى بالمعنى التداولي التنميطي للكلمة، لكن المجتمع يجعلها كذلك.
ظهر اهتمام فرجينيا البالغ بقضايا المرأة في تلك المحاضرتين اللتين ألقتهما عام 1928م في جامعة كامبريدج والتي فيهما أطلقت مقولتها الشهيرة «إن النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل مادي خاص بهن، وإلى غرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة.» نشرت المحاضرتان في الكتاب السابق ذكره وصدر عام 1929م. تناولت فيه تاريخ مشروع أدبي تحاول أن تكتبه امرأة، وأشارت، للتدليل على التباين بين المتاح للرجل الكاتب والمتاح للمرأة الكاتبة، إلى «جوديث» أخت شكسبير وكيف أن الحيف الذكوري أزاحها عما يفترض أن تكونه ككاتبة مرموقة انتصارا لحقوق شكسبير (الذكر)، رغم إقرار الجميع بفطنتها ونبوغها في الكتابة. أشارت أيضا إلى «جين أوستن»
31
وكيف كانت تخبئ كتابتها بمجرد أن تسمع صرير مزلاج الباب. تلك الأمثلة، وغيرها مما ساقت فرجينيا في كتابها، تخلص إلى المبرر الإنساني والعملي الذي يحتم حصول المرأة الكاتبة على مناخ يشبه ذات المناخ المتاح للكاتب الرجل؛ مثل غرفة مستقلة توفر قدرا من الخصوصية للمبدعة، وأيضا حقها في شيء من الاستقلال الاقتصادي. حيث لم يكن مقبولا في عصر فرجينيا أن يكون للمرأة مالها الخاص ولم يكن متاحا لها أن تختار مصيرها على نحو مستقل مثل الرجل . من أقوالها الشهيرة في هذا الكتاب: «إنه لمن البغيض أن يسجن المرء داخل غرفة، وكم هو أسوأ، ربما، أن يحرم من دخول غرفة مغلقة!»
وتتعرض وولف في ذات الكتاب للعراقيل والممارسات الإجحافية التي تعترض تطور مشروع المرأة الأدبي والثقافي، وتحلل الاختلافات بين المرأة بوصفها «شيئا» أو «موضوعا» يمكن الكتابة (عنه) وبينها ك «مؤلف أو كمبدع». أكدت وولف أن ثمة تغييرا واجب الحدوث في شكل الكتابة بوجه عام لأن «معظم المنجز الأدبي كتبه رجال انطلاقا من احتياجاتهم الشخصية ومن أجل استهلاكهم الشخصي». وفي الفصل الأخير تكلمت عن إمكانية وجود عقل بلا نوع (أي لا يحمل السمة الذكورية أو النسوية). واستشهدت وولف بمقولة كولريدج:
32 «العقل العظيم هو عقل لا يحمل نوعا، فإذا ما تم هذا الانصهار النوعي يغدو العقل في ذروة خصوبته ويشحذ كافة طاقاته.» وأضافت وولف: «العقل تام الذكورية ربما لا ينتج شيئا أكثر من العقل تام الأنثوية.» «ثلاثة جنيهات»
33
1928م، وهي مقالة تناقش فكرة المساواة والدعوة للسلام، وتعد المقالة المتممة لمقالة «غرفة تخص المرء» وفيها تختبر إمكانية مطالبة النساء بإنشاء تاريخ خاص وأدب يخص المرأة وحسب.
ككاتبة مقالات، كانت فرجينيا وافرة الإنتاج حيث نشرت حوالي خمسمائة مقالة في دوريات ثقافية وكتب، بداية من عام 1905م. اتسمت مقالات وولف بالطابع الحواري والتساؤلي الذي يجعل من القارئ مخاطبا ومطالبا بالإدلاء برأيه أكثر منه متلقيا سلبيا. اعتمدت مقالاتها الملمح الجدلي حيث تخفت نبرة المؤلف الذي يدلي ببيان للقارئ.
كان لفرجينيا وولف دور اجتماعي بارز في مناهضة العنف كما كانت أحد الناشطين في حركات التحرر النسائية، وهذا ما أظهرته بوضوح في مقالات كثيرة، وكانت عضوا بارزا في جماعة بلوومز بيري الأدبية. نشرت مقالاتها النقدية والتحررية في ملحق التايمز الأدبي، أما مؤلفاتها فقد أصدرتها دار «هوجارث» التي أنشأتها وزوجها الناقد والكاتب ليونارد وولف؛ تلك الدار التي بدأت بطابعة صغيرة يمكن وضعها على طاولة، ثم تطورت حتى أصدرت مؤلفات مهمة لقامات أدبية عالية، كما أسلفنا. (5) آخر أعمالها «بين فصول العرض»
34
تلك الرواية هي آخر ما كتبت وولف، والتي ماتت قبل أن تشهد صدورها في كتاب. تشعر منذ الوهلة الأولى أنك أمام أغنية بجعة تطلق وداعا حزينا للوطن في عشية الحرب العالمية الثانية التي بات من المتوقع أن تطلق تعويذة دمارها الشامل خلال ساعات.
النسخة النهائية من آخر أعمال وولف وأكثرها غنائية هي التي تحتوي على النص الأصلي التي كانت تتوفر على كتابته حتى لحظة موتها.
تجري الأحداث في قرية «بوينتز هول»،
35
موطن عائلة أوليفر منذ مائة وعشرين عاما، وتدور الأحداث حول مهرجان القرية السنوي الذي يسقط على تاريخ إنجلترا (ويتهكم عليه) منذ العصور الوسطي وحتى صيف 1939م. الأحداث الكوميدية على منصة العرض، ردود أفعال القرويين حيال النظارة، مزج الحاضر بالماضي، كل تلك الأمور تؤكد معتقد فرجينيا وولف أن الفن هو مبدأ وحدة الحياة.
خلال منهج التجريب الحداثي ذاته، الذي شخصت به «صوب المنارة»، يمكن للقارئ بسهولة متابعة أحداث الرواية. لكن تظل إعادة القراءة ضرورة لسبر غور النص واستكشاف عمقه وإسقاطاته السياسية والاجتماعية بل والوجودية.
تقع الرواية في أحد أيام شهر يونيو 1939م في عزبة بالريف الإنجليزي تدعى «بوينتز هول»، مملوكة لعائلة «أوليفر» ذات الارتباط المرضي بالماضي والجذور السلفية، إذ تولي ولاء حميما للسلف إلى درجة الاعتقاد بأن «الساعة» التي أوقفتها رصاصة في معركة قديمة جديرة بالمحافظة عليها وإقامة معرض خاص لها.
كل عام في نفس ذلك الوقت، يهيئ آل أوليفر حدائقهم لإقامة فعاليات الحفل، ويسمح للفلاحين بارتياد الموكب ورفع المال إلى الكنيسة. وكان من المقرر في برنامج ذلك العام أن يكون الموكب سلسلة من التابلوهات التي تمجد تاريخ إنجلترا منذ عهد شوسر وحتى الزمن الراهن.
آل أوليفر أنفسهم كانوا تابلوهات للشخوص. كل يجسد ملمحا بشريا ما، يفصل بين كل منهم حائط من عدم التواصل والاغتراب. وتظهر الرواية تباين مواقفهم وردود أفعالهم تجاه الحرب الوشيكة التي ستغير خارطة التاريخ.
العجوز «بارثولوميو أوليفر» وشقيقته «لوسي سويزن»، كل منهما أرمل، يعيشان مع بعضهما الآن بنفس العلاقة المتذبذبة التي عاشا عليها خلال الطفولة. «جايلز» نجل أوليفر، مقامر في البورصة، يسافر إلى لندن يوميا من أجل العمل، ويعتبر ذلك الحفل شيئا مزعجا لا فرار من تحمله. «آيزا» زوجته غير القانعة، تخفي أشعارها عنه، وتفكر في إقامة علاقة غير شرعية مع مزارع في القرية.
في نهاية الحفل، تخطط مخرجة العرض شيئا خاصا وفريدا من أجل الاحتفال بالحاضر؛ شيئا له إسقاطات ذات أبعاد سياسية كانت تعنيها وولف: تجعل الممثلين يوجهون مراياهم صوب الجمهور وكأنها تقول: انظروا إلى وجوهكم، انظروا كيف أصبحت إنجلترا؛ يلفها العار والجمود. أليس كذلك؟»
على النحو نفسه أشهرت وولف مرآة في وجه البشرية؛ مرآة تعكس حزننا وخيباتنا عبر شخوص روايتها.
ربما تلك الدلالة، غير المبهجة، هي الأكثر مناسبة لتلخيص مصير كاتبة مثل وولف، أحد أعظم رموز الحزن في التاريخ. (6) شبح الموت حول فرجينيا
إبان الاجتياح النازي، أعدت وولف وزوجها المؤن واتخذا تدابير الاستعداد حال الخطر. فاتفقا على تصفية نفسيهما جسديا، عن طريق الانتحار بالغاز السام، إذا ما هوجما من قبل النازيين (نظرا لكون زوجها يهودي الأصل).
لم تكن ظلال الخوف من الاجتياح النازي بكل ما تحمل من رائحة الموت وحدها التي مثلت شبحا ضاغطا على روح وعقل فرجينيا. فقد أثقلت المرأة بحوادث فاجعة كثيرة ليس بدءا بموت أمها المبكر ولا بموت أبيها البطيء ولا شقيقها المحبوب، ولا انتهاء بالأصدقاء الذين كانوا يذهبون إلى الحرب ولا يعودون بعد ذلك أبدا. فكأنما كان الموت يترصدها كما ترصد محيطها، فقررت أن تذهب إليه بدلا من أن تنتظر مجيئه على مبدأ «بيدي لا بيد عمرو».
تقول في يومياتها التي كتبتها بين عامي 1931م و1935م، وهي ما صدرت في كتاب حديث بالترجمة الألمانية، إنها ذهبت مع زوجها ليونارد وولف بعدما حصد الموت فجأة صديقهما المشترك «لايتون استراشي» من أجل مواساة حبيبته دورا كارينجتون التي بدت غير مصدقة حتى اللحظة فقدان حبيبها. تقول وولف «كم بدت خائفة! بدت كطفل يخشى أن يخطئ كيلا يطوله العقاب. وحين هممنا بالانصراف رافقتنا دورا إلى الطابق السفلي حتى باب المنزل، قبلتني مرات عديدة. قلت لها: تأتين لزيارتنا إذن في الأسبوع المقبل؟ قالت: نعم سآتي، وربما لن آتي. ثم قبلتني مرة أخرى قائلة: «وداعا.» ثم دلفت إلى الداخل. التفت لألوح لها، فوجدتها تقف هناك تشخص فينا. لوحت لي أكثر من مرة، ثم اختفت.»
كان ذلك المشهد هو آخر ما عرف الزوجان عن صديقتهما. في اليوم التالي عند الثامنة والنصف أطلقت دورا الرصاص على نفسها من بندقية صيد. ولم يبرح عين فرجينيا مشهد الوداع المستطيل والتلويح المتكرر، والالتفاتات المتواترة، وشخوص الصديقة الراحلة فيها عند باب البيت، ثم الحدس السيئ الذي باغتها في تلك اللحظة بالذات بأن ثمة نذيرا في الأفق الوشيك. شبح الموت الذي طفق يدوم ويحوم في أفق وولف يحصد كل من أحبتهم واحدا إثر واحد حتى إنه لم يغفل «بينكا»، كلبتها المحبوبة. (7) النهاية
حين استشعرت أن ضربة عقلية أخرى في طريقها إليها، أثقلت فرجينيا وولف جيوب ثوبها بالأحجار وأغرقت نفسها في نهر «أووز»
36
بالقرب من منزلها ببلدة «سسيكس»
37
في 28 مارس 1941م. وكانت قد انتهت لتوها من مسودة كتاب «بين فصول العرض».
وجدت بين أوراقها رسالتان تعلن فيهما عن انتحارها، إحداهما لشقيقتها فينيسا والأخرى لزوجها. الأولى بتاريخ يسبق توقيت الانتحار بعشرة أيام؛ مما يشي بأن محاولة فاشلة للانتحار قد تمت في ذاك التوقيت، سيما وقد عادت مرة إلى البيت مبتلة الثياب من جولة لها على الأقدام، وفسرت الأمر بأنها سقطت في الماء.
في رسالتها الأخيرة لزوجها كتبت وولف: «أيها الأعز، لدي يقين أنني أقترب من الجنون ثانية. وأشعر أننا لن نستطيع الصمود أمام تلك الأوقات الرهيبة مجددا. فلن أشفى هذه المرة. بدأت أسمع الأصوات ولم يعد في وسعي التركيز. لهذا سأفعل الشيء الذي أظنه الأفضل. لقد وهبتني أعظم سعادة ممكنة. كنت دائما لي كل ما يمكن أن يكونه المرء. لا أظن أن ثمة زوجين حصلا ما حصلناه من سعادة إلى أن ظهر هذا المرض اللعين. لقد كافحت طويلا ولم يعد لدي مزيد من المقاومة. أعرف أنني أفسدت حياتك، لكنك في غيابي سيمكنك العمل. وسوف تواصل العمل، أعرف هذا. أنت ترى أنني حتى لا يمكنني كتابة هذه الرسالة على نحو سليم. لم أعد أستطيع القراءة. ما أود أن أقول هو أنني أدين لك بكل سعادة مرت في حياتي. لقد كنت صبورا إلى أقصى حد، وطيبا على نحو لا يصدق. أود أن أقول هذا، كل الناس يعلمون هذا. إذا كان ثمة من أنقذني فقد كان أنت. كل شيء ضاع مني إلا يقيني بطيبتك. لا أستطيع أن أستمر في إفساد حياتك أكثر.»
ف. و.
بعدما أنهت تلك الرسالة، غادرت منزلها الريفي في رودميل
38
في الساعة الحادية عشرة صباحا، ومعها عصا التجوال، عبرت المرج الذي يفصل بيتها عن النهر، ثم أثقلت جيوب معطفها بالأحجار.
لم ينتشل جثمانها حتى يوم 18 أبريل، حين اكتشفته مجموعة من الصبية أسفل مجرى النهر. تعرف زوجها على الجثمان، ثم أجري التحقيق في اليوم التالي في «نيوهافين».
39
وجاء الحكم حسب الصياغة القياسية في ذاك الوقت بأنه «انتحار أثناء حال اضطراب في الميزان العقلي».
في «برايتون»
40
يوم 21 من أبريل، تم إحراق الجثمان في عزلة وصمت، ثم نثر رماده تحت إحدى شجرتي الدردار حول منزلها. (8) أيام فرجينيا الأخيرة
تقول فرجينيا وولف: «لا حدث يحدث بالفعل إذا لم يدون.»
وربما تفسر تلك العبارة اهتمامها بتدوين يومياتها التي من خلالها، ومن خلال يوميات زوجها وتقارير الأطباء والأصدقاء، سنحاول أن نرسم شهورها الأخيرة، وما هي الأعراض والأحداث التي سبقت موتها؟ وكم من الزمن لازمها الاكتئاب؟
بعد حوالي أربعين سنة من موتها تكلم زوجها ليونارد وولف عن العام الأخير في حياتها وعن حادثة الانتحار تحديدا في أحد مجلدات سيرته الذاتية. وقد شكك في دوافعه عدد من النقاد المناصرين لحركات التحرر النسائي، لكن يومياته وأنشطته خلال فترة زواجه من فرجينيا بدت دقيقة ولا تفتقر إلى التفاصيل رغم التكثيف وعدم الإسهاب، على عكس ما كانت تفعل فرجينيا في يومياتها.
قال واصفا تلك الفترة: «ثلاثمائة وتسع عشرة ليلة عاصفة تمشي ببطء صوب الكارثة.» كان ذلك توصيفه للفترة الزمنية ما بين إرسالها أوراق مسودة السيرة الذاتية التي كتبتها عن «روجر فراي»
41
لطباعتها ، وكان ذلك يوم 13 مايو 1940م، وبين يوم انتحارها في 28 مارس 1941م. لكنه ذكر أنها كانت قد مرضت فقط منذ وقت قريب: «فقدان التحكم في العقل بدأ فقط قبل شهر أو شهرين قبل واقعة الانتحار.»
وبالرغم من إقراره أن تلك الفترة بين التاريخين السابقين كانت مشحونة بالتوتر والضغط على الجميع، سيما في منطقة كجنوب إنجلترا آنذاك، حيث الغارات الجوية وتزايد فرص التهديد بالاجتياح، إلا أنه كتب: «إن فرجينيا كانت سعيدة معظم الوقت، وبدا عقلها هادئا أكثر من المعتاد.»
في شهري مايو ويونيو عام 1940م، كانا قد تناقشا، آل وولف، فيما بينهما وبين أصدقائهما حول الخطوة التي يجب أن يتخذاها حال الاجتياح النازي. لم يكن لديهما شك حول الكيفية التي يمكن أن يعامل بها نشطاء سياسيون مثلهما؛ مثقف يهودي وزوجته، من قبل النظام النازي. «اتفقنا أننا حين تحين اللحظة سوف نغلق باب الجراج وننتحر بالغاز السام.» في يونيو 1940م زودهما «آدريان ستيفن»، شقيق فرجينيا المحلل النفسي، بجرعات قاتلة من المورفين لتساعدهما على الموت في حال الغزو. كان هذا قرارا مشتركا بين الزوجين وليس من دلالة له على حالة الاكتئاب لديها، ولم يكن نتاج فكر ذي ملمح تدميري انتحاري من جانبها. حتى إنها لم تستخدم المورفين حين قررت إنهاء حياتها.
في فبراير 1940م أصيبت فرجينيا بالإنفلونزا، وأمضت ثلاثة أسابيع في الفراش. لم يكن قد سيطر بعد على هذا المرض من قبل الطب في ذلك الزمن، فكان يسبب لها، ضمن أعراضه، صداعا طويلا، وربما يخلف لونا من الاضطراب المزاجي إذا لم يعالج جيدا مع الراحة التامة.
خلال بقية العام كانت نشطة ومنتجة، إذ كانت متوفرة على كتابة ثلاثة أعمال في وقت واحد خلال نوفمبر 1940م. ومع ديسمبر كانت انتهت من مسودة روايتها الأخيرة «بين فصول العرض». غير أن حروف المخطوطة في ذاك الشهر وشت بأن يدها كانت ترتعش أثناء الكتابة. ومع نهاية العام كان ملمح من الإحباط وعدم الثقة بالنفس قد أعلن عن نفسه في خطابها لصديقتها الطبيبة، الممارس العام، «أوكتافيا ويلبرفورس»:
42 «فقدت كل سيطرة على الحروف، ليس بوسعي صياغة شيء منها.»
آثار الحرب كانت تمتد إليهم؛ منزلهم في لندن ومكان عملهم في ميدان ميكلنبرج
43
كانا قد فجرا بقذيفة. وتم نقل كل أثاث المنزلين والأوراق الخاصة بفرجينيا وزوجها وكذلك معدات الطباعة لتخزن في كوخ ملحق بالمنزل الريفي خاصتهما.
في أوائل عام 1941م قررت فرجينيا إعادة قراءة كل تراث الأدب الإنجليزي وشرعت بالفعل في تنفيذ مشروعها.
سجل ليونارد وولف أول أعراض ما أسماه «اضطراب عقلي حاد»
44
في 25 يناير عام 1940م، وهو يوم عيد ميلادها، أثناء مراجعتها بروفة «بين فصول العرض»، كانت قد استمتعت بكتابة تلك الرواية، وكتبت حين انتهت من المسودة الأولى في نوفمبر السابق: «أشعر بأنني حققت انتصارا صغيرا بهذا الكتاب ... استمتعت بكتابة كل صفحة تقريبا.» ولما أحكم الاكتئاب الأخير قبضته عليها، تملكتها فكرة أن هذا الكتاب كان فشلا ذريعا.
اعتاد ليونارد أن يأخذ موقفا فوريا. قال في يومياته: «لسنوات كنت اعتدت أن أرصد أية علامات تنبئ بقدوم خطر على عقل فرجينيا، في البداية كانت الأعراض الإنذارية تجيء بطيئة لكن غير مضللة: الصداع، عدم النوم، فقدان المقدرة على التركيز. كنا تعلمنا أن الانهيار يمكن دوما تجنبه إذا ما تقوقعت داخل شرنقة السكون بمجرد أن تعلن الأعراض عن نفسها. لكن في هذه المرة لم تظهر الأعراض المنذرة.» الانهيار الآخر الذي حدث بغير مقدمات كان الأول في عام 1915م، وهو انهيارها الأطول والأكثر حدة.
الكاتب جون ليمان،
45
الذي كان يعمل في تلك الآونة لدى آل وولف في دار نشر هوجارث، كان رآها قبل أسابيع من موتها وتلقى أحد آخر رسائلها. كان قد طلب منه أن يقرأ البروفة النهائية من «بين فصول العرض» وكانت في تلك الآونة موقنة أن هذا العمل لا يساوي شيئا. في هذا الصدد يتذكر ليمان حالتها العقلية في مارس 1941م قائلا: «أصبحت مدركا تماما أن فرجينيا بدت متوترة وعصبية للغاية وتشارف الانهيار، كانت يداها ترتعشان بين الحين والآخر، بالرغم من أن حديثها ظل رصينا وواضحا على نحو تام. كانت قد أعطتني الرواية بثقة ، غير أنها فجأة بدت متشككة وقالت إنها رديئة جدا، لا يمكن أن تطبع ولا تستحق سوى التمزيق. وبكل رقة ولكن على نحو حاسم خالفها ليونارد رأيها.»
في الأيام التالية شرع ليمان في قراءة المخطوطة: «أول ما لفت انتباهي كان طريقة الكتابة - خط يدها - كانت الحروف غير منمقة ولا ينتظمها السطر، وهو مخالف لكل ما سبق من المخطوطات التي قرأتها لها من قبل. كل صفحة كانت زاخرة بالشطب والتصليحات، فطرأ على بالي أن اليد التي كتبت هذا الكلام قد مسها تيار كهربائي عالي الفولت.»
بعد هذا وصله خطاب من فرجينيا تخبره أن الكتاب سخيف ومبتذل وتافه، ولا ينبغي أن يطبع، وكانت الرسالة مغلفة برسالة أخرى لليونارد يقول فيها إنها على تخوم الانهيار. كلتا الرسالتين كتبت قبل يوم واحد من الانتحار. يقول ليمان: «حين وصلتني الرسالتان كان الوقت قد فات، فقد كنت موقنا من تيار الحزن الذي يسري بقوة تحت الكلمات في روايتها الأخيرة «بين فصول العرض»، الاكتئاب الحاد، الخوف الهائل، برغم الانطباع الأساسي والظاهري في الرواية، الذي كان أشبه بضحكة مدوية وثورة.»
الشاهد الآخر كان طبيبتها الخاصة «أوكتافيا ويلبرفورس» وهي من سلالة «وليم ويلبرفورس». وكانت في تلك الآونة تدير مزرعة لمنتجات الألبان في منطقة قريبة في الجوار، وكانت تمد آل وولف بمؤن من الزبد والقشدة والألبان في تلك الشهور العجاف بسبب الحرب. كانت تزور منزل فرجينيا الريفي بانتظام منذ يناير 1941م، لكن الزيارة الرسمية بصفتها المهنية كطبيبة لم تبدأ إلا منذ 17 مارس. قبل ذلك بثلاثة أيام كانت فرجينيا تناقش إحدى قصصها القصيرة مع د. أوكتافيا وقالت لها إن تلك القصة قد تركتها محبطة ويائسة إلى أقصى العمق.
د. ويلبرفورس عملت بعد ذلك كطبيب منتدب في مصحة «جرايلينج ويل»،
46
لكن معلوماتها في الطب النفسي كانت، مثل كل الأطباء آنذاك، أولية برغم أنها قرأت كثيرا في فرويد. وبناء على طلب ليونارد فحصت الطبيبة فرجينيا يوم 27 مارس، أي في اليوم السابق على انتحارها. كانت الطبيبة مريضة بالإنفلونزا وغادرت فراشها خصيصا من أجل هذا الفحص . وبادرتها فرجينيا بأن زيارتها لم تكن ضرورية على الإطلاق، ولم تجب على أسئلتها بصدق. كانت عنيدة ومقاومة للغاية وطلبت وعدا بأنها لن تجبر على الراحة في الفراش - وهو الشرط الأول لدخول المصحات الرسمية - قبل أن تخضع للاختبار النفسي.
بدا من رسائل أوكتافيا التالية أنها بوغتت وصدمت من حادثة الانتحار. وهاتفت طبيبا صديقا لهما كي تتأكد من الواقعة. في 28 مارس كتبت: «أنا مسكونة بشبح فرجينيا ومسكونة بعجزي عن مساعدتها.» وزارت ليونارد الذي أخبرها أنه حين تزوجها لم يكن على علم بطبيعة مرضها، وبأن من طبيعة هذا المرض المعاودة كل فترة بعد الشفاء، وأخبرها كذلك عن كل الآراء التي قيلت لهم خلال فترة زواجهما من قبل الأطباء والمحللين. وفي يوم 29 مارس زارته ثانية، وأخبرها ليونارد أن فرجينيا بدت سعيدة ومختلفة جدا، بل مرحة أيضا بعد زيارتها الأخيرة لهما. على أنها كانت قبل ذلك محبطة طوال الوقت. ليس فقط في فترة الأيام العشرة التي كثف فيها ليونارد ملاحظته عليها. جاء في يومياتها ليوم 8 مارس: «أعمل علامة على جملة «هنري جيمس»:
47 «لا تتوقف عن المراقبة.» فأراقب العمر الذي يتقدم. أراقب الجشع. أراقب نوبات الكآبة والقنوط التي تنتابني، بهذه الوسيلة سوف يمكنني توظيف المراقبة.»
بدأ ليونارد يشدد الاهتمام بها منذ 17 من مارس. وكانت بارعة في المداراة وإخفاء المرض. حتى بعد هذا التاريخ كانت تكتب خطابات مبتهجة ومتماسكة وواضحة لعدد من أصدقائها. ربما كانت تروم إخفاء حالة الاكتئاب والأفكار الانتحارية عن زوجها وطبيبتها.
بعض النقاد والمحللين عولوا كثيرا على الحرب وحال التهديد والخوف من الغزو كأسباب مباشرة لانتحارها. ليونارد ود. أوكتافيا ويلبرفورس فكرا - بعد موتها مباشرة - أن الحرب الثانية ربما أعادت إلى فرجينيا ذكرى مرضها أثناء الحرب العالمية الأولى، وأن الأحداث الجارية ربما تكون قد حولت عقلها وأفكارها صوب الموت، لكن ليس صوب الانتحار.
قبل موتها بستة أشهر فقط، أي في 2 أكتوبر 1940م، كتبت فرجينيا وولف بنفسها افتتاحية جريدتها، أثناء الغارات الجوية، متخيلة كيف يمكن للمرء أن يموت في إحداها ببساطة، وقالت: «سوف أفكر .. أوه .. كلا ، أحتاج عشر سنوات أخرى .. ليس هذه المرة ...»
سجلت فرجينيا آراءها حول عملية الانتحار، بينما كانت في الثلاثينيات من عمرها وقد كانت في حال صحية جيدة آنذاك، خلال إحدى رسائلها مع المؤلفة الموسيقية «إيثيل سميث»،
48
وكانت واحدة من صديقاتها القليلات اللواتي أسرت لهن فرجينيا بمرضها القديم. فكتبت في 30 أكتوبر عام 1930م: «... بالمناسبة، ما هي الحجج التي يمكن أن تقام ضد الانتحار؟ هل تعلمين ما هي «مشنقة فليبيرتي»
49
التي أعاني منها؟ حسنا: يباغتني، مع صفق الرعد ، فجأة شعور حاد بعدم الجدوى التام لحياتي. هذا شيء يشبه الركض برأسك صوب حائط في نهاية حارة مسدودة. والآن ما هو التصرف حيال هذا الشعور؟ أليس من الأفضل إنهاؤه؟ لست بحاجة لأن أقول أن ليس لدي أية نوايا نحو أية خطوة في هذا الصدد، غير أني ببساطة أود أن أعرف .. ما هي الحجج ضد إنهاء الحياة؟»
بعدها بستة أشهر في 29 من مارس 1931م، عادت فرجينيا إلى الموضوع ثانية: «لماذا شعرت بالانفعال بعد المحفل؟ سيكون أمرا مثيرا أن تعتمدي على بصيرتك الداخلية لتري إلى أي حد يمكنك الكتابة عن حالات العقل المختلفة التي تقودك إلى أن تقولي لليونارد حين تعودين إلى البيت: «لو لم تكن أنت هناك، لكنت قتلت نفسي! آه، كم أعاني!»
بعدها بعدة أيام سمعت «بياتريس ويب»
50
تتحدث عن الانتحار، وفي 8 أبريل كتبت لها: «وددت أن أخبرك، لكنني كنت خجلة جدا، كم كنت سعيدة بآرائك حول مشروعية البحث عن تبريرات ومسوغات للانتحار! وبما أنني أقدمت على المحاولة بالفعل أقول إن من أهم الدوافع، كما فكرت، ألا أكون عبئا على زوجي، غير أن الاتهام التقليدي بالجبن والخطيئة دائما ما يحتل الصدارة في آراء الناس.»
كان الانتحار هو الحديث دائم الحضور لدى وولف، وكان بوسعها تناوله بهدوء كمادة حديث في أوقات صحتها العقلية، رغم يقينها أن محاولاتها السابقة كان لها ما يبررها وكانت من قبيل الإيثار والغيرية. ولأن فترات صباها ومراهقتها كانت متخمة بحوادث موت الأبوين والأشقاء، فقد ظل الموت حاضرا أمامها طيلة حياتها. وكان حضور الموتى لديها على نفس قوة حضور الأحياء، إلى درجة أن إحساسها بالواقع أحيانا ما كان يتشوش بقوة حضور وحيوية الماضي.
من خلال كل الاعتبارات السالفة، يمكن أن نستخلص تشخيصا دقيقا لمرضها الأخير. من خلال رسالتها الأخيرة التي تركتها قبيل انتحارها. أكد المحللون النفسيون في تقاريرهم أن التشخيص هو «حالة اكتئاب حاد». هي تقول إنها لم تكن مكتئبة وحسب، بل ماضية نحو الجنون ثانية، وأظهرت لونا من جلد الذات نتيجة إيمانها أنها تفسد حياة زوجها. تملكها اليأس من أن تستطيع مواجهة هجمة المرض الأخيرة؛ ولذا آمنت أن الحل الوحيد يكمن في إنهاء الحياة. جاء في تقرير ليمان أن تعليقها حول روايتها الأخيرة لم يكن مفهوما، سيما وقد كانت قبل شهور فخورة وفرحة بها. وكانت محاولات إقناعها بجمال الرواية أو بإمكانية الشفاء تبوء بالفشل ولا طائل من ورائها. رفضت فرجينيا في البداية أن تطلع الطبيبة، حين فحصتها في اليوم السابق للحادثة، على الأعراض التي تنتابها، ولم تخبرها أن ثمة خللا في الأمر. وبعدها أكد الأطباء أن الأعراض جميعها تتطابق مع «الاكتئاب الحاد».
حين كتبت فرجينيا أنها ذاهبة إلى الجنون «ثانية»، كانت صادقة وتكلمت من خلال خبرتها المزمنة مع الانهيار العقلي. حدث لها الانهيار الأول في عمر الثالثة عشرة، والثاني في الثانية والعشرين من عمرها، ثم الثامنة والعشرين، ثم الثلاثين من عمرها. ثم أمضت الفترة بين الواحدة والثلاثين والثالثة والثلاثين (1913-1933م) كاملة، يتناوبها المرض لفترات طويلة ومتواترة حتى خشي الأطباء من إطباق الجنون التام والدائم عليها. كانت هذه الضربات حادة، وكانت تتطلب أسابيع طويلة من العلاج الطبي والخلود للراحة في الفراش. وخلال فترة حياتها التالية كان مزاجها متقلبا معظم الوقت.
فسر انتحارها تلك السمة التي صبغت أعمالها من الغموض والتركيب. وأعيد قراءة كتاباتها من جديد على ضوء انتحارها كمحاولة استكشاف وتحليل للمأساة التي عاشتها وولف. (9) رواية «الساعات»
رواية «الساعات
The Hours »
51
2002 تأليف مايكل كننجام
Michael Cunningham ، الحائزة جائزة «بوليتزر»
52
لنفس العام.
تناولت الرواية آخر يوم في حياة «فرجينيا وولف». لعب المؤلف لعبته الذكية حين استعار تقنية وولف في بنائها الدرامي ووظفها في تشكيل روايته عنها. فتذكر القارئ أسلوب وولف اللاسردي اللاتراتبي في معالجة نصوصها حيث الأحداث تتجاور وخط الزمن أفقي، فيخلو القص من تيمة السرد الخطي التقليدي الصاعد الذي تتنامى فيه الأحداث مع التصاعد الزمني.
تتناول الرواية «الساعات» الأخيرة في حياة فرجينيا وولف عبر رصد يوم واحد في حيوات ثلاث عبر ثلاثة عصور، ومن خلال ثلاث نساء لا تعرف الواحدة منهن الأخرى حيث تفصل فيما بينهن حواجز رأسية/زمانية وحواجز أفقية/جغرافية، وليس من جامع بينهن سوى رواية «مسز دالواي» ووردة صفراء تتكرر في مشاهد عديدة:
كلاريسا:
53
محررة صحافية من الزمن الحالي (زمن كتابة الرواية) عام 2002م (وهي بطلة رواية «مسز دالواي» ذاتها).
لورا: ربة منزل في الزمن اللاحق للحرب العالمية الثانية مباشرة عام 1951م.
ثم الخيط الرابط بينهما؛ شخصية فرجينيا وولف ذاتها في عام 1923م أثناء محاولتها الشروع في كتابة روايتها الأشهر «مسز دالواي».
لقطة المفتتح في الرواية عام 1941م، وهو العام الذي أنهت وولف فيه حياتها عن طريق إغراق نفسها في نهر «أووز»، المجاور لمنزلها الريفي ببلدة سسيكس. رسم المؤلف مشهد الانتحار بالتفصيل، وبعدها يعود بالزمن إلى الوراء ليرصد لحظات حميمة وخاصة في حياة وولف؛ تلك اللحظات التي فيها تمسك بقلمها لتكتب.
ينتقل السرد بعد ذلك مباشرة إلى عام 1951م. إحدى القارئات (لورا) تطالع رواية «السيدة دالواي»، وعلى مقربة منها ابنها الصغير ريتشارد،
54
الذي سيغدو أحد أهم شخوص العمل الأدبي في الحقبة الثالثة من الزمن عام 2002م.
ثم ينتقل السرد مباشرة إلى الزمن الراهن (يحيلنا ذلك إلى تقنية وولف في التوازي الزمني)، فنجد السيدة دالواي ذاتها (كلاريسا)، تعد الترتيبات لإقامة حفل تكريم لذاك «الصغير» ريتشارد الذي أصبح الآن شاعرا مشهورا غير أنه أصيب بأزمة نفسية نتيجة إصابته بمرض خطير،
55
مما يدفعه إلى القفز من شرفة منزله المنعزل البائس يوم تكريمه في حفل أقيم على شرفه ولم يحضره أبدا.
سيمضي السرد في الرواية بالتوازي بين الأزمنة الثلاثة، ليرصد السيدات الثلاث، كل في عصرها، وحسب ظروف وشروط عصرها .
استعاد الروائي «كننجام» معبودته الأدبية «فرجينيا وولف» للحياة، ناسجا قصتها في تواشج ذكي مع امرأتين أكثر معاصرة (كلاريسا، لورا).
في أحد صباحات لندن الرمادية عام 1923م تصحو فرجينيا على حلم كئيب ومتكرر، سوف يقودها هذا الحلم إلى الشروع في كتابة روايتها الجديدة «مسز دالواي». تبدو حزينة لأنها انتزعت من منزلها الذي تحب في بلوومز بيري، ولا يخفف من حزنها واضطرابها حنو زوجها المحب ليونارد الذي أخذها إلى المنزل الريفي الهادئ؛ علها تشفى من انهيارها العقلي. تجاهد أن تكبح عصف عقلها الذاهب نحو الجنون ، وتحاول السيطرة على أفكارها لتكتب.
في الزمن الراهن، وعلى نحو متواز، يوم صحو من أيام شهر يونيو في بلدة «جرينيتش»
56
في لندن، كلاريسا فون،
57
التي تخطت الخمسين بعامين، تعد الترتيبات من أجل حفل تكريم يقام على شرف حبيبها القديم ريتشارد؛ الشاعر الذي فاز بجائزة أدبية كبرى، والذي ينتظره موت بطيء إثر إصابته ب «الإيدز!» وعلى الجانب الثالث، في لوس أنجلوس عام 1951م، «لورا براون»،
58
ربة البيت التي تنتظر طفلا، تشعر باضطراب وإحباط غير مبررين. يتملكها إحساس عدمي ويائس كلما حاولت أن تجد مبررا لوجودها خارج دور الأم والزوجة، سوى أنها مع هذا، تفعل ما في وسعها من أجل الترتيب لعيد ميلاد زوجها، لكنها لا تستطيع التوقف عن متابعة قراءة رواية «مسز دالواي» لفرجينيا وولف.
لقطات سريعة خاطفة لحياتي هاتين المرأتين وخط عريض وأساسي يتقاطع معهما يمس حياة وولف ذاتها فتتشكل شبكة درامية واحدة تجدل حيوات تلك السيدات الثلاث بخيوط تتقاطع مع رواية «مسز دالواي» من ناحية، ومن ناحية أخرى اشتراكهن في البحث عن «لحظات الوجود» الحقيقية، تلك اللحظات الثمينة التي يحاول فيها المرء أن يقبض على شيء من التحقق أو يجد مبررا مقبولا لحياته. حول ذلك المعنى يقول كننجام في روايته على لسان كلاريسا: «من هدايا الحياة الصغيرة لنا ساعة هنا أو ساعة هناك، حين تحنو الحياة فجأة - برغم كل العقبات والتوقعات - لتتفتح طاقة نور وتمنحنا كل الأشياء التي حلمنا بها طويلا.»
فيما يتجول كننجام بين النساء الثلاث، عبر انتقالات ناعمة غير مفتعلة، تلتقط وولف، في نهاية الفصل الأول، قلمها لتخط جملتها الأولى في الرواية: «قالت السيدة دالواي إنها سوف تشتري الورود بنفسها.»
Mrs. Dalloway said she would buy the flowers herself.
في بداية الفصل الثاني (نفس لحظة كتابة الجملة السابقة)، تمر عين «لورا» على هذا السطر تحديدا، فتبدو سيماء الابتهاج على وجهها، ربما لفكرة الورود وربما لكونها موشكة على حال استغراق وشيك مع رواية بقلم فرجينيا وولف التي تعشق كتابتها.
على الجانب الآخر، يصبح يوم كلاريسا (ابنة الزمن الحالي) انعكاسا مرآويا ليوم السيدة دالواي (بطلة رواية وولف وابنة أوائل القرن الماضي)، مع مسحة تحديثية تناسب زمن الألفية الثالثة (وتلك هي اللعبة الخطرة التي لعبها المؤلف من تعديل زمن رواية وولف وما يستتبعه هذا التعديل الزمني من تغييرات في الأحداث التي أساءت في بعض الأحيان إلى رواية وولف «مسز دالواي» إلى حد ما من وجهة نظر بعض النقاد)، ولكن يبدو أن المؤلف أراد أن يخرج من أسر زمن وولف ليفتح مجال الإلهام على مصراعيه ويفيد من تقنيات العصر الحديث، وكذا ليخلق ثراء دراميا على خط الزمن.
كلاريسا تعلم أن رغبتها القوية في منح صديقها القديم (المصاب بالإيدز في رواية «الساعات» والمصاب بصدمة القذيفة من الحرب العالمية حسب رواية وولف «مسز دالواي») حفلا رائعا ومتقنا كي يرفع من روحه المعنوية أمر سوف يبدو مبتذلا وغير مقبول بالنسبة للجميع. رغم ذلك فقد كانت موقنة أن ذاك الحفل ضرورة نفسية ووجودية ربما تسد ثغرة في باب اليأس المشرع على مصراعيه أمام الشاعر الذي ينتظر نهايته الوشيكة. غير أنه سيرفض حضور الحفل حين تذهب لدعوته قائلا: «... لكن سيظل علي مواجهة الساعات؛ الساعات التي ستعقب الحفل.» ثم يباغتها ويقفز من الشرفة. ليغدو الانتحار هو الخط الرئيسي في الرواية منذ المشهد الأول.
أحسن المؤلف توظيف تيمات فكر وولف التي تجلت في روايتها السيدة دالواي، وكذلك في مقالة «غرفة تخص المرء» ليصنع حبكة محكمة من التوازيات الزمنية والبشرية.
وبالرغم من محاولة مؤلف الرواية «تمجيد» وولف عبر روايته إلا أن التغييرات التي صاغ خلالها روايتها «مسز دالواي» (من أجل جعلها متسقة والزمن المعاصر الذي كتبت فيه) قد حملت وجهين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي.
ففي حين، فتح المؤلف قوس الزمن على اتساعه فمنح روايته ثراء تقنيا ومعاصرا لم يكن يتاح له لو أنه احترم زمن الرواية الأصلية لوولف في أوائل القرن الماضي، ومن ثم استفاد من «عصرنة» الشخوص لخلق دراما جدلية نتجت عن التباين الزماني بين نساء من أزمنة مختلفة.
غير أنه على الجانب الآخر أضعف جلال رواية «مسز دالواي» حين غسل عنها زمن الحرب الكونية الأولى بكل ما غلف تلك المرحلة من شجن واشتباكات وتداعيات سوسيولوجية وسياسية وانقسامات نفسية لمعاصري ذاك الزمن. وجازف بالاصطدام مع قراء وولف المعاصرين الذين أحبوا رواياتها بكل مفردات ذاك الزمان الجميل (لأن كل ماض هو جميل بالضرورة). كما أن استبدال إصابة الشاعر بالإيذر عوضا عن إصابته بصدمة عصبية من جراء انفجار قذيفة في الحرب على مقربة منه، يعد إساءة بالغة لرائعة وولف الروائية (هذا في رأيي على الأقل).
ربما كان من الضروري على قارئ رواية الساعات أن يكون على دراية بأسلوب كتابة وولف الروائية حتى يتسنى له فهم «الساعات» بسهولة، وفحص مفرداتها الجمالية من حيث البناء الدرامي وتوظيف الأحداث. فتلك الرواية هي تجسيد لفلسفة وولف التي صاغتها في إحدى رواياتها على لسان إحدى شخصياتها (غير أنها خانتها في حياتها بانتحارها) حيث تقول: «ليس بوسعك أن تجد السلام الداخلي، بتجنب الحياة.»
رواية الساعات، كما يقول الناقد كيري فريد،
59
هي ترنيمة وصلاة تضفر بين الوعي بما تمنحنا الحياة من جمال وما ترزؤنا به من خسارة، وتؤكد ما يحاول كننجام أن يثبته دائما خلال أعماله، وقد صرح به غير مرة، أن الفن أكثر رحابة وثراء من مجرد «عالم من الموجودات» التي نرى.
يذكر أن الرواية تم تحويلها إلى فيلم في ذات العام من إخراج «ستيفن دالدراي»،
60
جسدت فيه دور فرجينيا وولف الممثلة الأمريكية الجميلة «نيكول كيدمان»، وبرع الماكيير في نحت ملامح وولف بدقة وأنفها المميز على وجه كيدمان
61
حتى إن المشاهد يستطيع بالكاد البحث عن ملامح كيدمان الحقيقية في وجه وولف بطلة الفيلم. وجسدت دور لورا براون الممثلة «جوليان موور»،
62
بينما لعبت دور كلاريسا فون الممثلة «ميريل سترييب»،
63
وجسد «إيد هاريس»
64
دور ريتشارد سبتيمس.
القفز فوق سلم الزمن والانتقال المباغت بين فصول العرض والتقاطع المشتبك مع الوقت والشخوص هي أهم تقنيات وولف في البناء الروائي، وهي التيمة ذاتها التي لعب عليها المخرج في بناء دراما فيلمه الذي فاز بأوسكار.
يقول الناقد الأدبي «برناديت جاير» من ولاية أرلينجتون: «رواية الساعات تعد أحد أجمل الروايات المعاصرة التي قرأتها ، ومن السهل أن ندرك لماذا حصدت بوليتزر.
ويظهر تميز العمل في نجاح المؤلف في تناول الأمر من منظور المرأة، حيث نلمس كيف اخترق دواخل روح هاتين السيدتين، واستطاع أن يستلهم ويستقرئ كيف كانت تفكر وولف أثناء عملية الكتابة وماهية حوارها الداخلي.» (10) عن: رواية لم تكتب بعد
صدرت للمرة الأولى عام 1921م ضمن مجموعة قصصية بعنوان «الإثنين أو الثلاثاء».
هذه القصة لا تتبع النسق التقليدي للقص أو السرد المنطقي المتراتب المتعارف عليه في آونة كتابتها. فالكاتبة تحاول أن تشرح وتشرح عملية الكتابة ذاتها. فنجد الراوية تتكلم عن رواية تحاول أن تكتبها، لكنها لم تكتبها بعد. تصف لنا كيفية تخلق الفكرة والحبكة والسرد القصصي ومحاولات الكتابة والإخفاق والتعديل ثم إعادة الكتابة.
ستبني الراوية حبكتها الدرامية من خلال ما تستطيع قراءته من أفكار السيدة التي تجلس قبالتها في عربة بالقطار أثناء رحلة إلى الجنوب الإنجليزي. ستظل طوال الوقت ترقبها خلسة بعد أن أطلقت عليها اسم «ميني مارش». فتبني شخوصا محتملة وحبكة درامية لرواية على وشك الكتابة، وتغذي السرد بملاحظاتها حول السيدة بالمشاهدات الواقعية عبر نافذة القطار. وتنجح الراوية في تضفير الواقع بالخيال، والمتعين بالذهني، فإذا مر القطار بمدينة بها بعض البيوت المترامية، تلتقط عينها غرفة النوم العلوية في أحد تلك البيوت، لتنسج خطا دراميا توشجه في متن القصة المفترضة، وهكذا.
ولذا سنلمس تلك الوثبات المباغتة بين الواقعي والخيالي، بين صوت الراوية الراصد، وصوت الشخوص، في تداخل وتشابك قد يستغلق على القارئ في البدء ريثما يعتاد تلك الآلية مع تقدم القراءة.
لأن هذه القصة بروفة أولى أو مسودة (تعمدت الكاتبة أن تبدو على هيئة مسودة غير مكتملة) لرواية لم - ولن - تكتمل، سنجد فترات تأمل وتفكير من المؤلفة، أو لحظات توقف عن الكتابة بين الحين والآخر، عبرت عنها فرجينيا بشرطة مطولة ( -- )، وقد قمت بوضعها في ذات المواضع حسب النص الأصلي.
الارتباك في السرد مقصود من الكاتبة، لأنها تقف فوق لحظة الكتابة ذاتها بكل ما يعتورها من انصهار الوعي في اللاوعي، وبكل ما فيها من تردد ومفاضلة واختيار في محاولة لاقتناص الفكرة ثم العدول عنها أو إعادة تحريرها، وهكذا. إضافة إلى منهج وولف السردي خلال أسلوب التداعي الحر.
وقد حاولت أن أنقل ذلك الارتباك بأمانة قدر الإمكان، إلا في الحالات التي ارتأيت فيها أن اختلاف الروح والبنية الصياغية بين اللغتين الإنجليزية والعربية، سوف يسبب إلغازا وطلسمية عند المتلقي، في تلك الحالات فقط جانبت الأمانة قليلا ومارست النزر اليسير من «اللصوصية» أو التوضيح الطفيف بقدر ما يخفف حدة الغموض ويخدم عملية التلقي، وفي ذات الوقت لا يستلب من النص الأصلي ولا يضيف إليه.
تنتهج هذه القصة - كما يقول النقاد - أسلوب السرد التجريبي الحداثي، خلال لغة إنجليزية تقليدية رصينة. وهي عبارة عن مونولوج داخلي مندرج تحت «تيار الوعي» ومتأرجح بين شحذ الخيال الذاتي والرصد الظاهري للواقع الخارجي. وهذا السرد القصصي الذي يتماوج بين التشكيل التخيلي وبين الملاحظة الموضوعية، يقود الراوية صوب اكتشافات غير متوقعة سواء عن ذاتها أو عن طبيعة الفن والإبداع وعن كيمياء التشكيل الأدبي. (11) الملامح الرئيسية للعمل
تفتيت التراتب الزمني الكرونولوجي.
التباس وغموض الحبكة القصصية والأحداث.
تفعيل الإدراك الحسي، والنقلات المباغتة لعقل المؤلفة.
الإخلاص للقيم الجمالية ليوازن بين الأبعاد العديدة للواقعية ومحاولة تضفيرها في كل متماسك راسخ. وعدم الانشغال بالبناء السردي المحكم والنهايات ذات الحبكة التقليدية، بل ترك النص مفتوحا غنيا بفضاءات تسمح للقارئ بولوجها والتعامل معها وتكملتها.
الانشغال بعملية التأليف والإبداع، وكذا العلاقة الخاصة التي تنشأ بين الكاتبة وبين عملها الإبداعي الذي لم يزل في طور التكوين.
استجابة المبدع للعالم الخارجي لحظة خلق عالم الرواية.
التأكيد على فن الكتابة عوضا عن محاكاة الواقع الخارجي على نحو فوتوغرافي، والتأكيد على التخييل الإبداعي والواقع الداخلي الذاتي.
تشحيذ ملكة التخيل في أقصى صورها في ربط أنيق مع الواقع، أي تضفير الميتافيزيقي مع الفيزيقي، ومثال ذلك الرحلة التي خاضتها الراوية داخل جسد موجريدج، واصفة لنا تدفق الدم في القلب، وتشابك الضلوع والعمود الفقاري، وتماسك النسيج البشري، (ثم دخول خيط الواقع) حين ترقب تساقط قطع اللحم ودفقات الخمر داخل جوفه (إذ شرع في تناول وجبته)، ثم تجولها عبر جسده حتى تنتهي رحلتها إلى العينين لتبدأ في مشاهدة العالم من خلالهما.
الانشغال بمشكلات القمع: السياسي، النوعي، الجنسي، العاطفي، الروحي، الفكري.
التشكيل المعقد للخط الرمزي يصبغ الدلالات ووضوح الحدث بمسحة من عدم الترابط الظاهري، ويكرس التفاصيل الحادة والشخوص الاستبدادية في القصة.
تناول مسألة الرغبة الجسدية، وإدراك - أو سوء إدراك - الذات.
رواية لم تكتب بعد1 (1921م)
مثل هكذا تعبير تعس، كان في ذاته كافيا ليجعل عيني المرء تتسللان فوق حافة الجريدة إلى حيث وجه تلك المرأة البائسة --
وجهها الذي لا يلفتك لولا تلك النظرة التي حملت، إلى حد بعيد، ملمحا من قضاء الإنسان وقدره.
الحياة هي ما تراه في عيون الناس؛ الحياة هي ما يتعلمونه ويكتسبونه، وما اكتسبوه وتعلموه بالفعل، وأبدا، بالرغم من هذا يحاولون إخفاءه، ويجتهدون في التوقف عن الوعي ب... بماذا؟ الحياة تشبه تلك التي تبدو لنا.
وجوه خمسة قبالتي --
خمسة وجوه ناضجة --
وتسكن المعرفة في كل وجه منها. والعجيب، برغم هذا، كم يرغب البشر في إخفائها!
سيماء التكتم كامنة في كل تلك الوجوه: شفاه مغلقة، عيون تغلفها الظلال، وكل واحد من الشخوص الخمسة يفعل شيئا من شأنه إخفاء أو إفساد معرفته.
أحدهم شرع في التدخين؛ وآخر أخذ يقرأ؛ وثالث راح يفتش عن مفردات في قاموس جيب؛ بينما راح رابع يحدق في خريطة شبكة مسار القطار المثبتة في إطار قبالته؛ والخامسة --
أخطر ما في الخامسة أنها لم تكن تفعل شيئا على الإطلاق.
إنها تنظر صوب الحياة، تنظر وحسب. ولكن، آه أيتها المرأة التعسة سيئة الحظ، هيا انضمي إلى اللعبة --
خذي دورك الآن، إكراما لنا، اشرعي في التخفي!
وكأنما سمعتني، رفعت المرأة بصرها، تململت في مقعدها قليلا، ثم تنهدت. بدت كما لو كانت تعتذر، وفي ذات الوقت كأنما تقول لي: «فقط لو كنت تعرفين!»
ثم عادت مجددا تنظر إلى الحياة. - «لكنني أعرف.»
أجبتها في صمت، فيما أرنو لصحيفة «التايمز»،
2
مراعاة لدواعي اللياقة العامة. - «أنا أعلم الأمر كله.» (السلام بين ألمانيا وقوى التحالف تم أمس التبشير به رسميا في باريس --
انتخاب «السينيور نيتي»، رئيسا لوزراء إيطاليا --
تحطم قطار ركاب في «دونكاستر» إثر اصطدامه مع قطار شحن بضائع ...) - «جميعنا يعرف --
صحيفة «التايمز» تعرف --
لكننا فقط نتظاهر بعدم المعرفة.»
مرة أخرى، تسللت عيناي فوق حافة الجريدة. فاختلجت المرأة، انتزعت ذراعها على نحو غريب، أرخته في منتصف ظهرها ثم هزت رأسها.
من جديد، أطرقت برأسي لأغرقها في مستودعي الكبير؛ مستودع الحياة. «خذ ما شئت»، تابعت، «مواليد، وفيات، زواج، نشرة أخبار البلاط الملكي، من عادات الطيور، ليوناردو دافنشي، جريمة قتل في «ساندهيل»، ارتفاع الأجور لمواجهة تكاليف المعيشة ... ياااه! خذ ما شئت، «أعدتها مرارا»، كل شيء في «التايمز»! الحياة كلها.»
من جديد، وبضجر لا نهائي، أخذ رأسها في التحرك يمينا ويسارا حتى إذا ما هده التعب من جراء الدوران المتسارع، سكن من جديد فوق عنقها.
لم تعد «التايمز» تمثل حائط حماية لي أمام مثل هكذا حزن في عينيها، سوى أن الأشخاص الآخرين قد حالوا دون تواصلنا.
أفضل ما يمكن اتخاذه ضد الحياة هو أن تطوي الصحيفة مرارا حتى تحصل على مربع سميك منتظم الأضلاع؛ مربع مصمت وغير منفذ حتى للحياة.
هذا بالضبط ما فعلت، ثم رنوت إلى أعلى مسرعة، متسلحة بالدرع الواقي الذي صنعته توا من الجريدة، غير أنها اخترقت حائط دفاعي وحدقت مباشرة، وعلى نحو ثابت، في عيني كأنما تنقب في أغوارهما عن أثر من شجاعة، لتحيلها ضعفا وصلصالا رطبا.
سوى أن اختلاجتها ، وحدها، أفسدت كل شيء، وأدت كل أمل، وحسمت كل خيال.
وهكذا كنا نتهادى بالقطار خلال «سيرلي» وعبر حدود «سسيكس».
3
غير أني، بعيني الشاخصتين صوب الحياة، لم ألحظ المسافرين الآخرين وقد غادروا القطار واحدا فواحدا، حتى غدونا - باستثناء الرجل الذي يقرأ - وحيدتين معا.
ها هي محطة «الجسور الثلاثة»، بدأ القطار يزحف بنا ببطء حتى رصيف المغادرة، ثم توقف.
ترى هل سيغادرنا الرجل؟ في الحقيقة لم أكن واثقة من رغبتي، دعوت الله على الاحتمالين، غير أني في الأخير تمنيت أن يبقى. في تلك اللحظة تحديدا، انتبه الرجل، انتفض، كرمش جريدته وألقاها باستخفاف كما يتخلص المرء من شيء انتهى منه ولم يعد في حاجة إليه، ثم اندفع بعنف نحو باب القطار، تركنا وحيدتين.
بعد انحناءة طفيفة إلى الأمام وعلى نحو فاتر لا لون له، بدأت المرأة الحزينة تتجاذب معي أطراف الحديث --
تكلمت عن محطات القطار وعن العطلات، عن الأشقاء في «إيستبورن»، وعن ذلك الوقت من العام الذي هو فصل ال... نسيت الآن، شتاء أم خريف. لكنها في النهاية نظرت من النافذة، وراحت تتأمل - أنا على ثقة - الحياة وحسب.
أخذت شهيقا ثم قالت: «البقاء بعيدا --
تلك هي الخسارة.»
آه ها نحن نصل إلى بؤرة الفاجعة. - «زوجة أخي.» قالتها بينما المرارة في نبرتها تشبه سقوط قطرات ليمون على سطح من الحديد البارد، وكأنها تتحدث --
لا معي --
بل مع نفسها، تمتمت: «هراء!» كأنما أرادت أن تقول: «هذا ما يردده الجميع دوما.»
فيما تتكلم، كانت تتململ في جلستها على نحو عصبي كأن بشرة ظهرها كما لدجاجة منزوعة الريش في نافذة عرض محل لبيع الطيور. - «ياااه، تلك البقرة!»
توقفت عن الكلام بغتة على نحو عصبي، وكأن البقرة الخشبية الضخمة، في المرج الأخضر الذي مررنا به، قد صدمتها وأنقذتها من ارتكاب حماقة ما.
عندئذ ارتعدت، ثم تلوت بحركة زاوية شاذة، كما لم أر من قبل طيلة حياتي، وكأنما نوبة تقلص حادة قد تسببت في التهاب وحكة في بقعة الجلد فيما بين كتفيها.
بعدها، عادت من جديد لتبدو كأكثر نساء الوجود شقاء وحزنا؛ ومن ثم أيضا، بدأت من جديد ألومها وأستنكر عليها ذلك، لكن ليس بذات اليقين السابق، لأنه لو كان ثمة سبب، ولو علمت أنا هذا السبب، إذن لاختفت وصمات العار من الحياة.
قلت لها: «زوجات الإخوة.»
زمت شفتيها وأمالتهما، كأنها ستبصق سما في وجه الكلمة؛ لكنهما بقيتا مزممتين. كل ما فعلته أن أخرجت قفازها وراحت تفرك بشدة بقعة على زجاج نافذة القطار.
كانت تحك كأنما لتمحو شيئا من الوجود وإلى الأبد --
وصمة ما، تلوثا لا ينمحي.
في الواقع، ظلت البقعة راسخة رغم جهودها، ومن جديد غاصت المرأة في رعدتها وفي اشتباك ذراعيها، تماما كما توقعت أنا أن تفعل.
شيء ما دفعني أن أخرج قفازي وأشرع في حك نافذتي. كانت هناك بقعة صغيرة على الزجاج أيضا. بقيت، رغم كل محاولاتي، مكانها.
عندئذ، تسربت إلي حالة التقلص ذاتها، لويت ذراعي وشبكته خلف ظهري. وشعرت بأن بشرتي أيضا كما لدجاجة مبتلة في نافذة عرض محل لبيع الطيور؛ ثمة بقعة في الجلد بين الكتفين بدأت تلتهب وتستحكني، أشعر بها لزجة، أشعر بها فجة. هل يمكنني الوصول إليها؟
حاولت ذلك خلسة، لكن المرأة لمحتني. وألقت في وجهي ابتسامة تحمل سخرية لا نهائية، وحزنا لا نهائيا؛ ابتسامة سرعان ما تلاشت من وجهها واحتوتها الظلال.
لكنها تواصلت معي على كل حال، قاسمت أحدا سرها أخيرا، وبعد أن سربت سمها، لم تكن لتقول المزيد.
وبينما أتكئ للوراء في ركني الخاص، حاجبة عيني عن عينيها، وفيما أنظر إلى المنحدرات والتجاويف وحسب، الرماديات والأرجوانيات ومناظر الشتاء الطبيعة، قرأت رسالتها، حللت شفرة سرها ورموزه، قرأت الرسالة الخبيئة تحت نظرتها المحدقة. «هيلدا»، زوجة الأخ. هيلدا؟ هيلدا؟ هيلدا مارش --
السيدة الناضرة، ذات النهدين العامرين، المرأة رفيعة المقام. تقف هيلدا عند باب البيت بيدها عملة فضية بينما سيارة التاكسي على وشك التوقف. - «ها هي ميني البائسة، أكثر فقرا من جندب، أكثر تعاسة من أي وقت مضى --
بعباءتها القديمة ذاتها التي جاءت بها العام الماضي. حسنا، حسنا مع وجود أطفال، هذه الأيام، لا يستطيع المرء أن يفعل أكثر. لا يا ميني، أنا سأدفع، ها هي الأجرة أيها السائق --
لن تجدي أساليبك معي، تعالي يا ميني. أوه، يمكنني حملك، ضعي عنك سلتك!»
وهكذا تدخلان إلى غرفة الطعام. - «العمة ميني يا أولاد.»
ببطء تبدأ السكاكين والشوك في الهبوط على الطاولة. ينكسان رأسيهما (بوب وباربرا)، يعرضان عن المصافحة بجفاء؛ ثم يعودان ثانية إلى طعامهما، يسترقان النظر بين فترات امتلاء الفم، ثم يعاودان المضغ من جديد. [لكننا سوف نقفز فوق هذا، لنحذف هذا؛ الديكورات، الستائر، الصحن الصيني ذا الورود ثلاثية الأوراق، مكعبات الجبن الأصفر المستطيلة، ومربعات البسكويت البيضاء --
نعم، لنهمل كل هذا، ولكن انتظروا! في منتصف وجبة الغداء، تحدث إحدى تلك الارتجافات؛ يحدق «بوب» في وجهها، والملعقة في فمه. - «أكمل طبق البودينج يا بوب!»
لكن هيلدا استنكرت هذا. «لماذا لا بد أن ترتعش دائما هكذا؟» لنحذف هذا، نحذف، حتى نصل إلى بسطة الطابق العلوي؛ الدرابزين النحاسي للسلم، مشمع الأرضية الممزق؛ أوه نعم! ثمة غرفة نوم صغيرة تطل من بين أسطح بنايات «إيستبورن» --
الأسطح المتعرجة مثل العمود الفقاري ليرقات الفراشات، هذا الاتجاه، وذاك الاتجاه، مقلمة بشرائح حمراء وصفراء، مع ألواح من الأزرق الغامق].
والآن يا ميني، الباب مغلق، هيلدا تنزل بتثاقل إلى البدروم؛ وأنت تفكين الشرائط عن سلتك، تضعين على سريرك قميص نوم هزيلا، وإلى جانب بعضهما، تضعين فردتي خف مبطن بلباد الفراء. أما المرآة --
لا، أنت تتجنبين المرايا.
بعض الترتيب المدروس لدبابيس القبعة. الصندوق الصغير المصنوع من محار البحر، ربما بداخله شيء؟ ها أنت تهزينه؛ إنه زرار القميص، المصنوع من اللؤلؤ، الزرار الذي كان داخل الصندوق قبل عام --
هذا كل ما هنالك. ثم هناك الزفرة، التنهيدة، ثم الجلوس إلى النافذة.
الثالثة من مساء أحد أيام ديسمبر؛ السماء تمطر رذاذا خفيفا؛ ضوء يأتي من الأسفل من نافذة سقيفة محل بيع الأقمشة، وآخر من الأعلى يأتي من غرفة نوم الخادمة --
هذا الضوء انطفأ. فلم تجد المرأة شيئا تنظر إليه.
خواء اللحظة --
والآن، في أي شيء تفكرين؟ (دعوني أختلس النظر إليها؛ إنها نائمة أو تتظاهر بأنها نائمة؛ إذن، ترى فيم يمكن أن تفكر في الثالثة ظهرا أثناء الجلوس جوار نافذة قطار؟ الصحة، المال، الفواتير، أم تفكر في الله؟)
أجل، ميني مارش تصلي لربها، وهي تجلس على هذه الحافة من المقعد وتنظر صوب أسطح أبنية «إيستبورن». هذا مناسب جدا؛ ولعلها نظفت الزجاج أيضا، لترى الله على نحو أفضل.
لكن، أي رب ترى؟ من هو إله ميني مارش؟ إله الشوارع الخلفية ل «إيستبورن»، إله الساعة الثالثة من بعد الظهر؟
أنا أيضا أنظر إلى أسطح الأبنية، أنظر إلى السماء؛ لكن ، آه يا عزيزتي --
يا لرؤية الآلهة! لا بد أن ربها يشبه الرئيس كروجر
4
أكثر مما يشبه الأمير ألبرت
5 --
هذا أكثر ما يمكنني منحه؛ أراه يجلس فوق كرسي في عباءة سوداء، ليس في مكان بالغ العلو؛ ربما يمكنني أن أدبر له غيمة أو غيمتين كي يجلس فوقهما؛ بعدها ستتدلى يده بهدوء من الغيمة قابضة على عصا، الصولجان، أليس كذلك؟ --
سوداء، غليظة، ومليئة بالأشواك.
عجوز شرس وطاغية --
إله ميني مارش! أتراه هو الذي أرسل الحكة والبقعة والرعشة؟ أمن أجل ذلك كانت تصلي وتدعوه؟ إذن، الشيء الذي حاولت محوه من فوق زجاج النافذة كان بقعة من الخطيئة! أوه، ميني مارش إذن ارتكبت جريمة ما!
لدي اختياراتي الخاصة فيما يخص الجرائم. الغابات تتحرك سريعا وتطير --
في الصيف تنمو عشبة «الجريس» البرية ذات الأزهار الزرقاء؛ في تلك البدايات، مع قدوم الربيع، تنبت زهرة الربيع. أرحيل ما؟ أشيء من هذا؟ منذ عشرين عاما مثلا؟ هل ثمة عهود أخلفت؟ لا، ليس من جانب ميني! هي كانت مخلصة دائما. انظروا كيف كانت ترعى أمها وتمرضها! كم أنفقت من مال لبناء الضريح --
أكاليل الزهر تحت الغطاء الزجاجي --
زهور النرجس البري في الأصص.
لكنني خرجت عن الموضوع.
جريمة ... ربما يقولون إنها أبقت على حزنها، طمست سرها --
قمعت أنوثتها، هكذا سيقول --
رجال العلم. ولكن، أي هراء حين آسرها وأختصرها في قفص الغريزة! لا --
الأمر أبعد من ذلك.
فيما تتجول عبر شوارع «كرويدون» قبل عشرين سنة، كانت العقد بنفسجية اللون، في شرائط الستائر المخملية على فاترينة محلات بيع القماش التي تتلألأ تحت أضواء المصابيح الكهربائية، تخطف بصرها. تتلكأ --
إلى ما بعد الساعة السادسة. لكن، مع هذا، ما زال بوسعها الوصول إلى البيت إذا ما ركضت. وهكذا، تندفع عبر الباب المروحي المصنوع من الزجاج.
وقت التصفيات السنوي، ثمة صوان مسطحة ممتلئة حتى الحافة بالشرائط، تتوقف، تجذب هذه، تعبث أصابعها في تلك التي تعلوها زهور متفتحة --
لا حاجة للانتقاء، لا حاجة للشراء، فكل صينية تحمل مفاجآتها ودهشتها. - «لا نغلق قبل السابعة.»
وجاءت السابعة.
تركض ، تندفع مسرعة صوب البيت، وصلت، لكن متأخرة جدا.
الجيران --
الطبيب --
الشقيق الرضيع --
غلاية الشاي --
احتراق الجسم بالماء المغلي --
المستشفى --
الموت --
أو مجرد الصدمة من فكرته، اللوم والتوبيخ؟
أجل، لكن التفاصيل لا تهم! الأهم هو ما تحمله بداخلها، البقعة، الجريمة، الفعلة التي تستوجب التكفير عنها، إنها هناك دائما، بين الكتفين. - «نعم!» يبدو أنها تومئ إلي، «إنها الفعلة التي ارتكبتها.»
سواء ارتكبت خطيئة أم لا، وأيا كان ما فعلت، أنا لا أعبأ بهذا، ليس هذا ما أريد.
الفاترينة الزجاجية لمحال بيع الأقمشة، ذات الفيونكات والشرائط البنفسجية --
نعم، هذا الموضوع سوف يفيد،
6
أمر تافه بعض الشيء، فكرة مطروقة ومألوفة --
طالما المرء بوسعه الاختيار بين الجرائم، سوف يكون هناك العديد جدا من الاختيارات. (دعوني أختلس النظر ثانية --
ما زالت نائمة، أو تتظاهر بأنها نائمة! بيضاء، متعبة مستهلكة، الفم مغلق --
بوجهها مسحة من العناد والاستعصاء على المعالجة، ربما أكثر مما يظن المرء --
لا ملمح واضحا أو إشارة للغريزة) --
ثمة جرائم عديدة لا تناسبك؛ جريمتك متواضعة؛ بينما القصاص جليل ومهيب؛ لأن باب الكنيسة يفتح الآن، المقعد الخشبي الصلب يستقبلها؛ تركع فوق البلاط البني؛ كل يوم، في الشتاء، في الصيف، في الغسق، في الفجر، (هي الآن في هذه الحال) تصلي.
كل آثامها تسقط، تسقط، إلى الأبد تسقط.
البقعة سوف تمتص الآثام جميعا. إنها تتفاقم، يحمر لونها، تحترق. بعد هذا سوف تخز المرأة فتختلج وتتشنج من فرط الألم.
الأولاد الصغار بدءوا يظهرون. «بوب موجود على الغداء اليوم» --
غير أن النساء المسنات هن الأسوأ.
في الواقع ليس بوسعك الصلاة والدعاء الآن أكثر من ذلك. لأن كروجر غاص تحت الغمام --
ذاب وانمحى كأنما بريشة رسام مضمخة باللون الرمادي السائل، بعد أن أضاف إليها مسحة من الأسود --
حتى طرف الصولجان اختفى كذلك. هذا يحدث دائما! بمجرد أن تشاهديه،
7
تشعرين بوجوده، سرعان ما يأتي من يقاطعكما ويفسد الوصل. إنها هيلدا الآن.
كم أنت تكرهينها! إنها حتى تغلق باب الحمام بالمفتاح طوال الليل أيضا، مع أنه الماء البارد وحسب ما تحتاجين إليه، أحيانا يبدو الاغتسال مفيدا حين يسوء الطقس في الليل. ثم «جون» على الإفطار --
الأطفال --
الوجبات شديدة الرداءة، وأحيانا يتواجد أصدقاء --
نباتات السرخس جميعها لا تستطيع إخفاءهم --
هم يخمنون ويتخيلون أيضا؛ لهذا تخرجين إلى حيث الواجهة المائية الأمامية،
8
حيث الموجات رمادية اللون، وحيث الصحف تتطاير، وحيث المخبأ الزجاجي مفعم بالحياة ومنفذ للهواء البارد، في هذا المكان يكلفك المقعد بنسين
9 --
مكلف جدا --
لأنه يلزم وجود وعاظ على طول الضفة الرملية.
آه، إنه زنجي --
يا له من رجل مضحك! --
هذا الرجل الذي يحمل الببغاوات --
يا للكائنات الصغيرة المسكينة!
أما من أحد هنا يفكر في الرب؟ --
هناك، فوق الجسر البعيد، يمسك عصاه --
لكن لا --
لا شيء هناك سوى الرمادي في السماء، أو، لو كانت السماء زرقاء، لولا تلك الغيوم البيضاء التي تخفيه وراءها، ثم هذه الموسيقى --
إنها موسيقى الشرطة العسكرية --
وعم يبحثون؟ هل يمسكون بهم؟ كم يحملق الأطفال! حسنا، إذن العودة إلى المنزل عبر الطرق الخلفية. - «العودة إلى المنزل عبر الطرق الخلفية!»
لهذه الكلمات معنى؛ ربما نطقها رجل عجوز له لحية وشارب --
لا، لا، لم يتكلم في الحقيقة؛ سوى أن لكل شيء معنى --
الإعلانات المتكئة على بوابات البنايات --
الأسماء فوق فتارين المحال --
الثمار الحمراء في السلال --
رءوس النساء في محال الكوافير --
كلها تقول: «ميني مارش!»
لكن، هناك ارتجافة أخرى. - «البيض أرخص ثمنا!»
10
هذا ما يحدث دائما! كنت أفكر بها فوق شلالات المياه، نحو الجنون مباشرة، عندئذ، فجأة مثل قطيع من أغنام الحلم، استدارت هي نحو الجهة الأخرى، وانزلقت بين أصابعي.
البيض هو الأرخص. مربوطة بحبال عند شواطئ العالم، لا جريمة من الجرائم، أحزان، تطرف، جنون المسكينة ميني مارش؛ ثمة وقت دائما لتناول الوجبات السريعة؛ لن تراها في جو عاصف بغير معطف مطر، هي لا تعدم الوعي كلية برخص البيض. ولهذا، ستصل إلى البيت --
وسوف تكشط حذاءها الطويل من الوحل.
هل قرأتك على نحو صحيح؟
لكنه الوجه البشري --
الوجه البشري فوق الحافة العليا لصفحة الصحيفة المحتشدة يحمل أكثر، ما زال يخبئ أكثر ...
الآن، فتحت العينان، تنظران بحذر؛ وفي داخل العين البشرية ثمة --
كيف يمكن أن نسمي هذا الشيء؟ --
ثمة انكسار --
انقسام --
لكنك حين تقبض على ساق النبتة، إذا بالفراشة تختفي --
الفراشة التي تتشبث في المساء بأعلى الزهرة الصفراء --
تحركي، ارفعي يدك، بعيدا، عاليا، بعيدا جدا.
لن أرفع يدي. تشبثي ساكنة، ثم، ارتجفي، يا حياة ... يا روح ... يا نفس ... يا أيا ما يكون من ميني مارش --
أنا، أيضا فوق زهرتي --
والصقر فوق الزغب --
وحيدا، وإلا ما جدوى الحياة إذن؟
من أجل أن تعلو؛ تشبث ساكنا في المساء، في منتصف النهار؛ تعلق ساكنا فوق المنحدر. رجفة اليد --
ستختفي، في الأعلى! ثم تتزن من جديد. وحيدا، غير مرئي؛ تشاهد كل الأشياء الساكنة هناك في الأسفل، كل شيء يبدو فاتنا. لا أحد يرى، لا أحد يهتم. عيون الآخرين هي سجوننا؛ أفكارهم هي أقفاصنا. الهواء في الأعلى، الهواء في الأسفل. القمر والخلود ... أوه، لكنني أسقط في الحلبة! هل تسقطين أيضا؟ أنت يا من تقبعين في الركن، ما اسمك؟ --
امرأة -- «ميني مارش»؛ ألم يكن شيئا شبيها بهذا؟
إنها هناك، ملتصقة ببرعم زهرتها؛ تفتح حقيبة يدها، تخرج قوقعة مجوفة --
بيضة --
من الذي كان يقول إن البيض هو الأرخص؟ أنت؟ أم أنا؟ إنه أنت من قالها في طريق العودة إلى البيت، هل تتذكرين؟ حينما فتح السيد العجوز مظلته فجأة --
أو ربما كان يعطس، أليس كذلك؟ على أية حال، «كروجر» قد رحل، وأنت عدت «إلى المنزل من الطريق الخلفي»، وكشطت حذاءك الطويل. أجل. والآن تبسطين فوق ركبتيك منديلا ورقيا لتسقطي فيه كسرات صغيرة مضلعة حادة الزوايا من قشرة البيضة --
كسرات خريطة --
أحجية،
11
كم أتمنى لو أمكنني تجميع الكسرات سويا! فقط لو تجلسين ساكنة.
حركت ركبتيها --
فتشظت الخريطة إلى أجزاء من جديد. لأسفل منحدرات جبل الأنديز
12
تندفع كتل الرخام الأبيض ضاغطة عنيفة، ساحقة، حتى الموت، حشود من كتائب البغال الإسبانية، بقوافلها ومواكبها -- «دريك»
13
يجمع الغنائم، ذهبا وفضة.
لكن لنعد.
إلى أي نقطة نعود، إلى أين؟ هي فتحت الباب، تعلق مظلتها على الحامل --
هذا غني عن القول ؛ هكذا، أيضا، نفحة من رائحة لحم بقري تأتي من البدروم؛ قطرة، قطرة، قطرة. لكن الشيء الذي لا يمكنني الخلاص منه، الشيء الذي يجب علي أن أتجاوزه، هو رأس منكس، وعينان مغمضتان، تمتلكان جسارة كتيبة، وعماء ثور، هجوم ثم انفراط العقد في الهواء، هي، بغير شك، تلك الشخوص المختبئة خلف نبات السرخس، وكل هؤلاء الرحالة من التجار.
هناك، كنت أخفيتهم طوال هذا الوقت على أمل أن يتلاشوا بطريقة أو بأخرى، أو الأفضل أن يظلوا ينبثقون، لأنهم في الواقع يجب أن يفعلوا ذلك، إذا ما كانت الرواية ستمضي في طريق الجمع بين الثراء والتخمة، بين القدر والمأساة، كما تفعل الروايات عادة، حين تتناول أحداثها اثنين، إن لم يكونوا ثلاثة، من الرحالة التجار، وبستانا كاملا من النباتات والدريقات. «سعف النخيل وأوراق تلك النباتات لا تخفي إلا جزءا صغيرا من التاجر المسافر وحسب -- » نباتات الخلنج كان بوسعها إخفاؤه كلية، وعلى سبيل المساومة، أعطني رميتي الحمراء والبيضاء، التي من أجلها كافحت وتضورت جوعا؛ لكنها الخلنجيات في مدينة «إيستبورن» - في ديسمبر - فوق طاولة عائلة «مارش» --
كلا، كلا، لن أجرؤ؛ كل الأمر عبارة عن كسرات خبز وآنية ملح للسفرة وكشكشات في غطاء المائدة ونباتات سرخس. ربما بعد برهة سيكون لنا وقت بمحاذاة البحر. علاوة على ذلك، فأنا أشعر، من جراء تلك الوخزات اللطيفة من النقوش والزخارف الخضراء وشظايا الزجاج المتكسر، أشعر برغبة في التحديق والتلصص على الرجل الجالس في مواجهتي --
رجل يمتلك القدر الذي يمكنني تدبره. «جيمس موجريدج»، هل هو ذلك الرجل الذي يطلق عليه آل مارش اسم «جيمي»؟ [ميني، يجب أن تعديني ألا تنتفضي أو ترتجفي مجددا حتى أستقر على الأمر]. «جيمس موجريدج يسافر من أجل المتاجرة في --
هل نقول في الأزرار؟ --
غير أن الوقت لم يحن بعد لاستحضار الأزرار في الرواية --
الكبير منها والصغير فوق الكروت الطويلة، بعضها يشبه عيون الطاووس، بعضها ذهبي باهت، بعضها يشبه الحجارة، والبعض مكسو بطلاء الشعب المرجانية --
لكنني قلت إن الوقت لم يحن بعد. هو يسافر، وفي أيام الخميس، يومه الذي خصصه ل «إيستبورن»، يتناول وجباته مع آل مارش. وجهه الأحمر، عيناه الصغيرتان الثابتتان --
كلا، على الإطلاق. الأمور على إجمالها تبدو عادية --
شهيته الرهيبة إلى الطعام (هذا مطمئن؛ لأنه لن ينظر إلى ميني قبل أن يأتي الخبز على مرقة اللحم ويجعلها تجف)، فوطة السفرة مطوية على شكل جوهرة --
ولكن هذا بدائي، وأيا كان الأمر بالنسبة إلى القارئ، فهذا لن يغرر بي. فلنترك أشياء موجريدج جانبا، دعونا نتحرك. حسنا، أحذية العائلة يتم إصلاحها في أيام الآحاد بواسطة جيمس نفسه. إنه يقرأ صحيفة «الحقيقة».
14
لكن ماذا عن أهوائه؟ الزهور --
وزوجته ممرضة المستشفى المتقاعدة --
شيء مثير --
بالله عليك دعيني أحصل على امرأة واحدة لها اسم يروق لي! لكن لا؛ هي واحدة من بنات الأفكار، هؤلاء الأطفال الذين لا يولدون إلا في العقل،
15
غير شرعيين، وبرغم هذا نحبهم، تماما مثل نباتاتي الخلنجية.»
كم من البشر يموتون في كل رواية كتبت --
البشر الأفضل والأعز، بينما موجريدج يحيا. تلك خطيئة الحياة. ها هي «ميني» تأكل بيضتها في هذه اللحظة، قبالتي وعند النهاية الأخرى من الخط --
هل تجاوزنا «لويز»؟
16 --
لا بد من وجود «جيمي» --
وإلا فما سبب ارتجافتها؟
لا بد من وجود «موجريدج» --
خطيئة الحياة. الحياة تفرض قوانينها؛ الحياة تعرقل الطريق؛ الحياة هي وراء نبات السرخس؛ الحياة هي الطاغية، أوه، لكنها ليست مستبدة على الضعفاء! لا، لأنني أؤكد لكم أني أتيت بملء إرادتي؛ جئت بإيعاز من السماء التي تعلم أي إكراه وراء السراخس والأباريق الزجاجية، حيث الموائد ملطخة والقوارير ملوثة. أتيت
17
من دون مقاومة لأغرز نفسي وأغيب في مكان ما في نسيج اللحم المتماسك، في الشوكة الغليظة للعمود الفقري، حيث سيكون بوسعي أن أفهم أو أجد موطئ قدم داخل الإنسان، داخل روح موجريدج؛ الرجل.
التماسك الهائل للأنسجة؛ العمود الفقري صلد مثل عظام الحوت، مستقيم مثل شجرة البلوط؛ بينما الضلوع تتفرع مثل الأشعة؛ اللحم البشري متوتر ومشدود مثل نسيج المشمع؛ التجاويف الحمراء؛ حركات القلب الانقباضية من امتصاص وضخ، بينما من أعلى تتساقط قطع اللحم في مكعبات بنية وتتدفق الجعة برغوتها لتتمخض مع الدم من جديد --
وهكذا نصل إلى العينين.
خلف الدريقات تبصر العينان شيئا؛ أسود، أبيض، شيئا موحشا؛ الآن الصحن ثانية؛ وراء الدريقات تبصر العينان امرأة متوسطة العمر؛ شقيقة «مارش»، هيلدا على شاكلتي أكثر، «الآن، تنظر العينان إلى شرشف الطاولة.» «مارش بوسعه أن يدرك ماذا أصاب آل موريس ...» سنناقش هذا الأمر لاحقا؛ جاء طبق الجبن؛ الصحن ثانية؛ دعه يدور دائريا --
الأصابع الضخمة؛ والآن المرأة الجالسة قبالته. «شقيقة مارش --
لا تشبه مارش كثيرا، أنثى بائسة رثة متوسطة العمر ... يجب أن تطعمي دجاجاتك ... بحق السماء، ما الذي أهاج ارتجافاتها؟ ليس ما قلته أنا؟ هل أنا السبب كذلك؟ عزيزتي، عزيزتي، عزيزتي! يالتلك النسوة متوسطات العمر! عزيزتي، عزيزاتي!» [أجل يا ميني؛ أعلم أنك ارتجفت، لكن مهلا دقيقة --
يا جيمس موجريدج!] «عزيزتي، عزيزتي، عزيزتي!» كم يبدو الصوت جميلا! مثل طرقة مطرقة فوق ضلع لحم مغمور في التوابل، مثل خفقة قلب حوت عجوز حينما تحتشد البحار كثيفة ضاغطة عليه، حين تتلبد المروج بالغيوم. «عزيزتي، عزيزتي!» ماذا تفعل نواقيس الجنائز للأرواح المضطربة كي تعزيها وتهدئ من روعها، تحتضنها في طبقات الكتان، قائلة: «الوداع، حظا طيبا!» وبعد ذلك تقول: «أين تكمن سعادتك؟» بالرغم من هذا سوف يقطف موجريدج زهرته من أجلها، وهذا ما كان، انتهى الأمر.
والآن ما هي الخطوة التالية؟ «سيدتي، سوف يفوتك القطار» فهم لا يتلكئون.
ذاك هو طريق الرجل؛ ذاك هو الصوت الذي يدوي صداه؛ صوت كاتدرائية القديس «بولس» وصوت الحافلات العمومية ذات المحركات. لكننا نكنس فتات الخبز بعيدا. أوه يا موجريدج، ألن تنتظر؟ هل يجب أن تمضي؟ هل ستسافر إلى إيستبورن هذه الظهيرة في واحدة من تلك العربات الصغيرة؟ هل أنت ذلك الرجل المحبوس داخل صناديق الكرتون خضراء اللون، والذي، بين حين وآخر، يسدل ستائرها، وفي أحيان أخرى يجلس على نحو مهيب شاخصا للأمام مثل أبي الهول، ودائما هناك نظرة تشبه القبور، تشبه شيئا من أداوت متعهدي الدفن الذين يجهزون الموتى، التابوت، بينما الغسق يحيط بالحصان والحوذي؟ أخبرني --
لكن الأبواب صفقت. لن نلتقي أبدا من جديد. الوداع يا موجريدج!
أجل، أجل، إني قادمة. تماما فوق قمة المنزل. لحظة واحدة، سوف أتريث برهة. كم يتجول الوحل في العقل --
كم من دوامات تتركها تلك الوحوش، المياه تتأرجح، والأعشاب الصغيرة تتماوج، خضراء هنا، سوداء هناك، تضرب في الرمال، حتى تتجمع الذرات مجددا بالتدريج، ثم تنخل الرواسب نفسها، ومن جديد من خلال العين، يبصر المرء كل شيء صافيا وساكنا، وقتئذ، تصعد إلى الشفتين بعض الصلوات والدعوات من أجل الموتى، جنازة للأرواح من تلكم التي يومئ فيها المرء برأسه لهؤلاء الذين لن يلتقيهم بعد ذلك أبدا.
جيمس موجريدج أصبح ميتا الآن، رحل إلى الأبد. حسنا يا ميني. - «ليس بوسعي مواجهة الأمر أكثر من ذلك.»
لو كانت قالت ذلك! (دعوني أنظر إليها. إنها تكنس قشر البيض نحو منحدرات عميقة.)
لقد قالتها بالتأكيد، بينما تميل على حائط غرفة النوم، وتقتلع تلك الكرات الصغيرة التي تزين حواف الستارة قرمزية اللون.
غير أن النفس حين تتحدث إلى النفس، من يكون المتكلم؟ --
الروح المدفونة؟ النفس التي أقصيت، وأزيحت عميقا، عميقا، في عمق السرداب المركزي لكهوف الموتى؟ النفس التي اعتمرت الوشاح الحاجب وتركت العالم --
نفس جبانة ربما، لكنها جميلة على نحو ما، لأنها تحلق حاملة مشكاتها المنيرة بغير توقف أعلى وأسفل الدهاليز المعتمة. - «ليس بوسعي تحمل المزيد».
هكذا قالت روحها. «ذاك الرجل على مائدة الغداء --
هيلدا --
الأطفال.» أوه، أيتها السماء، هذا نشيجها! ها هي الروح تنتحب مصيرها، الروح التي طردت وأزيحت على مقربة من هنا، أو هناك بعيدا، حتى تستقر فوق السجاجيد الواطئة --
حيث مواطئ الأقدام الهزيلة --
والمزق المنكمشة لكل هذا الكون الآخذ في التلاشي --
الحب، الحياة، الوفاء، الزوج، الأطفال، لا أعرف تحديدا أي بهاء وروعة في لمحات مرحلة الأنوثة المبكرة. «ليس من أجلي --
ليس من أجلي.»
لكن، حينئذ --
شطائر الفطائر، الكلب العجوز الأجرد؟ الحصيرة المزخرفة بالخرز التي يجب أن أتخيلها، ومواساة لفافات الكتان. إذا كانت ميني مارش قد دهست وأخذت إلى المستشفى، لكان سيهتف الأطباء والممرضات أنفسهم ... هناك المشهد والرؤية --
وهناك المسافة بينهما --
البقعة الزرقاء في نهاية الطريق المشجر، بينما، برغم كل شيء، الشاي وافر، وشطائر الكعك ساخنة، والكلب -- «بيني، عد إلى سلتك أيها السيد، وانظر ماذا جلبت لك الأم!» وهكذا، تأخذين القفاز ذا الإبهام المقطوع، تتحدين مرة أخرى الروح الشريرة المتلصصة فيما يعرف بالولوج داخل الثقوب، تجددين التحصينات، تجدلين الصوف الرمادي، تنسجينه للداخل والخارج.
تنسجين للداخل والخارج، من جانب إلى جانب وتعيدين ذلك، تغزلين الشبكة التي من خلالها الله ذاته ... صه، لا تفكري في الله! كم هي الغرز محكمة ومحبوكة! يجب أن تفخري برتقك ونسيجك. يجب ألا ندع شيئا يزعجها. لندع الضوء ينساب برهافة، ولنجعل الغيمة تظهر القميص الداخلي للورقة الخضراء الأولى. لندع العصفور يحط على غصن الشجرة، ويهز قطرات المطر المعلقة على مرفق الغصن ... لماذا ترفع بصرها إلى أعلى؟ هل هناك صوت ما، فكرة ما؟ آه، السماء! مرة أخرى تعودين للشيء الذي فعلت، الزجاج السميك ذو الفيونكات البنفسجية؟ لكن هليدا سوف تأتي. الخزي، العار والفضيحة، أوه، أغلقي تلك الثغرة.
بعدما أصلحت ميني مارش قفازها، تلقي به داخل الدرج، ثم تغلق الدرج في حسم. أقتنص نظرة لوجهها عبر انعكاسه على الزجاج.
18
الشفتان مزمومتان. الذقن معلق ومرتفع. بعد ذلك بدأت تعقد رباط حذائها، ثم لمست حنجرتها. على أي شكل دبوس الزينة على صدرك؟ نبات طفيلي أم ترقوة طائر؟ وما الذي يحدث؟ إن لم أكن مخطئة جدا، فإن النبضات تتسارع، اللحظة ستأتي حالا، الخيوط ستتسابق، والطوفان أمامنا. هنا تكمن الأزمة! كانت السماء في عونك! تمعن في اكتئابها. تشجعي تشجعي! واجهي الأمر، كونيه أنت، بالله عليك لا تنتظري فوق الحصيرة الآن! ها هو الباب هناك! أنا في جانبك! تكلمي! تصدي لها، اقهري روحها! - «أوه، معذرة! نعم، هذه إيستبورن. سوف أنزل هنا من أجلك. دعيني أجرب مقبض اليد.» [لكن يا ميني، برغم استمرارنا في الادعاء والتظاهر، فإنني قرأتك على نحو صحيح --
أنا معك الآن]. - «هل هذه كل أمتعتك؟» - «نعم بكل تأكيد، أنا ممتنة جدا.» (لكن لماذا تتلفتين حولك هكذا؟ هيلدا لن تأتي إلى المحطة، ولا جون؛ وموجريدج يقود سيارته في الجانب البعيد من إيستبورن). - «سوف أنتظر بجانب حقيبتي يا سيدتي، هذا أكثر أمانا. قال إنه سيلتقي بي ... أوه، ها هو ذا! هذا هو ابني.»
وهكذا ...
يمضيان سويا.
حسنا، ولكنني حائرة ... بدون شك، يا ميني أنت تعلمين أكثر، شاب غريب ... توقف! سوف أخبره --
ميني! آنسة مارش! --
لا أعرف برغم هذا. ثمة شيء غريب في عباءتها فيما يحركها الهواء. أوه، لكن هذا غير صحيح، غير لائق ولا محتشم ... انظروا كيف يتثنى فيما يمضيان نحو البوابة الرئيسية. لقد وجدت تذكرتها. يا لها من نكتة! يمضيان بعيدا، إلى الأسفل نحو الطريق، جنبا إلى جنب ... حسنا، إن عالمي في حال سيئة يصعب الخلاص منها! ما الذي أتكئ عليه؟ ما الذي أعرفه؟ تلك ليست ميني. لم يكن هناك موجريدج على الإطلاق. من أنا؟ الحياة عارية مثل قطعة عظام.
ولكن تبقى النظرة الأخيرة إليهما --
بينما هو يخطو نحو الحاجز الحجري وهي تتبعه حول حافة البناية الضخمة، يملآنني بالحيرة --
يغرقانني من جديد. شخصان غامضان! أم وابنها. من تكونين؟ لماذا تمشين نحو الشارع؟ أين ستنامين الليلة، ثم، غدا؟ أوه، كم تدور وتلتف مثل دوامة --
تطفو بي من جديد! سأبدأ في تتبعهما. الناس يقودون السيارات في هذا الطريق وفي ذاك الطريق. الضوء الأبيض يتقطع وينسكب. النوافذ ذات الزجاج السميك. زهور القرنفل وزهور الأقحوان. نبات اللبلاب في الحدائق المظلمة. عربات الحليب على الأبواب. أينما ذهبت، ثمة كائنات غامضة، أنا أراكما، تنعطفان عند الناصية، أمهات وأبناء، أنت، وأنت، وأنت. أسرع، أتتبعهم. هذا لا بد هو البحر كما أتخيل، مناظر الريف الطبيعية رمادية اللون، معتمة مثل الرماد؛ المياه تدمدم وتتحرك. إذا ما سقطت على ركبتي، إذا ما مارست الطقوس الدينية، الألاعيب العتيقة، إنه أنتم، أيتها الكائنات الغامضة غير المعلومة، أنتم من أتعبد فيهم، فإذا فتحت ذراعي، فإنه أنتم من أعانق، أنتم الذين أجذبهم نحوي --
أيها العالم الجدير بالحب!
حوار لم يتم مع فرجينيا وولف
هذه نخبة من الأسئلة التي وجهها القراء المعاصرون من مختلف الأعمار والثقافات للروائية فرجينيا وولف بعد موتها بعقود. أجاب عنها نخبة من خبراء الصف الأول والمحللين النفسيين والنقاد، اتكاء على كتابات وولف ورواياتها ورؤاها في الحياة والثقافة والأدب. أسئلة حول منهجها الكتابي وآرائها حول الحياة ووضع المرأة وحياتها الخاصة وانتحارها، وإجابات متخيلة، لم تقلها وولف، غير أنها متكئة بقوة على أسلوب تعاطيها للأمور. - كيف كانت الحياة في بريطانيا في أثناء الحرب العالمية؟ - أفترض أنك تقصد الحرب الكونية الثانية (1939-1945م). نعم، بالفعل أتذكر الكثير من الأمور عن تلك الفترة. لقد مت عام 1941، غير أني أذكر جيدا السنوات الأولى من الحرب والشهور السابقة التي أرهصت لها.
في مذكراتي ليوم 22 يناير 1939م أشرت إلى أن حربا وشيكة تلوح في الأفق. في اليوم التالي أصدر رئيس وزارتنا مستر «شامبرلين» بيانا في الإذاعة يدعو فيه كل مواطن إلى الخدمة: «من واجب كل رجل أن يؤمن سلام البلاد.» كان هذا يعني تنظيم المؤن، و«التعتيم الأسود»
1 (الذي يعني تغطية النوافذ بالأقمشة السوداء حتى تغرق لندن في الظلمة وتنطمس معالمها؛ فتظنها الطائرات المعادية مناطق ريفية فلا تعبأ بإلقاء القنابل عليها)، وكل فرد أظهر تعاونا مع الأمر.
كم كرهت هذا التعتيم الأسود! في يومياتي ليوم 2 فبراير 1940م كتبت: «إن التعتيم الأسود أشد إجراما من الحرب ذاتها ... لم تغب عن خاطري أبدا لندن في حال السلم، مصابيح الليل، حافلات تزأر فيما تمر عبر ميدان تافي ستوك ...»
كنت كثيرا ما أتشوق لجولاتي المسائية، حيث كان من الخطورة أن يسير أحد في الظلام الدامس. اكتشفت وقتها كم أحببت مدينتي! وتخيلت ما لو سقطت قنبلة فوق أحد شوارعها، خاصة تلك الأزقة الصغيرة ذات الشرفات النحاسية والستائر التي تعبق برائحة النهر، والعجائز وهم يقرءون! بالتأكيد كان إحساسي الوطني يشتعل، بالرغم من كوني أميل للنهج المسالم، وأرفض الحرب بكل مستوياتها.
كان زوجي متورطا في العمل السياسي، وكنت على دراية بالكثير من الظروف السياسية التي يمر بها العالم آنذاك، غير أني بدأت أشعر أن التفكير في أسباب الحرب لون من إهدار الوقت.
حينما كنا في منزلنا الريفي، كنت أتوق إلى السفر إلى المدينة، لكنني عدلت عن فكرتي قائلة: «ما المغزى من الذهاب إلى هناك؟ أن نقتل بقذيفة؟!»
في مايو 1940م كسر الألمان خط الدفاع الفرنسي، وبدءوا في التوجه صوب القناة. كنت مرتعبة من فكرة الغزو، خاصة وزوجي يهودي الأصل؛ مما يعني أن خطرا عظيما يحدق بنا.
الصحف كانت «صانعة أبطال»، بمعنى أنها كانت تعرض صور المقاتلين الأبطال بنظراتهم المنتشية بالنصر، فيما كنت أفكر: «إلى أي مدى نحن جديرون بمثل هؤلاء الرجال؟» كنت أحاول أن أكتب روايتي الأخيرة، «بين فصول العرض»، وكان من الصعب جدا الشروع في الكتابة بينما كل تلك الأحداث تجري.
بالمناسبة، هل شاهدتم برنامجا تليفزيونيا معاصرا لكم يسمى «منزل في الأربعينيات»؟
2
فهمت أنه يرصد يوما من حياة أسرة عاشت ثمانية أسابيع في منزل تم بناؤه على ذات الطراز السائد في الأربعينيات، بكل مفردات الحياة آنذاك، المؤن، التعتيم الأسود، الغارات الجوية ... إلخ، إذا ما استطعتم أن تشاهدوا هذا البرنامج، أعتقد أنه سيعطيكم فكرة جيدة عن حال بريطانيا وكيف كانت في تلك الآونة. - هل مقالتا «غرفة تخص المرء»، و«ثلاثة جنيهات» تعكسان رؤاك السياسية الخاصة؟ - نعم، الاثنتان تعكسان أفكاري، وقد كتبتا من أجل أسباب مختلفة، وانطلاقا من مقاربات فكرية مختلفة.
كتبت «غرفة تخص المرء» أساسا كمحاضرة دعيت لألقيها في جامعة نيونام في كامبريدج، حول المرأة والإبداع. (وعن طريق معجزة ما، بعد ثلاث سنوات من نشر «غرفة تخص المرء»، وجدت كل صفحات مقالتي الأصلية عن المرأة والإبداع، لكنني لا أذكر ما إذا كنت بالفعل كتبت المحاضرة التي ألقيتها، أم فقط كتبت مقالة ترتكز على هذا الموضوع).
بمجرد أن بدأت أفكر في عنوان المحور، تملكني السخط من جراء غياب صوت النساء المميزات هناك. كان القليل من النوافذ متاحا للمرأة آنذاك. بالتأكيد كانت نبرة المقالات مرحة بعض الشيء، لكنني كنت جادة فيما يخص المحتوى. إبان كتابتي «ثلاثة جنيهات» كنت حانقة. كنت عنيفة في كل ما جاء بها. كتبتها في حال من الاعتقاد الغاضب. وكانت ردود الفعل فجة حول هذه المقالة: كيو دي ليفيز، الناقدة بجامعة كمبريدج قالت إنني بدوت وكأنني واقعة تحت وهم أن النساء ظلت لقرون يقلبن القدور بيد ويؤرجحن المهد بالأخرى ... (أمر مضحك. كانت ترمي أنني مشوشة العقل، وغير ملمة بالواقع).
غير أني حصدت خطابات كثيرة من نساء متباينات، غير أكاديميات، يعبرن عن امتنانهن حين صادفن مشاعرهن التي أرقتهن طويلا مطبوعة على الورق. وهذا يعني أن تلك الكتابات قد مستهن عميقا وعنت شيئا لهن.
أجل، كتاباتي عكست أفكاري ورؤاي السياسية والاجتماعية. - هل كنت تعتقدين حقا باحتياجك إلى غرفة خاصة من أجل أن تبدعي؟ - أجل، كتبت تلك المقالة عن اقتناع تام، بعد شهور قليلة من محاضراتي لطلاب كامبريدج حول المرأة والإبداع.
بالرغم من أنني أتمنى أن تتناولوا هذا العمل بوصفه إبداعا، لكنه لم يكن كذلك، فقط هي كتابة تعكس أفكاري الخاصة. فكما تعلم، جعلت جوهر القضية في بداية الكتاب الأولى، أن المرأة يجب أن تحصل على مالها الخاص وغرفتها الخاصة إذا ما نيط بها كتابة الإبداع. وصلت إلى ذاك اليقين قبل أن أتطرق إلى طبيعة المرأة المبدعة، وطبيعة الإبداع التي ستكتب، وبقية الكتاب دار حول: لماذا أنا على كل هذا اليقين من كون هذين الأمرين من الضرورات ما-قبل-الأولى.
ربما ظروف إلقاء المحاضرات في كمبريدج أدت إلى إيماني الذاتي بوجوب حصول المرأة المبدعة على تلك المصادر كي تبدع؛ أعني المال، المكان، الخصوصية.
كلما فكرت في كل تلك الأموال التي أهرقت في المؤسسات الذكورية ، وفي الظروف التي يتلقى خلالها الرجال الدرس في كمبريدج، لا أتمالك نفسي من التفكير في النساء اللواتي ظللن يعملن لقرون طويلة، ومر شقاؤهن سدى، من دون أن يلتفت إليه.
كتاباتي أعلنت عن إيماني بوجوب أن ينظر للمرأة الكاتبة باعتبارها محترفة كتابة لا موضوعا للكتابة، وأيضا أشارت كتاباتي إلى ضرورة أن يكون الكاتب عموما مثقفا، وعلى علاقة وثيقة بالمكتبات والمراجع.
لو تأملنا هذه الكتابات الآن، ربما نجد أن «غرفة تخص المرء» هي إعلان عن كتابتي؛ فهي مزيج من الخيال المحلق في الوهم، ومن إمكانية أن نرى الحياة كرواية، موشاة بقوة بالمعطيات الفكرية والسياسية في ذات الوقت. - هل تمتعت بطفولة سعيدة؟ - تمتعت بطفولة نشطة، كما يمكنك أن تستخلص من خلال سيرتي الذاتية التي سيكتبها «هيرميوني ليي» فيما بعد.
كان لي سبعة إخوة وأخوات: شقيقان، شقيقة، أخوان غير شقيقين، وأختان غير شقيقتين. ولا غرابة إذن أن بدت أمي مشغولة طوال الوقت.
عشنا في لندن، ولذا اعتدنا أن نؤخذ إلى حدائق كنزنتون لمشاهدة تمثال «بيتر بان»، وقرأنا الكثير من الأعمال مثل «الكنز الذهبي»، بل وأنشأنا صحيفتنا الخاصة. كان اسمها جريدة «بوابة هايدبارك» (ما زلت أحتفظ بها، كنت أنا من كتب معظمها). أتذكر حين كنت صغيرة جدا، ألعب أسفل طاولة غرفة الطعام مع شقيقتي فانيسا. كانت تسأل عن أشياء مثل: هل للقطط السوداء ذيول؟ أو تتساءل عما إذا كانت السماء متشابهة في كل مكان.
في الصيف ذهبنا جميعا إلى سانت أيفز وعشنا في منزل كبير جوار البحر. (كتبت عن فصول الصيف تلك في رواية «صوب المنارة»). كنا نخرج للعب باصطياد اليعاسيب والفراشات.
قبل موتي بدأت أكتب عن ذكرياتي الأولى، واكتشفت أنني أتذكر بوضوح مراحلي الأولى حين كنت طفلة في روضة أطفال سانت أيفز، أصحو مبكرا في الصباح، أستمع إلى صوت البحر، فيما أفكر أن هذا الصوت هو «المتعة الصافية» التي يمكنني أن أستقبلها.
وهكذا يمكن أن أقول، نعم كانت طفولتي سعيدة! (إلى أن ماتت أمي، ولكن هذه قصة أخرى). - هل كانت تأتيك الأفكار الأجمل للروايات في الريف أم في لندن؟ - كلاهما ألهمني. وجدت لندن مفعمة بالبهجة كما يمكن أن تلمس من «مسز دالواي».
في مقالتي «الشوارع الساحرة»، تكلمت عن شوارع لندن التي أحببت السير فيها شتاء. تكلمت فيها عن هواء لندن المنعش والنزعة الاجتماعية التي تسود شوارعها. المشي في لندن يشبه المشي على بساط سحري. أنتجت الكثير من رؤاي هكذا، إيقاع السير يضبطني على إيقاع الكتابة.
هناك كتاب للكاتبة «جين موركرافت ويلسن» عنوانه: «فرجينيا وولف: حياتها في لندن: سيرة المكان»، وفيه رسمت الكاتبة خريطة لجولاتي! ليس فقط جولاتي، بل بعض جولات شخوص رواياتي أيضا.
زوجي ليونارد كان يعتقد أني أغدو أضعف وأقل مقاومة للمرض حين أكون في لندن، ولهذا كنا نعود أدراجنا إلى بيتنا الريفي في سسيكس، بيت الرهبان، الذي دائما ما كان هادئا ومريحا. كثيرا ما كتبت هناك في الحديقة حين كنت أرغب في الهروب من ضوضاء لندن وطابعها المثير، كنت أترك نفسي تغرق تماما داخل عقلي حتى تأخذ أفكاري في التكون. أفترض أن مفتاح الكتابة يكمن في أن تكون وحيدا، ولهذا حتى حين أكون في لندن وأفكر في عملي أخرج وحدي في نزهات خلوية. - ساعدت كتبك الكثير من مرضى الاكتئاب والقلق العقلي؛ حتى غدوت «صوتا» للبشر ذوي الآلام العظمى. عندما رحلت، هل كنت تشعرين قبلها أن لا أحد هناك يمكنك الحديث معه، أو أن أحدا لا يفهمك؟ - أنا مندهشة ومسرورة أن كتبي ساعدت البشر المكتئبين! لم أفكر مطلقا أن تكون لكتبي تلك الوظيفة. كان ينتابني القلق بشدة حين أضطر للكتابة عن الاضطرابات العقلية، وأجفل من خوض تلك المسالك.
لم ينتبني القلق في الواقع من عدم وجود أحد أتكلم معه حين فكرت في الموت. لأن انهياراتي النفسية لم تكن وليدة حزن أو قلق، لكنه الخوف المروع من مرض لا شفاء منه. شرحت الأمر لزوجي بوصفه «مرضا فظيعا». حين مرضت في الماضي كان هناك الكثير من الناس يحاولون المساعدة، لكنني كنت أشعر أن أصواتا كثيرة غير موجودة تغمرني.
الشيء الذي أحبطني حقا هو حين بدا لي أنه لم يعد هناك قراء لأعمالي. كثير من أصدقائي بدءوا يموتون، وشعرت فجأة أني أحيا في عالم بلا قراء. كأنه عالم بغير «صدى». ما جدوى الكتابة في عالم بلا قراء؟ (في واقعكم الآن يمكن أن أرى كم كان القياس خاطئا بمجرد إلقاء نظرة على حياتي منذ موتي.)
لكن لا، لم أشعر حقيقة أن ليس هناك من أكلمه. على العكس: أحسست أنني سأدمر حياة هؤلاء القريبين مني إذا ما تركت هذا المرض المروع يصرعني ثانية. في الورقة التي تركتها لزوجي ليونارد قلت له: «أعرف أنني أخرب حياتك ... كل شيء ضاع مني ما عدا اليقين بطيبتك.»
لهذا بوسعي أن أقول إنه كان لدي بالفعل كل شيء يمكن الحياة من أجله. - ما هي الدلالة وراء «اللغة السرية» التي تشاركت فيها مع ليونارد؟ ولماذا اتخذت شخصيات الحيوانات؟ هل كانت محاولة لخلق حالة عزلة وخصوصية؟ - أظن أن كل الزوجات والأزواج لديهم «لغة سرية» خاصة بهم، حتى وإن لم يدركوا دائما أنهم يتكلمون بها. تتزايد الشفرات والرموز بين الناس، وهم يطورون طرائقهم الفطرية في التواصل فيما بينهم.
حاولت أن أظهر هذا في رواياتي، وأظن أنني بذلت اهتماما بذلك في روايتي الأولى «الخروج في رحلة بحرية» حين صورت مدام ومستر آمبرووز فيما يتكلمان سويا بمعزل عن الناس، وكذلك راشيل وتيرينس وهما يجتهدان أن يؤسسا شفراتهم الخاصة بينما يتعارفان.
هل تعرف في أي قصة قصيرة حاولت اختبار هذا الأمر بدقة؟ إنها بعنوان «لابين ولابينووفا». كانت كتبت قبل عام 1919م، سوى أنها لم تنشر حتى عام 1938م، وهي تحكي الحياة الخيالية السرية التي تعيشها زوجة تزعم أن زوجها أرنب وأنها أرنبة. الزوج أصابه الملل من وطأة الوهم، ثم أوقفه، وكان في هذا نهاية الزواج. ما أعنيه أن تلك الشفرات والرموز والأسرار المشتركة تحفظ العلاقات وتساعدها على البقاء. حتى وإن بدت للآخرين شيئا شاذا غريبا.
ليونارد وأنا احتوانا زواج حميم للغاية، بالرغم من كل الكلمات الخبيثة التي قيلت دائما حول برود علاقتنا وفتور مشاعري. ربما قرأت شيئا عن الإشارات الكثيرة في رسائلي القديمة ومذكراتي حول أسماء حيواناتنا الأليفة والألعاب التي مارسناها مع حيواناتنا. ما زلنا نحتفظ بكل هذا في السنوات الأخيرة. وما زلت أتذكر الضجة التي كان يثيرها القرد الأمريكي الصغير الخاص بليونارد، وهناك إشارة غامضة حول «المرح الخاص» بشأن هذا الحيوان كتبتها نحو عام 1936م، أي قبل موتي بخمس سنوات.
لهذا أظن أن المرح مع تلك الحيوانات الأليفة يصنع نوعا من مساندة المشاعر وتعميق الحميمية. نعم كانت لنا «لغة خاصة»، بالرغم من أن الجميع يعلمها لأنني كتبت عنها في مذكراتي. - هل لديك أقرباء ما زالوا على قيد الحياة هذه الآونة، وهل يشتركون معك في موهبة الكتابة؟ - نعم لدي الكثير جدا!
شقيقتي «فنيسا بيل» لديها ابنان وابنة؛ جوليان (الذي قتل في الحرب الأهلية الإسبانية)، كوينتين وأنجيليكا.
ابن أختي كوينتين بيل (الذي كتب سيرتي الذاتية) لم يعد حيا الآن، لكن زوجته آن أوليفر بيل هي محررة مذكراتي جميعها (يا لها من مهمة شاقة!)
كوينتين وآن أوليفر بيل كان لديهم ابنتان وابن: فرجينيا نيكلسون، كريسيدا بيل، وجوليان بيل.
جوليان بيل كان رساما وشاعرا وكان ضالعا بقوة في النقد الفني. وأنجز كتابا عن الرسام «بونار» عنوانه «بيير بونار» إصدار دار فيدون. ونشرت قصائده في دار نشر ديل. «كريسيدا بيل» ليست كاتبة، لكنها مصممة مشهورة في فن النسيج، أما «فرجينيا بيل» فكانت كاتبة. ألفت كتابا حول «شارل ستون»، الكتاب الذي بدأ كوينتين في جمعه قبل موته، وأعلم أنها الآن تعكف على تأليف كتاب جديد.
ابنة أختي أنجيليكا تعيش في فرنسا. هي كاتبة أيضا، ولديها كتابان هما «مخدوعون بالطيبة» عن دار شاتو ووينداز، وكتاب «اللحظة الخالدة» عن دار نشر باكربراش في أمريكا. ولديها بنات كثيرات. إحداهن تدعى هنريتا جارنيت؛ وهي مصورة ممتازة، وكاتبة أيضا. وهي الآن تكتب السيرة الذاتية ل «آني تاكيري».
وهكذا ترى أن الكتابة تجري في العائلة! (آمل ألا أكون قد أغفلت أي واحد). - هل تعاملت مع قصصك القصيرة بنفس الجدية التي كتبت بها رواياتك، أم كانت مجرد محاولات تجريبية؟ - كانت محاولات تجريبية، لكنني تعلمت الكثير من كتابة القصص. تعلمت كيف أعيد تشكيل الرواية. لم أتوقع أن تطبع قصصي القصيرة كلها، لكنها طبعت، حتى مجموعتي «الأزرق» و«الأخضر»، اللتين تندرجان تحت أقصر القصص القصيرة التي كتبت على الإطلاق (هل قرأتهما؟ إنهما تجريبيتان للغاية!)
لقد اكتشفت من خلالهما كثيرا من مفاهيم الإدراك الحسي والإدراك التجريدي، خاصة في «كيو جاردنز»، حين تتأمل الناس المارة فيما يتحدثون حولك وكأنك في سرير من الزهور بين الحدائق.
عبر هذا المنظور، يبدو حديث الناس غريبا ومفككا وغير مترابط (نيل، بيرت، لوت، كيس، فيليب، با، هو يقول، هي تقول، أن يقول، أنا أقول ، أنا أقول ...)، وهذا هو سرير الزهور الوحيد الذي يحظى بالتماسك والترابط. تبدو لي الحياة على هذا النحو، بصدق، إنها الطبيعة وحدها التي تملك الترابط، بينما نحن عشوائيون، بالرغم من التحكم الذي نحاول أن نمارسه على حياتنا عن طريق كل الحكايات التي نحكيها.
في كل من قصتي «العلامة التي على الجدار» و«رواية لم تكتب بعد»، تجد أن سلطة الراوية واهنة ومقوضة. القصة تبدو منطقية، لكن حين نصل إلى النهاية، تبدو القصة شيئا مختلفا تماما. وهكذا تجد الكثير من الخدع واللعب في قصصي، بشكل أو بآخر، غير أنني أيضا أطمح خلالها في تصوير العالم بالألوان الطبيعية. - هل تعتقدين أن مقالاتك كانت على نفس المستوى من القوة مثلما لكتابتك الروائية؟ - لقد قضيت وقتا طويلا في تجويد تلك المقالات، لهذا آمل أن تراها جيدة!
حين كنت صغيرة، كان ينتظر مني أن أستضيف أبي؛ السير ليزلي ستيفن، وأصدقاءه على مائدة الشاي. كان رئيس تحرير مجلة «كورنيل» وأحد محرري المعجم العالمي للسيرة الذاتية؛ لذا كان أصدقاؤه من صفوة المجتمع! مؤخرا، أخذ على مقالاتي طابعها الحكائي الثرثار في تلك الأيام. غير أني تعمدت أن تأخذ الطابع الحواري. أردت لها أن تبدو وكأنها انعكاس لما يفعله الناس حين يجاهرون بآرائهم ووجهات نظرهم حين يتكلمون.
بعض تلك المقالات مهم للغاية من أجل فهم رواياتي، مثل مقالة «الرواية الحديثة»، التي فيها أستكشف فكرة كيفية استحضار وعي الشخوص وأحاسيسهم الباطنة في الرواية. كذلك مقالة «مستر ومسز براون». هل قرأت مقالة «كيف يجب أن يقرأ الكتاب؟» المقالة التي فيها شرحت كيف يمكن للناس الحصول على الفائدة القصوى من القراءة؟
لكنني آمل أن تقرأ المقالات الأخرى ذات الطابع المرح، مثل تلك التي كتبتها عن الممثلة «آلين تيري». كنت متأثرة جدا بقصة حياتها، كانت بحق امرأة لا تتكرر (مرة، في أحد العروض، نسيت كلامها على المسرح، لكنها كانت من التمكن والخبرة والثقة بالنفس بحيث لم يلحظ أحد من الجمهور ذلك). جعلت منها إحدى الشخصيات في مسرحيتي الوحيدة «مياه عذبة». - أي رواية من رواياتك تعتقدين أنها صورت حياتك أكثر؟ - يا له من سؤال شاسع!
وسؤال صعب كذلك. لأنني بالرغم من عقدي العزم أن أخدم بالكتابة القيم الفنية وحسب، وليس اعتبارها طريقة للتعبير والبوح، (تماما كما قلت في «غرفة تخص المرء»)، إلا أن ثمة شيئا مني موجودا داخل كل رواية.
كتابة «غرفة جاكوب» جعلتني أكتشف كيف أبدأ في عمر الأربعين، وأقول شيئا عبر صوتي الخاص.
توقفت عن محاولة الكتابة على طريقة الروائيين «جورج ميرديث» أو «جين أوستين»، وتعلمت أن أستخدم العين الخاصة بعقلي أنا.
كنت أصور المشاهد على ذات النحو الذي يفعله الرسام، مثلما يمكنك أن تلحظ من الطرائق التي وصفت بها المشاهد في أعمالي (آرثر والشاطئ - البحث عن جاكوب؛
3
جاكوب يرى الصخرة التي تشبه على البعد مربيته، غرفة جاكوب الفارغة في كامبريدج؛ المشهد في النهاية، عندما قدمت مسز فلاندرز حذاءه الفارغ). «غرفة يعقوب» كانت مشروعا تجريبيا في الرسم المشهدي، ومن خلالها انعكست اهتماماتي الجمالية في ذلك الوقت.
غير أن ثمة خيطا من السيرة الذاتية في تلك القصة، لأن شخصية جاكوب (يعقوب) ارتكزت في الأساس على شخصية شقيقي «ثوبي» الذي مات عام 1906م بحمى التيفويد، ولم يتجاوز السادسة والعشرين بعد.
رواية «الخروج في رحلة بحرية» تعكس عراكي الثقافي المبكر، وربما تجد شيئا مني في راشيل فينريس، فيما تتعلم كيف تحيا بين جماعة من الرجال المثقفين اللامعين، من دون أن تفقد إحساسها بذاتها.
وأيضا هناك شيء مني في كاثرين هيلبري في «الليل والنهار»، بالرغم من اعتقاد الناس أن تلك الشخصية مرتكزة على شقيقتي فانيسا.
رواية «صوب المنارة» كانت انعكاسا صادقا لمشاعري، لأنني خلدت فيها أبي وأمي في شخصيتي مستر ومسز رامساي. وأيضا «أورلاندو» كتبت من أجل، واعتمدت على، «فيتا ساكفيل ويست»، التي فتنتني وأسرتني.
أعتقد أنه من العدل أن أقول إنني في كل رواياتي، كنت أنهل من ذاتي وفي ذات الوقت أحاول أن أبني هياكل جمالية وفكرية.
وبالتأكيد أنا لا أنتهج في كتاباتي الروائية منهج كتابة السيرة الذاتية، غير أنني أبحر عميقا داخل مشاعري الخاصة قبل أن أكتب الرواية.
وبطبيعة الحال تتغير ذاتي مع كل رواية؛ إذ أختبر أحاسيسي وأعيد ترتيبها على نحو جديد في كل مرة. - هل ترسمين خريطة لروايتك، أم تتركينها تنمو مع تقدمها؟ - هذا يختلف من رواية إلى أخرى. دائما ما تكون لدي خطة من نوع ما للرواية، حتى ولو لم يكتمل المحور الرئيس تماما في التو. حينما بدأت «غرفة يعقوب» كان المحور الرئيسي مفقودا بالنسبة لي، غير أني كنت قد قبضت تماما على الحالة النفسية والمزاجية التي أريدها.
تخيلتها مثل بناء بغير سقالات أو هيكل ... بدا تشكيل الحضور لشخصية جاكوب تدريجيا وساحرا، يلمع مثل النار تحت طبقة من الضباب. كتبت: «دعنا نفترض أن الغرفة سوف تحمل هذا الحضور مجتمعا في الصفحة الأولى من المخطوطة»، ثم تبنيت وباشرت فكرة غرفته كنقطة مرجعية ومتكأ انطلاق للعمل.
بالنسبة لرواية «صوب المنارة» كان لدي أكثر من خطة للمشروع. رسمت شخصية مسز ومستر رامساي اتكاء على شخصية أمي وأبي، خاصة حسب ذكرياتي عنهما خلال إجازاتنا الصيفية في سانت آيفيز، حيث كنا نذهب ونحن أطفال. عرفت منذ البدء أنني أود أن أخلق حالة موت ما. كان لدي، حتى في البدايات الأولى لكتابة الرواية، فكرة تدور حول أب يجلس في قارب فيما ينشد: «سوف نفنى، كل على حدة.» بينما نحن نسحق سمكة ماكريل تحتضر. رسمت مخططا للشكل العام الذي أردته للكتاب؛ كتلتان من الكتاب، الجزء الأول والجزء الأخير يتصلان سويا عبر ممر («الوقت الذي يمر» خلال حلم اليقظة في المنتصف). وهكذا عمدت إلى تخطيط الشكل والهيكل، ثم بدأت بعدة صور قوية. أما ماذا حدث لشخوص روايتي فقد كانوا ينبثقون في رأسي فيما أتقدم في كتابة الرواية.
غير أنك لو زرت يوما مكتبتي الضخمة، لرأيت كم المحاولات التي أنجزها في الكتابة قبل أن تأخذ مسارها المضبوط، يمكنك أن تلقي نظرة على مسودات مخطوطة «صوب المنارة» أو «الأمواج»، وسوف تعرف كم الكتابات التي أخطها قبل أن أنتهي إلى رواية مكتملة! كم هو ضخم! - لماذا غيرت منهجك تماما بعد رواية «الليل والنهار»؟ - كنت مسرورة للغاية من تلك الرواية. فكرت أنها أكثر نضجا بكثير من روايتي الأولى «الخروج في رحلة بحرية». أقترح عليك أن تقرأها إن لم تكن قد فعلت؛ من أجل أن تلمس أفكاري المبكرة عن استقلال المرأة. هذه الرواية تدور حول أيهما أكثر أهمية: أن تكون نفسك من أجل خاطر الآخرين بأن تأخذ هويتك منهم (مثل مسز هيلبري، التي تؤمن بالحب والزواج)، أم أن تكون نفسك من أجل خاطرك أنت (مثل كاثرين التي خالفتها الرأي). أي من الشخصيتين من وجهة نظرك نجحت في انتزاع تعاطفك أكثر؟ ماري أم كاثرين؟
المشكلة أن النقاد كانوا فظين جدا تجاه الرواية وغير متعاطفين معها. إي إم فورستر قال إنها كانت محض رواية كلاسيكية واحتاجت الشخصيات أن تكون جديرة بالحب أكثر من هذا، أما ربيكا ويست فقد قالت إنها رأت عالم الرواية كله غريبا عنها.
حين اشترينا - ليونارد وأنا - دار نشر، وبدأنا في طباعة القصص القصيرة والقصائد الخاصة بأصدقائنا، كتبت وقتها قصة ربما تعرفها وهي «كيو جاردنز». نالت هذه القصة مع «العلامة التي على الحائط» الكثير من الاستحسان والقبول؛ كل واحد بدأ ينتبه أن لي أسلوبا مرنا وانسيابيا في وصل الأشياء معا عبر منظومة بدت أكثر تشويقا عما كان الأمر عليه في أسلوبي الكلاسيكي، ومع هذا لم أكن مقتنعة في بادئ الأمر، وواصلت الكتابة القصصية، فيما أفكر كيف يمكنني أن أجعل كتابتي أكثر مرونة وانسيابية.
ثم كتبت قصة أخرى وهي «رواية لم تكتب بعد» وبدأت أتبين أن بوسعي أن أكتب رواية كاملة على نفس النحو؛ شيء ما ينفتح على شيء آخر. هذا الأسلوب غذاني بالكثير من الأفكار وأفادني في الرواية التي كتبتها بعد ذلك وهي «غرفة يعقوب»، وفي تلك النقطة فكرت أنني أخيرا توصلت إلى كيفية أن أبدأ في قول شيء بصوتي الخاص الخالص.
غير أني ما زلت أحب «الليل والنهار» رغم كل هذا. - هل تعتقدين أن المرأة الكاتبة مطوقة بالبناء اللغوي الذي ينوء تحت ثقل المجتمع البطريركي، أم أن المرأة تستخدم ذات البنية «الذكورية» بنفس الكفاءة لكن فقط عبر طرائق مختلفة عما يقدمها الرجل؟ - أنت تجعلني أشعر أنني من طراز عتيق جدا! مثل هذا السؤال لم يكن مطروحا، ولا يمكن تصوره في زمني. كم أنا سعيدة أن حركات التحرر النسائية قد قطعت خطوات واسعة حتى الآن!
حين كتبت عن حق المرأة في المساواة، لم يكن هذا المصطلح (الفيمينزم
feminism ) قد صك بعد لأفيد منه، ولم أفد أيضا من «جوليا كريستيفا» أو «هيلين سيكسوس».
بالرغم من هذا أفترض أنني كنت أفكر في الطرائق التي من خلالها يتكلم الرجال والنساء حول أغراضهم المشتركة. تأمل «الخروج في رحلة بحرية»، روايتي الأولى، حين كانت مسز آمبروز تتكلم بينما زوجها يكتفي بقول: «هراء، هراء.» وحين كان تيرينس وراشيل يحاولان أن يتعلما اللغة التي يتحدثها العشاق فيما بينهم، غير أن كليهما بدا معوقا ومشوشا للآخر. الجنس والنشاط الجنسي بدا كمناطق محرمة (تابوو)
4
بالنسبة لي، أو موضوعات لا يجوز الخوض فيها من قبلي؛ حتى بدا شخوص رواياتي وكأنهم أحيانا يتكلمون عبر عوالم متوازية.
إنها رواية جديرة بإعادة النظر إليها مجددا. حين أنظر إليها بعد سنوات طويلة من كتابتها، أعتقد أن بها بقاعا لامعة ومناطق أخرى تجعل وجنتي تشتعلان خجلا. ولكن بوجه عام أعتقد أن راشيل كانت بصدد شيء ما، وفي طريقها لتحقيق هدف مهم، لأنها كانت المواجهة الحاسمة للإشكالية: كيف تتعامل مع المسألة الجنسية وتفصح عنها في ظل مجتمع بطريركي حتى النخاع.
في رواية «ثلاثة جنيهات» كنت غاضبة جدا إذ أكتب عن توغل البطريركية. ليس فقط البطريركية التي تمارس على النساء لكن على الرجال أيضا، الذين بدوا لي وكأنهم يفقدون حواسهم ووعيهم حين يضطلعون بوظائف سلطوية في المجتمع.
لهذا بصدق، أزعم أن الإشكالية تكمن في الخلاف والتباين بين لغة القوة والسلطة في مقابل لغة الإحساس والعاطفة، أكثر مما تكمن في الخلاف والتباين بين لغة الرجل ولغة المرأة. أظن أن تلك الفكرة كانت محور «غرفة يعقوب» أيضا.
مستر ومسز رامساي في «صوب المنارة»، كان لدى كل منهما أيضا بنية لغوية متباينة وخطاب مختلف؛ هو أفكاره محصورة داخل قضبان قفص، بينما هي تتكلم لغة العاطفة وتشغلها جماليات العاطفة. ولأنه كان طامعا في القوة والنفوذ اقترب جدا من السلطة الملكية، بينما هي ظلت متخففة من الأسر في منظومة ما وظلت مستقبلة تفعل حدسها وحسب، بعيدا عن دائرة نفوذه.
إذا شئت الحديث عن تأثيري في حركات التحرر النسائية (الفيمينيزم، أشعر بالفخر حين يقول الناس إنني نشطت إحدى تلك الحركات)، وأيضا عن تأثير الفيمينيزم على تأويلات وترجمات أعمالي، تجد مقالا حديثا وجميلا ربما احتجت أن تلقي عليه نظرة. هذا المقال كتبته لورا ماركوس وعنوانه «فيمينيزم وولف، ووولف الفيمينيزم».
5
وهو ضمن كتاب حررته سو روو، بالاشتراك مع سوزان سيللر، وعنوان الكتاب «رفيق كامبريدج إلى أعمال فرجينيا وولف»،
6
عن مطبوعات جامعة كامبريدج، 2000م. هذا الكتاب يستخدم كافة المصطلحات الجديدة ولهذا فهو معاصر جدا. آمل أن تجد إجابات أخرى حول هذا الأمر هناك. - حين استقر في يقينك أنك ذاهبة إلى الجنون، ماذا كان شعورك تجاه هذا، وماذا كانت ردة الفعل؟ - للأسف دخلت للجنون بالفعل مرات عديدة وليس مرة واحدة، (كان مرضا عقليا على كل حال).
المرة الأولى كانت بعد موت أمي، ويمكنكم أن تتخيلوا إلى أي مدى كان اضطرابي وتأزمي وقتها. كانت مرحلة عصيبة ومشحونة للغاية؛ لأن كل العائلة كانت غارقة في الحزن. كنت أشعر أنني على غير ما يرام، كانت حالتي تسوء ونبضي يتسارع، وقلبي يضرب في قوة، لم أكد أتحمل هذا. ولهذا أوقفوا دروسي ولكنهم أيضا أوقفوا كل الأشياء التي أحببت.
من ردود الفعل أنني بدأت أخشى الآخرين، وكنت أحمر خجلا إذا ما كلمني أحد. وكان ما فعلته حيال هذا الأمر هو جلوسي في غرفتي وقراءة أكداس من الكتب حتى بدأت أتحسن. على الأقل حين غدوت كاتبة أفدت جدا من القراءات الكثيرة التي قرأتها.
وعادة ما كان يدفعني للوقوع داخل براثن المرض مجددا وقوع شيء سيئ. ولا بد أن أعترف أنني أحببت القراءة وأنا في حال جيدة، عما كنت أقرأ بينما أنا مريضة.
أتمنى لكم أن تنعموا بحياة سعيدة لتستمتعوا بالقراءة . - لماذا أقدمت على إغراق نفسك في النهر؟ - لقد انتحرت لأنني بدأت أسمع أصواتا من جديد، وكنت أعلم أنني لن أستطيع مواجهة أية انهيارات جديدة.
لكن عن: لماذا أغرقت نفسي، فلست متأكدة الآن من السبب. لا أعتقد أنني فكرت مليا في الأمر قبل الإقدام على هذه الخطوة.
بالتأكيد هناك إشارات عديدة (للبحر) في كتبي، ودائما ما كان البحر شيئا أوليا وأساسيا بالنسبة لي، حيث كنت أستمع إلى صوت الأمواج فيما تتكسر وأنا في فراشي في مرحلة طفولتي الأولى في بيتنا الصيفي في سانت آيفيز.
كتبت قصتين مبكرتين عن الغرق،
7
تراجي-كوميدي، بعنوان «مأساة مروعة في داكبوند» والأخرى في عام 1903م «قصة امرأة غارقة»، التي تخيلتها نفسي. لكنهما في الواقع لما يتعديا الكتابات التجريبية.
أغرقت نفسي في نهر «أووز». أظنني رأيت في هذا حلا فوريا وسهلا، لأنني استطعت الخوض داخل المياه بمجرد المشي إلى حيث أسفل حديقتنا في بيت الرهبان (منزلنا في سسيكس). كان هذا أفضل من أن أخنق نفسي بالغاز في جراج، تلك الميتة التي قررت أنا وزوجي ليونارد أن نموتها في حال غزو الألمان (تذكروا، كان هذا في عام 1939م مع بداية الحرب العالمية الثانية، وكان زوجي يهوديا. فقررنا أن نفتح الغاز علينا سويا حال حدث الغزو).
كان هذا شيئا أحمق بالفعل. لو كنت عشت لكنت سأرى أن الألمان لم ينجحوا في الغزو، وكنت سأرى زوجي وقد نجا من الحرب، وكنت سأرى روايتي «بين فصول العرض»
8
وقد طبعت. كان الغرق بالتأكيد شيئا يجب تجنبه. - كيف انتحرت؟ - أشعر بالعار أن أقول إنني أغرقت نفسي في نهر أووز. وهو نهر يجري حتى أسفل الحديقة في منزل الرهبان حيث كنت أعيش مع زوجي ليونارد في سسيكس.
حين أنظر إلى الوراء الآن، أرى حمق تلك الخطوة. كنت أظن أنني أنقذ زوجي وشقيقتي وأرفع عنهما عبء مساعدتي في مرضي الوشيك، لكنني بالتأكيد قد تسببت في إيلامهما أكثر جراء فعلتي. أما عن كيف انتحرت، فقد أثقلت جيوب ثوبي بالأحجار، ودلفت إلى النهر ببطء حتى انتهت قامتي وانتهت حياتي . تجدون مشهد موتي مصورا كتابيا وسينمائيا في فيلم سيفوز بأوسكار عام 2002م، انتحرت عني في الفيلم الحسناء نيكول كيدمان. - هل استخدمت شخصية «سبتيمس سميث» كأداة لنقد التوجهات الاجتماعية تجاه الخلل العقلي انطلاقا من معاناتك الخاصة من مرض الاكتئاب باي-بولا
Bi-pola ؟
9 - ما هو اكتئاب باي-بولا؟ يجب أن أعترف أنني لم أسمع به من قبل (تذكروا أنني مت عام 1941م، ومرض الاكتئاب لم يكن له كل تلك الأسماء آنذاك).
بالتأكيد كنت أحب دوما انتقاد النظام الاجتماعي الذي اعتاد أن يعامل المرضى العقليين (خاصة المصابين بصدمة القذائف الحربية وهو المرض الذي كان يعاني منه سبتيمس)، على نحو ازدرائي وجاهل.
أحد أهم محاور رواية «مسز دالواي» كان «الطبقية الاجتماعية»، وكان الأطباء المعالجون لسبتيمس من الطبقة الوسطى التي تقلد الطبقة الأعلى وتترفع على من هم دونهم، حتى على هؤلاء الذين يدفعون لهم أتعابهم من أجل العلاج. كانوا يتصورون أن المرض العقلي هو شيء من عدم التحكم الجزئي في النفس، وهذا التصور محض هراء طبعا. الأمور الآن دخلت في مناطق التنوير، هكذا أخبروني.
لم أعرف مطلقا اسما للمرض الذي كنت أعاني منه. كنت أشعر أنني مغمورة بشيء يدق بعنف داخل مخي؛ مثل اصطكاك أجنحة في رأسي، هكذا وصفت إحساسي يوما.
كنت أشعر به مثل مرض عضوي أكثر من كونه شيئا يشبه الحزن أو القلق. أحد الأطباء قال إن الأمر يعود إلى إحدى الغدد الموجودة في مؤخرة العنق، وبقية الأطباء بدوا وكأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.
وعلى هذا أعتقد أن أفضل إجابة على تساؤلك هي: نهلت من خبرتي الخاصة في تجربة مرضي العقلي للكتابة عن سبتيمس و«صدمة القذيفة»
10
التي أصابته، لأرسم كيف كان الناس متحاملين على المرضى العقليين في تلك الأيام وعن مدى الجهل في التعامل معهم، اجتماعيا أكثر منه طبيا. - كيف تعلقين على رسم شخصية مثل «راشيل فينريز» في رواية «الخروج في رحلة بحرية»؟ وأيضا هل تعتقدين أن تلك الرواية قد جسدت المشاعر الداخلية لراشيل فينريز؟ - كان هذا تحديا ضخما. فقد كانت روايتي الأولى كما تعلمون ، وكما هو الحال مع الأعمال الأولى عادة، حاولت أن أضع فيها الكثير من خبراتي الخاصة.
تماما مثل راشيل، ماتت أمي وأنا بعد طفلة، وكلما كبرت وجدت نفسي محاطة بأناس نشطين مبهرجين مثلما كانت شخصية «كلاريس دالواي» (بنيت شخصيتها على شخصية حقيقية هي «كيتي مانكس»)، وكذلك كنت محاطة برجال مثقفين مثل مستر «آمبروز» وزوجته عميقة التفكير «هلين»، التي كانت تشبه إلى حد ما شقيقتي فانيسا.
وضعت الكثير من قراءاتي في رواياتي وكتبي: روايات «جين أوستين»، خطابات «كوبر»، المؤلفون اليونانيون، وخاصة «جي إي موور» في كتاب «مبادئ الأخلاق»،
11
ذاك الكتاب الذي درسه شقيقي «ثوبي» وأصدقاؤه في كامبريدج، وقرأته أنا في المنزل.
12
في عام 1904م سافرت بالبحر إلى إيطاليا وباريس، وفي عام 1905م ذهبت بالبحر أيضا إلى إسبانيا مع شقيقي «آدريان». في عام 1906م سافرت إلى اليونان مع «ثوبي» و«آدريان»، وشقيقتي «فانيسا» وصديقتي «فايوليت ديكنسون»، غير أن تلك الرحلة انتهت بكارثة؛ حيث التقط شقيقي «ثوبي» حمى التيفويد ومات في نوفمبر من نفس العام. ولذا أظن أن توصيف الحمى التي أصابت راشيل كان متكئا في الأساس على تجربتي من مرض «ثوبي» وموته.
هذه الرواية أخذت وقتا طويلا حتى انتهيت منها: شرعت في كتابتها في مايو 1908م وأرسلت بها إلى الناشر في مارس 1913م. أنجزت فيها سبع مسودات، وظللت أغير وأعدل فيها طوال الوقت .
كنت مهتمة ومشغولة بها جدا، ولكنني ظللت قلقة بشأن أسماء الشخوص؛ راشيل كان اسمها أولا «ثنسيا»، ولم أوفق في اختيار اسم مناسب لها. (في إحدى المرات تجولت بين شواهد القبور من أجل شحذ الأفكار، ووجدت سيدة تدعى «تريدسرايد» ... كلا، ربما لم يكن هذا اسمها). كنت أريد لها أن تكون فردا معاصرا، لا بطلة فيكتورية محافظة!
في عام 1909م أرسلت المائة صفحة الأولى إلى زوج شقيقتي «كليف بيل»، الذي أرسل لي العديد من التعليقات الإيجابية. غير أنه قال إني - بسبب تحيزي ضد الرجال - جاءت روايتي تعليمية إرشادية بل وشديدة التزمت أيضا. لهذا مزقت الكثير من أوراق الرواية وأعدت كتابتها.
كنت تسأل عما إذا كنت أعتقد أن مشاعر راشيل الداخلية جاءت مقنعة؛ وأتساءل ماذا تظنون أنتم؟ ربما نجد أن أهم الفصول التي تناولت هذا الأمر هي 20، 21، و22، حين شعرت هيلين أن راشيل قد تخطت حراساتها، فتصادمت مع ريتشارد، دالواي بتوجيه من هيلين الآن غدت حرة في أن تعبر عن أحاسيسها الخاصة.
إذا ما تأملتم مليا (صفحة رقم 200 في طبعة بنجوين) عندما كانت تتحدث مع تيرينس، الذي أبدى ملاحظاته حول أنهم أصبحوا في القرن العشرين، لكن، لعدة سنوات ماضية لم يكن للمرأة أن تأتي من تلقاء نفسها لتتحدث في مثل تلك الأمور. هذه الأشياء كانت تعتمل في خلفية الرواية، كل تلك الآلاف من السنوات من الصمت الشغوف لحياة غير فعالة للمرأة.
تأملوا كذلك الفصل الثاني والعشرين، حين ألقى تيرينس خطبته الطويلة حول النساء بينما راشيل لم تتكلم مطلقا، لأنها أغرقت ذاتها مجددا في سونتات بيتهوفن. أتساءل كيف ترون هذه الأمور؟
أنا شخصيا أعتقد أنني نجحت في بعض المقاطع، وأخفقت في القليل منها. لكن ما كنت أهدف إلى إظهاره: مدى صعوبة أن تعبر المرأة عن حياتها الداخلية في ظل كل تلك القيود وغياب الحرية. - ما هي الدلالات وراء الحفل الذي أقامته مسز دالواي في الرواية؟ - أنا مغرمة بالحفلات. ليونارد كان يعتقد أني أحب الإثارة الفيزيقية التي تحدث خلالها، وهو ما كان يطلق عليه «خميرة وينبوع الضجيج».
لطالما كنت مفتونة بفكرة ما أسميته «الوعي الجماعي»؛ أومن بأن الناس يمتلكون عددا من الأنواع المختلفة من الوعي، و«الوعي الجمعي» - أثناء المحافل - يضعنا في بؤرة الضوء بما يسمح بتدقيق وفحص الناس الآخرين لنا، الأمر الذي يجعلنا نحاول أن نكون بصدق «ذواتنا»، إما على نحو أقل أو أكثر.
تحت وهج أضواء الحفل، يصبح الناس شفافين غير محصنين ويسهل سبر أغوارهم. هذا يجعلهم يبوحون بأشياء عن أنفسهم، وبالتالي يكون هذا منبعا جيدا للكاتب لاختيار شخوص رواياته كلهم من مكان واحد، ويظهر كل أنواع الصفات البشرية من خلالهم. وهكذا حقق المحيط المكثف والقوي للحفل الذي أقامته «كلاريسا» في رواية «مسز دالواي»، توقعاتها من الحفل والإثارة التي أنتجها الحفل؛ ما جعل لكلاريسا وعيا أكثر بذاتها وبالآخر.
في الأساس، كان «للحفل» دور في الهيكل الوظيفي للرواية، هذا الدور الذي بدأ يخفت قليلا عند إعادة الكتابة والتحرير. كانت فكرتي الأولى أن يكون هذا الحفل هو الختام الروحي الصلب للرواية. كان الحفل سيتم رصده من خلال كامل المنزل (يبدأ بالمطبخ حيث مسز كلاريسا، ثم يصعد رويدا إلى الطابق الأعلى). كان هذا سيربط ويضفر الأحداث سويا، ومن ثم ينتهي الحدث على ملاحظات ثلاث، على ثلاثة أماكن مختلفة على سلالم البيت، حيث ثلاثة شخوص من أبطال الرواية كل سوف يقول شيئا ما يلخص به موقف كلاريسا، هؤلاء الثلاثة سوف يكونون ريتشارد، وبيتر، وسالي سيتون.
في النهاية فكرت أنه من الأفضل أن تترك كلاريسا الحفل وتصعد شاردة إلى حيث غرفة نومها؛ كي تتأمل حياتها على نحو أكثر حساسية ووعيا، وبينما تتوجه للحفل ثانية لتنضم إلى ضيوفها، سوف يكون بيتر ولش في انتظارها ليقول: «إنها كلاريسا ... هي التي كانت هناك.» - ماذا كانت أهدافك من وراء «مسز دالواي»؟ - كالعادة، مقاصدي تنبثق بالتدريج مع الوقت أثناء الكتابة. بدأت هذا العمل بكتابة بعض القصص القصيرة، ويبدو أنني تذكرت أنني واصلت الكتابة على نحو ترادفي، بمعنى أنني وجدت أن فكرة رواية «مسز دالواي» قد تطورت وتحولت إلى رواية، وكان هذا غير ما اعتدت عليه مطلقا.
كان من بين هذه القصص واحدة بعنوان «مسز دالواي في شارع بوند». وكانت تبدأ هكذا: «قالت مسز دالواي إنها سوف تشتري القفاز بنفسها. كانت ساعة «بج بن» تدق حين كانت تخطو خارجة إلى الطريق ...»
وهكذا ترون أن التفاصيل مهما تغيرت، تظل الفكرة ثابتة هناك. القصة الأصلية انتهت بمشهد السيدة دالواي في المحل تشتري قفازها. البائعة في المحل تقول: «منذ الحرب لم يعد من الممكن الاعتماد على القفازات مطلقا.» وفجأة يحدث انفجار عنيف في الشارع بالخارج. وبدا واضحا أن كلاريسا تجاهلت هذا الحدث، واستمرت في الثرثرة مع الشخوص الآخرين في الشارع.
بالتدريج، أخذت في تطوير فكرة أن الحرب العالمية الأولى، بوصفها حدثا مروعا، صممت الطبقة البرجوازية الصغيرة أن تتجاهله، وبعد برهة قدمت شخصية «سبتيمس» كمعادل موضوعي للسيدة دالواي.
في يوم 14 أكتوبر 1922م كتبت في دفتر مذكراتي: «مسز دالواي تفرعت إلى كتاب، وأشير هنا إلى دراسة حول الجنون والانتحار: العالم تتم رؤيته بواسطة العقلاء والمجانين جنبا إلى جنب!»
كنت أيضا أريد أن أنتقد النظام الاجتماعي، وأظهر جانبه الأسوأ؛ الهرم الطبقي التراتبي، المتعالين على طبقاتهم، الجهل بالمرض العقلي، خاصة مرض «صدمة القذيفة»
shell shock ، آمل أن تروني قد نجحت. - كيف كانت ردة فعلك تجاه النقد الذي قال إن «السيدة دالواي» رواية حاولت خلق شيء جذاب من شخصيات غير جذابة ومواقف غير جذابة؟ خاصة عبر تيار الوعي. - حسنا، أتساءل ما إذا كنتم توافقون على هذا الرأي. أنا شخصيا لم أر الأمر على هذا النحو مطلقا.
أفترض أن أحد طرائق الاستجابة والتفاعل مع العمل تكون بتأمل الشخصيات المهمشة - غير المحورية - ولماذا هم هناك: على سبيل المثال، هل كانت سالي سيتون غير جذابة؟ وإذا كانت هكذا، ماذا أخبرتنا عن كلاريسا؟
وهناك أطباء سبتيمس على سبيل المثال، كانوا منسلخين
13
طبقيا وغير ودودين وأفظاظا؛ أي إنهم أناس قد يكونون مملين في الحياة، غير أنهم في الرواية يشرحون فكرتي حول كيف كان الناس منعزلين (حتى الأطباء) في تلك الآونة عن المرضى العقليين والنفسيين وعن محنة «صدمة القذيفة».
لمدة طويلة كنت قلقة بشأن مسز دالواي، فكرت أنها ربما تكون كائنا لامعا لكنه خاو، لكنني كنت طامحة أن تغدو، في نقاط التقائها وتقاطعها مع سبتيمس، كائنا جذابا، ليس فقط من أجل التناقض والتباين بينهما، ولكن بسبب بعض اللحظات التي كانا فيها يتوافقان ويتقاطعان.
هل نظرتم في مقاطع صفحتي 3 و75 (طبعة بنجوين، كلاهما مثال على تيار الوعي)، عندما بدا أن كلا من كلاريسا وسبتيمس يمتلكان نفس الإيقاع ونفس المعجم؟
ثم ماذا عن بيتر ويلش؟ أحد النقاد كتب أن طريقته حين كان يجلس ويلعب بتلك السكين طوال الوقت بدت شاذة وجديدة وجذابة!
أنتم تدفعونني الآن إلى التفكير في تساؤل ضخم وفاتن: ما الذي يجعل شخصية ما في رواية ما «شخصية جذابة »؟! - ما هي المدة التي احتفظت فيها بمذكراتك؟ - بدأت بالاحتفاظ بما أكتب من مذكرات منذ أوائل يناير 1897م؛ أي حين كنت في الخامسة عشرة.
كنت بمثابة مؤرخة عائلات غير رسمية، وصفت أشياء وأحداثا مثل اليوبيل الماسي للملكة فيكتوريا، والإعدادات لحفل زفاف أختي غير الشقيقة «ستيللا»، كذلك أشياء من قبيل إعلانات مثل «زوروا محلاتنا في ركن سيرك بيكاديللي، عند موقف الباصات، وتذوقوا شطائرنا الساخنة»، كنت أحيانا أشير إلى نفسي في تلك المذكرات بلقب «ميس جان».
بين عامي 1897م و1909م كنت قد ملأت دفاتر سبعة. كان أول تاريخ مكتوب هو الأحد 3 يناير 1897م، وتبدأ هكذا: «كلنا بدأنا نحقق أرقاما قياسية في بداية العام الجديد: نيسا، وآدريان وأنا. ركبنا الدراجات مع جورجي (أخي غير الشقيق) وذهبنا إلى مستر إستادز (رسام صديق)، لكنه لم يكن موجودا، ومن ثم ذهبنا إلى حديقة باتيرسي ...» واستمر الحديث واصفة حالنا فيما نقود دراجاتنا: «دراجتي كانت جديدة والمقعد كان غير مريح.»
ربما تعرفون أنني ظللت أكتب يومياتي حتى عام 1941م، وحتى في مذكراتي الأولى كتبت عن قراءاتي وكتاباتي، تماما مثلما كتبت عن أحداثي اليومية.
في يومي 18 و19 مارس من عام 1896م كنت أقرأ «حياة كوليريدج»،
14
و«سيلز مارنر» لجورج إليوت،
15
وكتابا بعنوان «حكايات من ثلاث مدن»
16
لهنري جيمس. بعد أسبوعين (في 31 مارس) اصطدمنا به في شارع أكسفورد! (أبي تعرف عليه).
هل تعرفون أن مذكراتي الأولى (من 1897م وحتى 1909م) قد صدرت مجتمعة الآن في كتاب واحد؟ كتاب بعنوان «صبية متحمسة تحت التدريب:
17
اليوميات الأولى لفرجينيا وولف»، تحرير ميشتشيل إيه ليسكا، عن دار هوجارث للنشر، آمل أن تتمكنوا من قراءتها إذا ما أحببتم. - لاحظت أنك تتكلمين دائما في مذكراتك عن نفسك بصيغة «ضمير الغائب» مستخدمة اسم «ميس جان»
Miss Jan . ماذا كان السبب وراء هذا؟ - لا أحد بوسعه أن يذكر! إنه أحد الأمور التي تلتصق بالذهن، لا أحد يتذكر كيف بدأ الأمر، ولا حتى أنا.
لا بد أن للأمر علاقة بحقيقة أن تلك المذكرات واليوميات المبكرة كانت إلى حد ما محاولة لتثبيت وتكريس هويتي، تجربة شخصيات مختلفة عساي أعثر على صوت صاف لكتاباتي.
في نهاية دفتر مذكراتي الأول أتذكر أني كتبت: إن ذاك العام كان بالفعل «أول عام حقيقي معيش في حياتي»، الكتابة تجعل كل شيء يبدو قويا ومشحونا بالعاطفة.
كنت بالفعل أدعو نفسي «ميس جان» منذ عام 1897م (كان عمري وقتها خمسة عشر عاما)، لهذا لا يمكن أن أكون قد أخذت الاسم (كما هو شائع) عن اسم معلمة اليونانية الجميلة «جانيت كيس»؛ لأنني وقتها لم أكن بعد تلقيت دروس اليونانية معها، التي بدأتها عام 1902م.
جدتي كانت تدعى «جين»، لكنني لا أظن أن هذا كان السبب وراء الاسم.
لا بد أنني أخذت الاسم من أحد الكتب التي كنت أقرأ، ربما إحدى الروايات. (اللقب الآخر الذي اعتاد أشقائي وشقيقاتي مناداتي به كان «العنزة»، ولا أذكر كيف بدأ هذا اللقب أيضا!)
لقد جعلتموني في حال تفكير، الآن: أتساءل الآن ماذا لو أن «ميس جان» كانت إحدى شخصيات رواياتي! - هل أنت راضية عن اختيارك مهنة الأدب، أكثر من الرسم مثلما فعلت شقيقتك فينيسا؟ - كان من الواضح في وقت مبكر أن فينيسا ستكون الفنانة في العائلة. كانت بارعة في الرسم حتى قبل أن تتم الخامسة عشرة.
رجل يدعى «مستر كوك» هو من علمها الرسم، ونالت جائزة في مدرسة الرسم التي كانت تتردد إليها.
رأيتها مرة تشخبط متاهة من الخطوط بالطباشير الأبيض فوق باب أسود اللون. كانت تظن أن أحدا لا يرقبها أو يستمع إليها، لكنني سمعتها تقول: «حين أغدو رسامة مشهورة ...»
أستطيع القول إنني توقعت أن أغدو كاتبة. كنت أرسم وأستمتع بالرسم، لكنني كنت أكثر تفوقا في بناء القصص.
حين كنا أطفالا، أصدرنا صحيفة اسمها «بوابة هايدبارك الإخبارية»
Hyde Park Gate News ، وما زلت أذكر أنني التي كتبت معظمها.
حتى مذكراتي الأولى (التي بدأت أدونها في يومياتي التي لم تكتمل بعد: «لحظات الوجود»
Moments of Being )، أنبأت بوضوح عن وعي كاتبة: «حين أتذكر تمددي في مشتل بيتنا في سانت آيفز، أفكر أنني لو كنت فنانة لكنت سأرسم المشهد باللون الأصفر الباهت والفضي والأخضر. كنت سأرسم لوحة لبتلات الزهور الملتوية؛ للقواقع، للأشياء التي يظهر الضوء من خلالها.»
لكن بمجرد أن بدأت أرسم الصورة في ذهني، سمعت أصواتا، مثل نعيق الغربان. ربما هذا ما جعل مني أديبة؛ فأنا أحب الأصوات الخبيئة.
الرسم صمت، مقارنة بما حاولت أن أنقله في رواياتي؛ صوت نقر الكرة فوق المضرب في رواية «صوب المنارة»، ومستر رامساي حين يكسر الصمت عن طريق الصياح بأبيات من الشعر، ومدقات البحر في «الأمواج»، وحين ينادي آرشر على الشاطئ «جا-كوب! جا-كوب» في رواية «غرفة جاكوب».
قلت لفانيسا إنها تنشط حافز الكتابة لدي بلوحاتها، وهي قالت إن قصصي تولد لديها أفكارا للوحاتها. لهذا أنا سعيدة أنني أديبة، غير أن وجود شقيقة فنانة قد ساعدني في الكتابة، ومشاهدة الرسومات بين الوقت والآخر وهبني أفكارا جميلة لرواياتي.
المصادر والمراجع
World Masterpieces V-2-The Norton Anthology.
Woman of Letters: A Life of Virginia Woolf-1978-Phyllis Rose.
Virginia Woolf: A Critical Reading 1975-Avrom Fleishman.
Virginia Woolf: New Critical Essays-1983-Patrecialements & Isobel Grundy.
Virginia Woolf: A Study of Short Fictions 1989-Dean R. Baldwin.
New Feminist Essay on Virginia Woolf”-1981-Jane Marcus.
The Hours-2002-Michael Cunningham.
Moments of Being-1976-Jeanne Schulkind.
Virginia Woolf: The quiet revolutionary - By Michael Cunningham.
Who’s Afraid of Virginia Woolf? Edward Albee’s 1962.
صفحه نامشخص